حقوق الرعية على الحاكم وحقوق الحاكم على الرعية



سأورد فيما يأتي الواجبات التي على الحاكم القيام بها بموجب العقد بينه وبين الشعب وهي التي أوردها الفقهاء المسلمون في كتب الأحكام السلطانية وهي كالآتي:
1-     حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة أما يمكن أن نعبر عنه اليوم ب (صون العقيدة والشريعة)
2-     تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين (القوي فيكم ضعيف عندي ..)
3-     تحقيق الأمن حتى يعيش الناس في أمن واطمئنان في حلهم وترحالهم.
4-     إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك
5-     إعداد جيش قوي لحماية البلاد من الأعداء الخارجيين.
6-     جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة للقيام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.
7-     جباية الفيء والصدقات وفقاً لأحكام الشرع.
8-     تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
9-     استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال. ويقول في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أرأيتم إن وليت عليكم الكفء هل أكون قد أديت ما علي؟ قالوا نعم، قال لا حتى أنظر في عمله.(المتابعة)
10- أن يباشر بنفسه متابعة الأمور وتصفح الأحول.
وهذه الواجبات العشر يمكن أن تتحقق من خلال تحقيق قواعد النظام الإسلامي الآتية:
أولاً: العدل
وهو الغاية العامة أو غاية الغايات من الحكم الإسلامي. ويقول الدكتور ضياء الدين الريس:" قلّ أن تحدث رجال قانون أو باحثون في أمور الحكم والسياسة كما تحدث علماء الإسلام وباحثون عن العدل وضرورة التزامه ووجوبه على الحكام، وكل من تولى ولاية تتعلق بصالح الجماعة لأن الأمر بالعدل ورد صريحاً في القرآن الكريم ومنها : (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً)
وقد جاء في الحديث الشريف: (لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أحب الخلق إلى الله إمام عادل وأبغضهم إمام جائر) ويقول أيضاً: (ينادي منادي يوم القيامة: أين الظلمة؟ وأين أعوان الظلمة؟ فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلماً أو لاق لهم دواة فيجمعون ويلقون في النار).
ثانياً: المساواة أمام القانون
        والمعنى الأصلي لكلمة "العدل" في اللغة التسوية في المعاملة ولذا فإن دعوة الإسلام إلى العدل والاستمساك به، هي أيضاً، وفي نفس الوقت دعوة إلى المساواة ومن هذه المساواة أمام القانون، وهذا هو المعنى الذي أكده وخصه بالذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطاب ألقاه بعد بيعته فقال:" ألا وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه، وأقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له.  وقد عبّر عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطابه إلى أبي موسى الأشعري حين ولاّه القضاء:" آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك"
ثالثاً: العدل والعمران
          إذا تحقق العدل فيما يتعلق بما للناس من حقوق في أموالهم أو حقوق مترتبة على أعمالهم فإن ذلك يؤدي إلى الإقبال على العمل ويحفزهم عليه والجد فيه ينتج عن ذلك نماء العمران. وهو ما أكده ابن خلدون في المقدمة في فصل عنونه ب " فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران" ومما قاله:" و لا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع، فقد ظلمه، فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، ووبال ذلك عائد على الدولة بخراب العمران"
رابعاً: العدل للأقليات الدينية
        ومن العدل الذي أمر به الإسلام العدل لأهل الذمة، فهم متساوون مع المسلمين في الحقوق وحريتهم في العبادة مكفولة وكذا العقيدة فلا إكراه في الدين، ولم يوجد قبل الإسلام دين ولا قانون أقر مبدأ التسامح كهذا الحد ولم تعرف أوروبا التسامح الديني إلا منذ قرن بل تعرفه حق معرفته إلى اليوم.
خامساً: الشورى
وهي القاعدة الثانية للحكم الإسلامي بعد العدل وقد أوجب الله سبحانه وتعالى الشورى على الأمة في آيتين ورد فيهما النص صريحاً على وجوب اتباع هذا المبدأ. والآية الأولى هي قوله تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) وجاء في تفسيرها أنه إنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالشورى ليتقدي به غيره في المشاورة، وهذا ما أشار إليه أبو هريرة رضي الله عنه بقوله " ما رأيت أحداً أكثر مشورة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم" وقال صلى الله عليه وسلم (ما تشاور قوم قط إلاّ هُدوا لأرشد أمرهم)
والآية الثانية هي قوله تعالى (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) (سورة الشورى آية 38) وكون الشورى أتبت بعد الصلاة وقبل الزكاة يدل على أهميتها الكبيرة، والشورى من الصفات الأساسية الكبرى التي يتميز بها مجتمع المؤمنين.
          وعندما تغيب الشورى والمشاركة في الحكم وما يسمى المشاركة السياسية وتصادر حرية الرأي أو تمنع فإن البلاد تعاني من ضعف شديد تجعلها قابلة للهزيمة من أي عدو لأن الذي يفقد القوة والتماسك في جبهته الداخلية لهو أشد ضعفاً أمام أعدائه. والشعب الذي يدرك أنه لا رأي له ولا حكم لا يمكن الاعتماد عليه في مواجهة الأعداء. ومهما حقق بعض الحكام الطغاة من انتصارات فإن مصيرهم إلى الهزيمة وانهيار دولهم. وقد قالها رسول الجيش الإسلامي ربعي بن عامر رضي الله عنه () عندما رأى التفاوت الطبقي والاستعباد من طبقة لطبقة أخرى (إن قوماً هذا حالهم فمصيرهم إلى زوال)
حقوق الحاكم على الرعية
يقول العلماء إن قام الحاكم بواجباته فله على الرعية عدة حقوق لخصوهاً في النقاط الآتية:
1-     الطاعة، ويؤخذ الأمر بالطاعة من قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (النساء: 59) وجاء في بيعة العقبة الثانية كما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول أو نقوم بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم‏)‏. والطاعة مشروطة في أن تكون أوامر الحاكم في طاعة الله كما جاء في الحديث الشريف (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)
2-     النصرة والتأييد والاحترام والتوقير
3-     النصيحة وهذه من أخطر حقوق الحاكم على الرعية فمن حقه أن يوجه إليه النصح حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك حين قال (الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) والحاكم مهما كان عالماً واعياً صالحاً تقياً لا بد أن يكون بحاجة إلى النصيحة. وثمة اختلاف في طريقة أداء هذه النصيحة فينبغي أن يكون هناك تقدير ممن يريد تقديم النصيحة أن يعرف متى يقدمها وكيف وبأي لغة وبأي أسلوب. ولكن ينبغي أن يكون تناصح بين الحاكم والرعية كما جاء في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى الخلافة: فإن أحسنت فأطيعوني وإن أسأت فقوموني) لم يقل تعالوا إلى سراً وقدموا لي النصيحة. وقد تولى أمور المسلمين حكام لا يرغبون في سماع النصيحة وتوفر حولهم علماء أقنعوهم أن النصيحة في الملأ فضيحة فلا بد أن تكون سراً.
وفي مقابل النصيحة أمر الإسلام الأمة ألّا تسكت على ظلم الحاكم وانحرافه فقد جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم قوله (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)
أحاديث متفرقة حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم:
·       (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك ‏؟ ‏ قال‏: ‏ لا، ما أقاموا فيكم الصلاة لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة‏) ‏
·        وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال ‏{‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين‏.‏ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا‏)‏
·       وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به‏)‏
·       وفي الصحيحين عن الحسن البصري قال‏: ‏ عاد عبد الله بن زياد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه فقال له معقل‏: ‏ إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏: ‏ ‏ (‏ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة‏) ‏ وفي رواية لمسلم‏: ‏ ‏(‏ما من أمير يلي من أمر المسلمين شيئا ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة‏)‏
·        وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏: ‏ ‏ (‏ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه‏. ‏ والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته‏)‏

الحرية:
كلما تذكرت موضوع الحرية السياسية والحرية عموماً لا أستطيع أن أنسى منظر بلال بن رباح رضي الله عنه وهو يجر في رمضاء مكة وتوضع الحجارة الملتهبة على صدره العاري ليقول كلمة الكفر فلا يزيده إلاّ إيمانا ولا يزيد على قول أحد أحد، فأقول ما أعظم الحرية وما أغلى الثمن! والحرية جاءت في قول ربعي بن عامر رضي الله عنه حين سئل ما الذي جاء بكم إلى بلاد فارس، فكان ردّه " إن الله جاء بنا وابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الواحد الأحد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وفي الحديث عن الحرية أتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ...) والحديث عن الحرية يقودنا إلى كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)
·       والحرية تؤخذ ولا تعطى كما جاء على لسان عبد الحميد بن باديس العالم الجزائري رحمه الله حين قالوا له إن جمعيتكم (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) لا تطالب بالاستقلال فقال وهل تعرفون الاستقلال يعطى منّة من الغاصب بل لا بد من أخذه والتضحية من أجله.
·       وعرف الحرية عنترة بن شداد حين طُلِب منه أن يحار أعداء القبيلة وهو عبد رقيق، فقال: العبد لا يحسن الكر وإنما يحسن الحلب والصر) فقيل له كر وأنت حر.
·       وفي موضوع الحرية وجدت عبارات طريفة للدكتور عبد الله بن فهد النفيسي أنقلها لكم من كتابه (الكويت الرأي الآخر) –ولو كتب في بلد آخر لقطعوه إرباً إربا-وفيما يأتي بعض عباراته من الصفحة 15:
·       " يمكن كمّ الفم، يمكن تقييد الأيدي. يمكن الحد من نشاط الإنسان. ولكن لا يمكن توقيف مسيرة الروح. مسيرة الفكرة. ناموس الفكرة، هو ناموس السرعة ككرة الثلج التي تتحول إلى زلزال هاد. من الممكن خنق الإنسان. قتله وسحقه. سيكون ذلك دوماً على مستوى أفقي. ولكن هناك مستوى آخر هو الأهم: المستوى العمودي، أي الاحتكاك المباشر مع الله الأكبر من كل كبير، هذا العمودي لا يستطيع الناس أن يُكسروه أو يسكروه، عندما لا يبقى للإنسان سوى العمودي فحينئذ يكون الأكثر حرية، فالله له وليس سواه وهذا مطلق التحرير. وكم من سجين يجد حريته الحقيقية في سجنه وكم طليق يجد سجنه في حريته. إن أكبر مأساة أن يشعر الإنسان بالسجن وهو خارج جدرانه وهذا ما أشعر به وأنا أقطع المئة خطوة من مكتبي إلى قاعة المحاضرة في جامعة الكويت. كان بإمكاني أن أتبع مبدأ التقية كما يفعل الباطنيون ولكني اخترت أن أموت على الطريقة الإسلامية: غزواً على صهوة الكلمة، لأنني كمسلم أؤمن بأن الكتابة نوع من الشهادة. الكاتب الحقيقي والمفكر الحقيقي هو الذي يذبح بسيف كلماته.

·       إنني ممن يعشقون المفكرين الذين يسيرون على حد الخنجر وأظن أن النوم على حد الخنجر ليس نوماً مريحاً. الكويت اليوم بحاجة لكلمة حرة تضع السكين في قاع جرحه وأتصور أن هذا الكتاب هو جزء من الكلمة الحرة التي يجب أن تقال. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية