الاستغراب

                            الاستغراب (* )
ظهرت قبل سنوات دعوة في العالم الإسلامي إلى دراسة الغرب أطلق عليها الدكتور حسن حنفي الاستغراب وأصدر كتاباً ضخماً بعنوان ( مقدمة في علم الاستغراب) وقد اهتمت الصحافة الخليجية بهذا الموضوع وجاءت هذه الأسئلة وفيما يأتي الإجابة عنها. 
س1: ما هو الاستغراب؟
       يمكن تعريف الاستغراب أسوة بالاستشراق فنقول هو طلب علوم الغرب أي دراسة الغرب (أوروبا وأمريكا بما في ذلك روسيا وأوروبا الشرقية) من جميع الجوانب: لغة ،وعقيدة، وتاريخاً، واجتماعاً، وسياسة، واقتصاداً. ولا بد أن نفرّق بين مصطلحين هما : التغريب والاستغراب فالتغريب هو ما حاول الغرب أن يفرضه على الشعوب الإسلامية من تبني الفكر الغربي والمناهج الغربية والطروحات الغربية في شتى مجالات الحياة ؛في السياسة ،والاقتصاد، والاجتماع ، والعمران.  أو هو سلخ الشعوب من هويتها الأصلية إلى هوية غريبة عنها هي الهوية الغربية.وأطلق على من تبنى الفكر الغربي متغربين أو مستغربين أي مالوا إلى الغرب. ولكننا هنا نقصد دراسة الغرب دون التنازل عن الذات.
 
س2: هل هناك بدايات للاستغراب( نظرة تاريخية مختصرة)؟
ج  : إذا أردنا التاريخ البعيد لدراسة الغرب فإن ما قام به العلماء المسلمون في بداية الحضارة الإسلامية من ترجمة الكتابات اليونانية في شتى المجالات ودراستها والتعليق عليها بالشرح والنقد فإن هـذه البداية، بدأت متواضعة في الدولة الأموية ثم قويت وأصبحت حركة قوية في العصر العباسي في عهد المأمون ومن بعده.
        أما الاستغراب الحديث فيمكن أن تكون بدايته تقريباً مع رفعت رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وبعض العلماء الأتراك والسفراء والأدباء والمفكرين. وظهر مستغربون معاصرون منهم من تمسك بالهوية الإسلامية ومنهم من تخلى عن هذه الهوية . ومن هؤلاء على سبيـل المثال:طه حسين، وأحمد أمين ، وأحمد لطفي السيد ،ولويس عوض ،وغالي شكري، وتركي الحمد، و هشـام شرابي ، وهشام جعيِّط ،و محمد عابد الجابري  وسعيد السريحي وعبد الله الغذامي وغيرهم .
س3: ولماذا الاستغراب كأسلوب معرفي؟
ج : الاستغراب إنما هو أداة ووسيلة لمعرفة الغرب ، فنحن نردد دائماً" اعرف عدوك " فالاستغراب هو الوسيلة لمعرفة الغرب في جميع الجوانب.وما دام الغرب هو الذي تسود حضارته في العالم في العصر الحاضر فلا بد من هذه الوسيلة لمعرفته.
 
س4:هل الاستغراب رد فعل على الاستشراق ؟
ج  :اللفظ يدل على أنه كذلك ولكن في واقع الأمر لا ينبغي أن تنطلق أفعالنا من رد الفعل على غيرنا . يجب أن تكون لنا مبادراتنا في دراسة الغرب لأن بقاءنا في دائرة رد الفعل يفقدنا القدرة على التأثير فيما حولنا ويفقدنا القدرة على الريادة والإبداع.
 
س5: هل يمكن الاعتماد عليه كسلاح لمواجهة الاستشراق ؟
  ج:مواجهة الاستشراق تحتاج منّا إلى أكثر من سلاح أحدها متابعة الاستشراق أو الدراسات العربية الإسلامية أو دراسات الشرق الأوسط التي تتم في الجامعات الغربية متابعة دقيقة بالتعرف على نشاطات الغربيين في هذا المجال والمشاركة في النشاطات العلمية من ندوات ومؤتمرات ومحاضرات والاشتراك معهم في مجلاتهم الدورية   . كما يمكن مواجهة الاستشراق بالقيام بنشاطات مماثلة بأن تكون لنا ندواتنا ومؤتمراتنا ومجلاتنا الدورية التي نقدم فيها الإسلام للعالم بأسـلوب علمي متزن . فقد تغـلب علينا الغرب بقدرته على الوصول إلى المثقفين في أنحاء العالم فأصبحت النظرة للإسلام نتيجة ما يقوله الغرب عنه.
 
س6: ما أهمية الاستغراب وفوائده؟
ج  : قيل " المعرفة قوة" ونحن أمة العلم فأول كلمة نزلت من القرآن الكريم هي (اقرأ) وأقسم الله سبحانه وتعالى بالقلم( ن والقلم وما يسطرون )وقرن سبحانه وتعالى العلماء مع نفسه في قوله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط} . ودليلنا على ضرورة المعرفة أن القرآن الكريم ذكر أهل الكتاب عموماً وخص بني إسرائيل بآيات كثيرة ، كما تناول النصـارى وموقفهم من عيسى عليه السلام ومن المسلمين .وتناول القرآن الكريم الجاهلية وعقائدهم وسلوكهم الاجتماعي والاقتصادي. وتناول نموذجاً من الجاهلية السياسية كما في مثال فرعون الذي ورد ذكـره أكثر من سبعين مرة.  وتكمن أهمية علم " الاستغراب" وفوائده فيما قدمه حسن حنفي في مقدمة كتابه (مقدمة في علم الاستغراب) كما يأتي:
1- مهمة علم الاستغراب هو فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر ، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس ، وتحويل الشعوب غير الأوروبية من مستهلكة للثقافة والفن والعلم الأوروبي لتقوم بإبداعها الخلاّق.
2- القضاء على المركزية الأوروبية 000 ورد ثقافة الغرب إلى حدوده الطبيعية بعد أن انتشر خارج حدوده إبان عنفوانه الاستعماري من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام وهيمنته على وكالات الأنباء ودور النشر الكبرى ومراكز الأبحاث العلمية والاستخبارات العامة.
3- إنهاء أسطورة كون الغرب ممثلاً للإنسانية جمعاء وأوروبا مركز الثقل فيه ، تاريخ العالم هو تاريخ الغرب، وتاريخ الإنسانية هو تاريخ الغرب ، وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة الغربية . وحتى الحروب الأوروبية هي حروب عالمية ...الخ.
 
س7 : ما هي الضوابط التي ينبغي على المستغربين الأخذ بها؟
ج   : أول هذه الضوابط هو معرفة الإسلام معرفة عميقة، والاعتزاز بالإسلام؛ فأي دراسة للغرب دون هذه المعرفة العميقة فسوف تتسبب في إصدار أحكام قد تكون خاطئة. فالإسلام هو الميزان والمعيار والمنهج وكما قال الله عز وجل:  {لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا} والجهل بالإسلام أو عدم الاعتزاز به قد يقود إلى ما أسماه حسن حنفي ( الاستغراب المقلوب) وشرح ذلك بأن المفكر والبـاحث المسلم يصبح أسير النظرة الأوروبية إلى الإسلام وتراثه وثقافته. فتصبح النظرة للإسلام من خـلال التراث الغربي في أحد مذاهبه مثل الشخصانية  أو الماركسية..الخ . وقراءة التراث الإسلامي من منظور الجزء الدخيل مما يطمس خصوصية التراث المقروء. وهذا ما حدث في كتابات هشـام جعيّط مثلاً أو كتابات محمد عابد الجابري للعقل العربي أو محمود إسماعيل للتاريخ الإسلامي وصادق جلال العظم في كتابه (نقد الفكر الديني) وغيرهم كثير.
        ومن الضوابط أيضاً أن يتحرى المسلم العدل في نظرته إلى الحضارة الغربية وهو أمر أساسي في تربية المسلم حيث يقول الله عز وجل{ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} وقول الله تعالى{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله بالقسط ولو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين} والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها- كما جاء في الحـديث الشريف- فلا بد أن نعترف بأن  للغرب إيجابيات كثيرة ينبغي أن نتعلمها منه، وأن ننظر إليه وفقاً للمنهج القرآني كما قال الله سبحانه وتعالى{ وإن من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلاّ ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}
       ومن الضوابط أيضاً إتقان اللغات الأوروبية فلا يكتفي الباحث بما ينقل إليه مترجماً فلا بد أن يعرف لغة القوم معرفتهم لها أو أحسن حتى يفهم ما يقولون ويكتبون فهماً صحيحاً.

س8 :هل يمكن الإفادة من الطلبة الذين درسوا في الغرب في مجال التعرف على الغرب؟
ج  : يمكن ذلك فمعرفة الغرب من خلال المعايشة من أفضل وسائل المعرفة فإن الإعلام أو الزيارات السريعة لا تقدم معرفة عميقة أو دقيقة. ويمكن ذلك بتوجيه الطلاب لدراسة قضايا في المجتمـع الغربي أو علم النفس مطبقاً على الغرب أو الاقتصاد أو السياسة أو الانثروبولوجي أو غيره من المعارف. ويمكن للطلاب المبتعثين إلى الغرب أن يفيدوا من وسائل البحث العلمي المتوفرة في الغرب. وكما قال إدوارد سعيد لبعض الطلبة اللبنانيين " ادرسوا لبنان إذا رجعتم إليه ولكن هنا -في أمريكا- ادرسوا القضايا الأمريكية."
     وهذا يذكرني بالطالب الياباني الذي صنع أول محرك كما أورد قصته الشيخ محمد عقيل موسى في كتابه (الهمّة) فنحن بحاجة إلى طلاب يعون رسالتهم تمام الوعي لنفيد من وجودهم هناك.
 
س9:هل تقترح إنشاء مؤسسات للاستغراب وما هو تصوركم لعمل تلك المؤسسات؟
 ج  : لقد قدّم الدكتور السيد الشاهد اقتراحاً مفصلاًَ في صحيفة "مرآة الجامعة"-التي تصدر عن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية-  قبل عدة أعوام كما كتب حول الموضوع في مجلة الاجتهاد وفي صحيفة المسلمون . كما قدم الدكتور حسن حنفي في كتابه ( مقدمة في علم الاستغراب) تصوراً مفصلاً لهذا العلم .وإن لم أجد خطوات عملية . وحبذا لو قامت إحدى الجامعات بتكليف بعض أساتذتها لإعداد تصور عملي لدراسة الغرب، وإنني أعتقد أن الأسس النظرية لهذا العلم موجودة ولم يبق إلاّ الخطوات العملية للتنفيذ .أما إنشاء مؤسسات للاستغراب فحبذا لو ابتعدنا عن هذه الكلمة، فنحن بحاجة إلى معاهد ومراكز بحوث وكليات وأقسام للدراسـات الأوروبية والأمريكية،  ويمكن دراسة الغرب من خلال الأقسام العلمية الحالية مع وجـود رابطة كما تفعل الجامعات الأمريكية حيث تتم دراسة العالم الإسلامي أو الشرق الأوسط في جامعة بيركلي مثلاً في ثمانية عشر قسماً علميا منها: علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التـاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والدراسات الدينية وغيرها. ويقوم مركز دراسات الشرق الأوسط بالتنسيق بين مختلف الأقسام.
        فلا يمكن دراسة الغرب كله في قسم واحد كما كان الاستشراق يفعل قبل أكثر من خمسين سنة فقد أنشأوا ما يسمى دراسة المناطق أو الأقاليم فتتم دراسة الإقليم من جميع النواحي أو يتخصص أشخاص في جوانب معينة من هذا البلد أو ذاك.
      كما إننا في الوقت نفسه في حاجة لدراسة الشرق : اليابان وكوريا والصين وماليزيا والفلبين وبورما واستراليا ونيوزلندا. إن المعرفة العلمية الدقيقة مطلوبة في جميع جوانب الحياة. فقد زرت شركة الخـطوط الهولندية فوجدت أن في الشركة مكتبة لا تحتوي على الكتب الاقتصادية وفي علوم الطيران بل إنها تحتوي على كتب حول الدول الأخرى في مجالات المعرفة المختلفة. فعندما يـذهب وفد من الخطوط الهولندية أو تستقبل الشركة وفداً من دولة ما فإنهم يعدون دراسة كاملة تضم النواحي الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغير ذلك.
أما تصوري لعمل المؤسسات فهو أنها يجب أن تبنى على أسس واضحة من ناحية المنهج أولاً ، ثم يجب توفير كافة الإمكانات لها فليس المطلوب أن تكون باذخة في الشكل وضعيفة في المضمون فلا بد من الاعتدال في الشكل والتركيز في المضمون.
 
 س 9: ألا تعتقد أن غياب الكثير من مراكز البحث العلمي في العالم العربي والإسلامي يقلل من فاعلية وأهمية الاستغراب؟
ج: يعاني البحث العلمي في العالم العربي والإسلامي معاناة كبيرة فما ينفقه العالم العربي الإسلامي يعد قليلاً جداً مقارنة بما تنفقه الدول الأوروبية أو دول جنوب شرق آسيا. فكأننا والبحث العلمي ونشـاطات أخرى بين إفراط وتفريط. فحين ننفق على الترفيه والرياضة الشيء الكثير لا ينال البـحث العلمي إلاّ أقل القليل. أين ما يقدمه الأثرياء أو المؤسسات المالية من دعم للبحث العلمي. إن بعـض المؤسسات المالية في العالم العربي تدعم مراكز البحوث في العالم الغربي بمبالغ كبيرة وتبخل على الجامعات العربية الإسلامية.وهذا هو أحد أسباب هجرة الأدمغة أو نزيف الأدمغة.
        ومن الطريف أن الجامعات الغربية عموماً وحتى المدارس الثانوية تنشىء روابط للخريجين الذين لا يبخل الأغنياء منهم من تقديم التبرعات السخية لمدارسهم أو جامعاتهم. فأين الأثرياء من خريجي الجامعات العربية الإسلامية.
       و لابد أن أشير إلى مسؤولية الباحثين المسلمين في تنشيط حركة البحث العلمي والرفع من مستواها مهما قلّت الإمكانات فهم المنوط بهم أن يرفعوا من مستوى البحث العلمي .فإن الكثير من أساتذة الجامعات تركوا البحث العلمي لأنه في نظرهم لا يوفر الحياة الكريمة أو المرفّهة  بالنسبة للبعض فانصرفوا إلى مهن أخرى.


* -نشرت في مجلة الإصلاح ( الإمارات العربية المتحدة ) العدد 371، 9صفر 1418الموافق 15يونيو 1997م.وأجرى اللقاء وليد باحكم .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية