الجزء الثاني من تقديم كتاب الفردوس الأمريكي لجون هيور Jon Huer


فردوس الغبي

        وهذا الكتاب باختصار هو الجانب الآخر من الحياة في أمريكا التي في جوهرها فردوس الغبي. فالجزء المألوف من أمريكا يؤكد على جانب الفردوس الذي يجذب غرورنا ورغباتنا وعاداتنا.ويحاول هذا الكتاب أن يُلقي الضوء على فردوس الغبي أكثر من الفردوس في الحياة الأمريكية والذي من الممكن أن يشعل العصف الذهني المجتمعي حول معيشتنا في المجتمع تماماً كما لم ير العالم من قبل.

ولأننا الأغنى والأقوى وليس لنا ند منذ الإمبراطورية الرومانية فكل مآسينا الشخصية وأمراضنا الاجتماعية سببها غباؤنا واختيارنا غير الحكيم. فإذا ظهرت أن المجتمع الأمريكي فردوس مزيف فلن نستطيع أن نلوم أحد بل أنفسنا. ولا يمكن أن يكون الواحد أمريكي إذا لم يعتقد أن أمته أرض نالت عناية الله ومختارة بخاصة للبركة. فهل هذا أساساً حلم الغبي في الجنة؟ إنه وهم صنعه تجارنا الذين يبيعوننا لا شي سوى حب الذات والتملق للذات وتضخيم الذات؟

إنني من أصحاب الفكر القديم بما فيه الكفاية لأؤمن بالخير  الشر في المجتمعات وفي البشر. ما الخير؟ جوابي ببساطة: أي مجتمع أو سلوك إنساني يساعد كل أحد في كل مكان ليعيش في عدل وسلام على الأرض هو خير. والشر هو العكس تماماً: وأي سلوك مجتمعي أو إنساني يحرم الناس من حقهم في العدل والسلام على الأرض.

وكل المفاهيم الإنسانية مثل "الحرية" و"العدل" و"حرية التجارة" و "حقوق الإنسان" و"القوة العسكرية" و"الديمقراطية" وأي شيء هو خير فقط إن ساعد كل شخص ليكون سعيداً في عدل وسلام. وخلاف ذلك فإنها مجرد أعذار للمجتمعات الشريرة والسلوك الشيطاني. وكثير من مشكلاتنا- من صراعنا الشخصي إلى الحرب الجماعية والصراع- هو حقاً سلوك بين الخير والشر بشكل أو آخر.

وقد يجادل بعض القراء بطريقة هي شائعة اليوم بأنه ليس هناك اليوم شيء اسمه الخير والشر. هذا الجدال يسمى عموما نسبية ثقافية وهو وضع يقول أن العالم اليوم معقد بحث لا نستطيع أن نقول ما الخير وما الشر وكل مجتمع له حلوله لمشكلاته الاجتماعية. وفي الحقيقة تقول النسبية كل شيء رمادي. حسناً فإذا كان العالم اليوم معقد لدرجة يصعب معها معرفة ذلك (الخير من الشر) فإنني أصر إنه السبب الأقوى أن نتمسك بإرشادات فكرة التجربة والحقيقة للخير والشر. وبالإضافة إلى ذلك فإن الصخور وحدها والأشجار ومستوطنات النمل تستطيع أن تعيش في عالم رمادي. ففي كل مكان وكل لحظة تتصرف المجتمعات والبشر وفقاً لما يعتقدون أنه الخير ضد الشر.

ومباشرة نستطيع أن نفكر بالفكرتين الرئيستين للسعادة التي تهيمن علينا في أمريكا. أن نصبح أغنياء وأن نكون أقوياء عسكرياً. هذين العمودين يقفان ليكونا رؤيتنا الشخصية والجماعية لأمريكا. شخصياً نريد أن نكون أغنياء (يمكن أن نستخدم ألفاظ مثل "مرتاح" و"مكتف ذاتياً" أو "مستقل"و لكن أن نكون أغنياء يغطي كل تلك الرغبات) وجماعياً نريد المجتمع الأمريكي أن يكون لا يُغلب عسكرياً وليس فقط للحماية فقط ولكن بشكل طاغ متفوق على الجميع حتى لا يعتمد السلام على المفاوضات مع الآخرين كأنداء. وعمودي الرغبة المعشوق لدى معظم الأمريكيين في تصميم أن يخضع كل الناس لفكرتنا المشتركة عن الشخص "السعيد" والأمة.

أولاً بالنسبة للوصول للغنى فمعظمنا يعتقدون معظم الوقت أن السعادة مرتبطة إيجابياً بالمال. وحتى أولئك الذين يختلفون مع ارتباط المال بالسعادة لا زالوا ينكرون أن المال يشتري تقريباً كل شيء آخر وهو وضع سعيد للإنسان أن يكون فيه. ولكن المال الذي نريده لأنفسنا –وهو السبب الوحيد لإعطاء المال قيمة- لا يمكن مشاركته مع كل أحد بالتساوي ويجب أن ننكر على الآخرين الفرصة نفسها، لعبة الصفر وإلّا ستكون ملاييننا بلا قيمة، وتضيع سعادتنا من خلال المال. ولذلك فتلك طريقة غير جيدة لإيجاد السعادة في المجتمع وهكذا فإنها وعد زائف للسعادة.

وأما بالنسبة للجيش فالنتائج هي نفسها. فنحن في أمريكا نؤمن بوجود جيش قوي بما فيه الكفاية ليكون لنا عدو طبيعي. وعندما تكون التكاليف 400بليون سنوياً فبالتأكيد لدينا جيش يستطيع أن يدمر أي شيء في العالم. ولكن بقدر ما كان جيشنا ناجحاً خلال جرانادا وبنما والخليج وأفغانستان والآن العراق فهذا الاعتقاد بأقوى جيش يدعى الآن –العسكرة- لا يقدم بأي سعادة لنا أو لأطفالنا. لماذا.  تماماً مثل إيماننا بالمال يجب الافتراض بأن الطرف الآخر أضعف منّا. ولسنا أقرب إلى السلام العالمي –والسعادة العالمية من ذي قبل على الرغم من تفوقنا. وبصفته حل ذو اتجاه واحد فإن الانتصار الحربي يكون في صالح المنتصر، فالخاسر ليس سعيداً والنتيجة أنه يقسم على أخذ الثأر. فالخاسر وأصدقاؤه وأطفاله سيلاحقوقننا لرد خسارتهم وبالتالي على جيشنا ان يحارب معركة أخرى قريباً أو بعيداً. ولن نكون سعداء أبداً بهذه الطريقة ولا يمكن تحقيق السلام عسكرياً.

ونحن نواجه مشكلات قومياً بسبب الحل الخاطئ بالمال من أجل السعادة حيث لا يوجد مال كاف لنا. وفي الخارج نواجه مشكلات لأن الحل العسكري ليس كافياً لأننا لن نستطيع أن نقتل أو ندمر عدوّنا وأصدقاءه وأطفاله. هذان فقط مصدران لتعاستنا الشديدة في أمريكا ولكن هناك العديد من الفرضيات الزائفة.

فمن بالتالي يستطيع أن يقول إن كانت طريقتنا في الحياة في المجتمع الأمريكي اليوم هي حقاً لنا أو ضدنا؟

الناقد الاجتماعي

يستطيع أي إنسان أن يقول رأيه في هذا الأمر. نقول إنها الديمقراطية. ولكن هذا التعبير الحر عن الرأي هو أحد عيوبنا أيضاً لأن العديد من الآراء تقدم دون معنى معين. فالآراء بهذه الطبيعة تقدم دون جدية وتؤخذ بلا جدية. وعندما تقوّم مثل هذه الآراء بجدية أكثر –أو أقل لا جدية- نسمّى ذلك علم اجتماع. ولذلك نستطيع أن نقول أن علم الاجتماع هو ببساطة رواية أخرى من رأي أكثر قيمة.

وأحد التقاليد التي لها زمن طويل في علم الاجتماع نطلق عليه النقد الاجتماعي. وهو ربما أهم جزء في  لدراسة المجتمع والأقل تقديراً ودعنا نعترف أنه لا أحد يقدر أن يُنتقد حتى لو كان الأمر لصالحه. ويكره المجتمع وبخاصة إن كان ناجحاً كالمجتمع الأمريكي أن ينتقد . ولكن علم الاجتماع بالإضافة إلى الأدب والنظرية والفلسفة وكثير من التعبيرات الإنسانية المتفردة تحفظ على الكرامة التي لها بسبب هذا التقليد النبيل. وهذا الكتاب ينتمي مثالياً لهذا التقليد.

فالناقد الاجتماعي هو المقتنع أن مجتمعه يحتاج إلى تحسين. والطريقة لهذا التحسين وفقاً للناقد أن يصبح المجتمع واعياً بعيوبه.ولكن هذه العيوب وفقاً لأي معايير؟ فبالنسبة لنقاد اجتماعي أمريكي  فالمعايير المثالية تعرف عموماً بما يجب أن يكون عليه المجتمع الأمريكي. وهذه المثاليات يمكن أن توجد في مراجعنا العامة في إعلان الاستقلال والدستور وقسم التحالف وخطاب الجتسبرج فهذه التصريحات تصنع "المثال الأمريكي". وتمثل هذه المثاليات آداب السلوك البسيطة والاعتدال مع بعضنا البعض ففي البلاد ونظهرها خارج الحدود التي تختلف مع الصفات الأمريكية المسيطرة – النهم للمال أو الانجاز العسكري السريع. وباختصار فهذا هو المفروض أن تكون أمريكا عليه. ويرى الناقد الاجتماعي أن أمريكا تتراجع عن مثالياتها. يشعر أنه مجبر بصفته باحث عمومي على يخبر أمريكا بانحرافها عن مثالياتها التي التزمت بها. فبالنسبة له أمريكا لم تعد أمريكية كما كانت في الماضي.

هل يكره الناقد أمريكا؟ هل هو السبب لانتقادهم ؟ على العكس تماماً انظر مثلاً أنواعاً أخرى من الناقدي وأقصد نقاد الطعام ونقاد السينما ونقاد الفن.بالتأكيد هم يحبون ما ينتقدون. وبالنسبة للنقاد الاجتماعيين – والذين أعد نفسي تواضعاً واحداً منهم-يحبون مثاليات أمريكا التي لم تتحقق أكثر من إنجازاتها الواضحة في المادية والعسكرة. مثل هذه الإنجازات واضحة ومشهودة وموثقة مما يجعل تعليق مصير أمريكا كله عليها سيكون عديم الجدوى من أجل أي تقدم. وفي الحقيقة أناقش في هذا الكتاب إنه بسبب مثل هذا التفوق المادي غير المسبوق والتفوق العسكري أن أمريكا أخفقت في تحقيق مثاليتها. فلو أبعدنا هذه المثاليات من المجتمع الأمريكي فماذا يبقى فيه لن يكون هناك أي شيء أقل من المعادي للقيم الثقافية في العصر الحديث والصرّافين وجحافل الروم قدمت لحسن التدبير.

وقد يناقش بعضنا أننا فخورون أن لدينا أفضل  الملتزمين بالثقافة وبجمع المال- شاهد هوليوود وشارع المال. ولكن يجب أن لا نستسلم  لردود أفعالنا الساخرة لمثل هذا الرفض "للمثال الأمريكي" والذي هو الجانب الأفضل من شخصياتنا. فالسخرية متمثل للاستمتاع بشعبيتها ويحصل الساخر على التصفيق لأنه يناسب الجمهور بالعواطف الشعبية. ولكن نتيحة الجذب الساخر دائماً يدعو للندم. ومن الناجية الثقافية فإن السخرية تدعو شل النسبية ومن الناحية السياسية تخلق سلطة فاسدة مثل الفاشية.

وتعد الولايات المتحدة من بين كل أمم العالم الأمة الوحيدة التي لا تزال المجتمع المثالي للإنسان فقد عدّها البيورتان أرض الله وأن تكون الثانية بعد إسرائيل. وقد فهم الآباء المؤسسون أنها الجمهورية الحرة الكاملة حيث حريتها يستمتع بها كل المواطنين لأول مرة في التاريخ الإنساني وفي القصة الطويلة التالية من الحياة الأمريكية والمجتمع ثمة اعتقاد أن المثاليات الأمريكية قد تعرقلت . وهذا فالأرض الجديدة المختارة وأول جمهورية حرة- حصّنت وتم تقويتها من خلال التقنية والرأسمالية- قد دفعت لتوجد أغنى وأقوى أمة شهدها العالم.

ولكن بسبب كل السخريات والتناقضات والأوهام والخداع الخاصة بمثل هذه الأمة الغنية والقوية فإن وعود أمريكا التي كانت ذات مرة مثالية وثرواتها تهدد بأن  تحوّل الأمة إلى فردوس الغبي.

لماذا وكيف حدث هذا هو موضوع الكتاب.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية