دروس من السيرة العطرة : يا خيل الله اركبي

دروس من السيرة العطرة : يا خيل الله اركبي
        إنه نداء الحق والقوّة، نداء العزّة والكرامة … نداء كان ينطلق من القلوب المؤمنة التي باعت أرواحها لله عزّ وجلّ استجابة لرسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يُقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} (التوبة 111)، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال 24).
        لكن هذه الاستجابة العظيمة سبقها إعداد نفسي بدأ من أول يوم انطلقت فيه الدعوة إلى التوحيد … إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، الخالق، الرازق، المحيي المميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير … من ذلك اليوم كان المسلم يولد من جديد فتتغير نظرته إلى الحياة، يصبح إنساناً آخر تتجاوز آماله وطموحاته وتطلعاته حدود الأرض … إلى السماء إلى ما عند الله عزّ وجلّ من نعيم ورضى ورضوان. لا تعد الدنيا بزينتها وبهرجها وبهجتها تحتل شيئاً مهماً في تصوره وتفكيره.
        والأمثلة العملية من واقع التاريخ الإسلامي تشهد بهذا وأكثر، فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه كيف كان يعيش في الرق لا يبحث إلاّ عن رضى سيده، حتى أشرق نور الإيمان في قلبه فباع الدنيا كلها وتحمّل عذاب صناديد قريش وطغاتها وجبابرتها … كان يئن تحت صخرة ضخمة في شمس مكة اللاهبة فلا يزيد على قول أحدٌ أحد …
        وهذا سعد بن أبي وقاص الابن الرضي الذي كانت له أماً تحنو عليه ويحنو عليها وكان نعم الابن، ولكنها حينما أرادت أن تقف في طريق الهداية والنور والرشاد وهددته بالامتناع عن الطعام حتى تموت أو يعود عن الإسلام فقال لها قولته الخالدة: (والله يا أمّاه لو كانت لك مئة نفس وخرجت واحدة واحدة ما تركت هذا الدين).
        وكان مصعب بن عمير رضي الله عنه شاباً مرفهاً ثرياً فهداه الله إلى الإسلام فامتنعت والدته الثرية عن الإنفاق عليه حتى إذا هاجر إلى المدينة تاركاً النعيم والترف والرفاهية وينطلق نداء (يا خيل الله اركبي)، فيهب مسرعاً استجابةً للنداء، وينال الشهادة وهو لا يملك شيئاً من الدنيا سوى كساء إذا غطى بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطى بها رجلاه خرج رأسه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام (غطوا بها رأسه واجعلوا الإذخر على رجليه)، أو قال (ألقوا على رجليه الإذخر).
        وكان للأنصار رضي الله عنهم نصيبهم من الاستجابة لله ولرسوله، ففي بيعة العقبة الثانية وقف بضع وسبعون رجلاً يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب، بضع وسبعون رجلاً يقفون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه الدنيا كلها … على حرب الأحمر والأصفر … وماذا لهم إن وفوا ببيعتهم … الجنّة … وقد خطب الشيخ حسن أيوب حفظه الله مرة فوصف البيعة وصفاً حرك المشاعر وألهب الأحاسيس. إنها دعوة إلى قوة الإيمان واستعلاء اليقين، سبعون رجلاً لا تهمهم الحياة الدنيا ولا تخيفهم قوة في الدنيا.
        ونحن نتذكر هذا النداء العظيم من السيرة العطرة لا بد من ذكر قصة (غسيل الملائكة) حنظلة بن أبي عامر، وكان في ريعان الصبا وشرخ الشباب وقد تزوّح ليلة الجمعة قبل غزوة أحد وفي صبيحة اليوم التالي سمع النداء الخالد (يا خيل الله اركبي)، فحمل سيفه إلى ساحة المعركة وأكرمه الله بالشهادة ويقف الرسول يتفقد أصحابه فيرى حنظلة ويقول: (إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن من صحاف الفضة).
        هذه النفوس العظيمة التي حملت الإسلام إلى العالم لم ترهبها قوة ولا سلاح كانوا لا يقابلون عدواً يماثلهم في العدد والعدة، بل كان أعداؤهم دائماً أضعافهم عدداً وعدة حتى لما سمع خالد بن الوليد أحد المسلمين يقول في اليرموك: (ما أكثر الروم وما أقل المسلمين) صاح فيه قائلاً: (ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقتل بالخذلان، لا بعدد الرجال). ولعل أوضح مثال على ذلك يوم بدر حيث لم يزد جيش المسلمين على ثلث جيش الكفار مع اختلاف الإمكانات الحربية، وانتصر المسلمون لأن الله كان معهم.
        لابد لنا أن نتساءل كيف تحققت إرادة القتال في هذه النخبة ـ وكان المسلمون كلهم نخبة وصفوة ـ إنها تربية الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيمان بالله إيماناً صادقاً لا يتزعزع، كان يربيهم على الطاعة والانضباط وقول الحق … كان يربيهم على الرجولة الحقة يشاورهم ويستشيرهم ويسمع لهم حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما رأيت أحداً أكثر مشورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكان من ذلك استشارته لهم عليه الصلاة والسلام يوم بدر حيث قال: ((أشيروا عليّ أيها الناس)) وسمع موقفهم بصراحة ووضوح أنهم معه حتى قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: (فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلَّف منّا رجل واحد).

        عودة إلى سيرة المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم ففيها الشفاء بإذن الله من كل ما تعانيه أمتنا من فرقة وضعف وشتات … {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} (الأحزاب آية 21).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية