نزيف العقول او هجرة الأدمغة


بسم الله الرحمن الرحيم 

                                                 
أو تنزف العقول أي تسيل قطرة قطرة حتى تفرغ من محتواها كما تنزف الجراح؟ ياله من مجاز عجيب!!! نعم تنزف العقول فتنتقل من مكان إلى مكان،  وتنزف العقول وتنضب وهي في مكانها. وتنزف حتى تدفن، وكأنّي بها كما قال أحدهم " تموت الأشجار واقفة" وتموت العقول دون أن تهاجر. ولكن النزف دائماً يحمل معنى سلبياً ؟ فهل نزيف العقول أو الأدمغة العربية المسلمة سلبي كذلك؟ الأمر فيه تفصيل ولا شك.

قبل سنوات أوردت الصحف خبراً مفاده أن المؤسسات السينمائية الغربية تطالب السينما المصرية أن تدفع لها مبالغ مالية ضخمة بسبب (اقتباس) أو (سرقة) الأفكار من السينما الأمريكية. فتساءلت من الذي يطلب التعويض من الآخر الذي قدم سينما قائمة على تشجيع الانحلال والعنف والقتل والفساد الأخلاقي فأخذ بعض الأغبياء تلك الأفكار؟ نحن الذي يجب أن نطالب الأمريكان بتعويضات عما فعلت وتفعل أفلامهم في أبنائنا وبناتنا وأجيالنا الحاضرة والمستقبلة. وثمة أمر آخر أليس من حقناً أن نطالبهم بأن يدفعوا تعويضات عن خسائرنا من العقول التي انتقلت من بلادنا بعد أن أنفقت دولنا عليها المبالغ الطائلة؟

ولنعد إلى تعريف النزيف. فقد قلنا إنها تنزف بالانتقال من مكان إلى آخر وتنزف وهي مكانها حين يحبس عنها الهواء فتجمد وتعيش كما قال أحد الزعماء ذات مرة فتعيش حياة بيولوجية. يعيش الأستاذ في مكانه محروماً من الإنتاج محروماً من الفرصة أن يتطور وأن يزيد قدراته العلمية. أليس هدراً لطاقة الأستاذ حين يطالب بالمراقبة ثلاث ساعات ولمدة ثمانية أيام في كل فصل دراسي بحجة أن الامتحانات هكذا: لجان تجمع الطلاب جميعاً وعليه أن يشترك في المراقبة؟ أنا أقوم بتدريس مادتين أو ثلاثة فأراقب هذا العدد فقط ومعي من يساعدني من المعيدين أو المحاضرين أو زميل آخر. لقد أحصيت ذات مرة قضية المراقبة فوجدت أننا نهدر آلاف الساعات من أوقاتعلماء يمكن أن يقضوها في البحث العلمي المفيد.

وكيف يزيد قدراته العلمية وهو لا يعرف ما هي المنح الجامعية التي تعطيه الفرصة لإجراء بحث؟ ولا يعرف فرصة أن يكون أستاذاً زائراً في جامعة أخرى؟ وكيف يزيد قدرته ويعامله الإداريون في جامعته دون احترام؟ يظن ذلك الموظف المسكين أنه يسدي للأستاذ معروفاً حين يقوم بواجب من واجباته؟ والأنكى من ذلك أن الأستاذ يعامل من بعض المسؤولين في الجامعة معاملة تدمي الكرامة فلا يردون على خطاباته حتى يزعم مسؤول ما " إننا إذا لم نرد فمعنى ذلك الرفض" وعدم الرد يبعدهم من الوقوع في الحرج والتساؤل: لماذا رفضتم؟ إن هذا العقل سينزف أو يتجمد في مكانه لأنه لم تتح له فرصة أن يعيش. أليس منزفاً للعقول أن يعجز أستاذ عن الحصول على موعد لمقابلة مسؤول معين في جامعة ما؟ يقال له" أبواب الجامعة مفتوحة" فيرد الأستاذ وهل الجامعة جامعة إن لم تكن أبوابها مفتوحة؟

 أليس موتاً أن يبقى الأستاذ في جامعته يدرس القاعات التي تضم مئات الطلاب فلا يكون له هم إلاّ كيف يمضي يومه حتى إذا انتهت المحاضرات عاد إلى بيته ليلتقط أنفاسه؟ وقد نظرت في وجوه أساتذة إحدى الكليات في إحدى جامعاتنا فرأيت موتاً، والله رأيت موتاً ؟ إن للحياة رونقاً وجمالاً وبهاءً؟ ولكن هؤلاء الأساتيذ كأنهم من عالم آخر. وقد جلست إلى بعض الأٍساتذة في تلك الكلية فإذ بهم لا يتجاوز حديثهم القضايا المادية البحتة في الحياة أو في التدريس من عدد الطلاب الكبير وطريقة السيطرة على القاعات أو طريقة أخذ الحضور أو تصحيح الواجبات؟ ورأيت أساتذة يعيشون سنوات دون أن يتذوقوا حلاوة التدريس في الدراسات العليا حين يكون الطالب شريكاً للأستاذ في المادة فيفيد الأستاذ من قدرات طلابهم ونشاطهم وعلمهم.

 أليس نزيفاً أن يعيش الأستاذ في جامعة واحدة طوال حياته. أعرف العشرات وهناك المئات والآلاف الذين درسوا المرحلة الجامعية والدراسات العليا وعملوا بالتدريس في جامعة واحدة. ربما لم يدخلوا حتى قاعات جامعة أخرى، بل بعضهم لم يقف محاضراً أو مستمعاً في غير جامعته حتى إنني أطلقت على ذلك – معاطن الإبل- وهو الأمر الذي يذكرني بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل صلاتين في مكان واحد.

نعم بقدر ما هو مزعج وخطير أن تنزف العقول من مكان إلى مكان فالأخطر أن تنزف وهي في مكانها. ألم تتكلف خزينة الدولة أموالاً كثيرة لإعداد الأستاذ الجامعي؟ إنه حين كان معيداً فمحاضراً ألم يتقاضى رواتب وهو يدرس؟ ثم ألم نُعُدّ له المكتبات والرحلات العلمية وننفق على الأساتذة المشرفين حتى يصبح أستاذاً ؟ ثم تمر عليه الأعوام بعد أن يأخذ درجة (الأستاذ المساعد) ولم يقدم بحثاً ولم يعد محاضرة عامة أو حتى خاصة؟ لم يكتب مقالة علمية أو غير علمية؟ لم يتحدث إلى إذاعة أو تلفزيون؟ أليس هذا عقلاً نازفاً؟

وتنزف العقول حين تنتقل من الجامعة لتجد الأستاذ يقضي وقتاً طويلاً في أعمال لا علاقة لها بالعلم كأن يشرف على ورشة لإصلاح الإطارات؟ أو تجده في سوق العقار يشتري ويبيع. لقد سمعت عن أساتذة جامعات في دولة عربية شقيقة أنهم يقودون سيارات الأجرة بعد انتهاء محاضراتهم. ذلك لأن الرواتب لا تكفي أن يعيشوا حياة كريمة. 

وتأتي الفرص لعدد من الأساتذة لينتقلوا من الجامعة إلى القطاع الخاص أو حتى القطاع العام حيث يجد الأستاذ شيئاً من الاحترام والتقدير ويكون في مكان يعيش فيه حياة كريمة. وليت عندنا دراسات حول هذه المسألة؟ لنعرف حجم هذا التسرب من الجامعات إلى خارجها؟ وكأنني بالأستاذ الجامعي الذي لا يغادر الجامعة كما يقال في المثل العربي "لا يقبل الضيم إلاّ الأذلان" أو كما قال أحدهم عن فأر لم يغادر البيت رغم عدم وجود طعام فيه إنه لا يغادر حباً للوطن.

سأترك الحديث عن النزف الداخلي إلى النزف الخارجي، لقد عجبت وأنا أرصد بعض السير العلمية لعدد من المستشرقين فوجدت أن الأستاذ الجامعي هناك له من الإنتاج ما لا يعادل إنتاج عشرة أو حتى مائة من أساتذة الجامعات في عالمنا العربي الإسلامي؟ فتعجبت هل هؤلاء خلقوا من طينة غير الطينة التي خلقنا منها؟ ولكني رأيتهم وجلست إليهم وتحدثت فوجدتهم مثلنا- والله بشر مثلنا- وقد سافرت إلى نيويورك من المدينة المنورة ثلاثة أيام فقط فحضرت ندوة شاركت فيها، ثم حضرت محاضرة لأستاذ زائر – ورغم تغير الوقت وتعب السفر- شاركت في النقاش، ثم في اليوم الثالث حضرت نشاطاً لطلاب اللغة العربية وشاركتهم في ساعة التدريب على الحديث باللغة العربية، كما زرت عدداً من المكتبات العلمية وزرت الأسواق لشراء هدايا لأبنائي. فهل كنت أنا غير أنا في تلك الأيام؟

أعرف أستاذاً زار جامعة أمريكية فحضر أربعة محاضرات عامة في خلال أربعة أسابيع وقابل عشرات الأساتذة وكل مقابلة كانت مدتها ساعة أو يزيد. فهل تغيّر تكوين الأستاذ الجامعي حين انتقل إلى العالم الآخر؟

ونتساءل هل للنزيف بأنواعه أضرار؟ نعم وألف نعم له أضرار إذ نهدر ثرواتنا ولا نفيد منها الفائدة الحقيقية. إنها تضيع من الجامعة التي أنفقت الكثير لإعداد هؤلاء الأساتذة ليعملوا في مكان يمكن أن يقوم فيه من هو أقل منهم. أعرف صاحب دكتوراه في القانون يعمل في مجال يرأس مجموعة من العمال والإداريين العاديين ولا يمكن لذلك العمل أن يحتاج إلى أن يكون وصل إلى الدكتوراه ثم تركها. ولكن الراتب المغري والامتيازات في العمل الإداري الخاص هي التي أغرته.

ومن أضرار نزيف العقول أننا ندعم الأعداء بعقول أبنائنا ونحن نعيش في مرحلة النمو والبناء وإذ بهذا النزيف يحولنا إلى مرحلة الهدم أو حتى أحسن الفروض يجعلنا في مرحلة الجمود.

وماذا يمكن للإنسان أن يوصي هنا غير أن يسأل الله عز وجل أن يبصرنا جميعاً بالحق وأن نكون ممن يتبع الحق. ثم أسأل الله أن لا نكون قد وصلنا إلى مرحلة توسيد الأمور إلى غير أهلها. وأن ينظر في كيفية أن يعيش الأستاذ الجامعي حياة كريمة لا يحتاج إلى أن يكون بنشرجي أو غسّال  ولا ينظر إلى ذلك المغني الذي كان يكوي الملابس فيحسده على الأموال الطائلة والاحترام الذي يلقاه في مجتمعه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية