تغوّل الدولة القومية والمركزية


 
(2011-04-21)(13:43

فذلكة: كتبت هذه المقالة عام 2011 أي قبل سنتين تقريباً والتغول مستمر وقد نقلت عن إعلام أمريكا الحر (وصار للأمريكان إعلاماً حراً) عن تحول أمريكا إلى دولة بوليسية.

ملحوظة: نشر المقال في منتدى بناء


كنت طالباً في الولايات المتحدة في الفترة من 1368-1393هـ(1968-1973م) فعرف الناس أن مكتب التحقيقات الفيدرالية (FBI) يحتفظ بملفات يتجسس فيها على عدد كبير من المواطنين الأمريكان فتذكر الناس وظهرت الكتابات في الصحف وفي الإعلام حول كتاب جورج أورويل (George Orwell)(1984) وهو كتاب يصف الحكومة المركزية والحكم الشمولي الذي يحصي على الناس أنفاسهم. وقرأت الكتاب وأصبت برعب شديد من هذا النوع من الحكومات، وفي الحقيقة لم يكن الأمر غريباً جداً على من يعيش في العالم العربي. وفي هذا السياق دار حديث بيني وبين أستاذي الدكتور علي الغمراوي رحمه الله حول الحياة الخاصة للفرد في العالم العربي مقارنة مع العيش في الغرب. فقال الدكتور الغمراوي رحمه الله: "يا مازن العيش في بلادنا أفضل من العيش في أوروبا وأمريكا، فأنت هناك مجرد رقم تتحرك برقم في حسابك البنكي وفي هويتك وفي رقم الضمان الاجتماعي وغيره، أنفاسك محسوبة عليك، يعرفون كل حركة تقوم بها، أما في عالمنا فمازالت لك خصوصياتك (قبل أن تستورد حكوماتنا العظيمة وسائل الغربيين في إحصاء الأنفاس)"، وقال الدكتور الغمراوي هذا الكلام قبل أكثر من عشرين سنة قبل أن تنتشر الكاميرات في أنحاء الشوارع والمحلات التجارية في الغرب حتى إن أكثر من سبعين في المائة من تلك الكاميرات موضوعة بصورة غير قانونية ولكن حكومات الغرب تغض الطرف عن المخالفات لأنها تحقق لها رغباتها وشهوات المسؤولين فيها للتطلع على أسرار الآخرين.

وفيما أنا أبحث في مسألة المشاركة السياسية في العالم العربي وجدت عبارات للدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله معلقاً على أحد البحوث بالقول:"لقد كان من ثمار هذه الحضارة (الغربية) تزايد تغوُّل الدولة القومية المركزية التي تمكنت من الوصول إلى الجميع والتحكم فيهم من خلال أجهزتها الأمنية والتربوية، وكذلك تزايد تغلغل الإعلام في الحياة الخاصة للبشر، الأمر الذي زاد من تنميطهم، فتزايدت هيمنة قطاع اللذة على الجماهير وتفشي الإباحية، وارتفاع معدلات الطلاق بشكل لم يسبق له مثيل، وظهرت أزمة المعنى والأزمة المعرفية والأزمة البيئية، ولم يعد الاقتصاد الحر ناجحاً كما كان في الماضي، وفقدت التجربة الاشتراكية مصداقيتها، وظهرت الاتجاهات الفكرية المعادية للإنسان مثل الفاشية والنازية والصهيونية والبنيوية، وهي اتجاهات وصلت إلى ذروتها في فكر ما بعد الحداثة"

وفي هذا الصدد يقول الدكتور النفيسي في كتابه الرائع عندما يحكم الإسلام أن الدول أصبحت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا وهو بصدد تعريف السياسة: "والسياسة-برأيي المتواضع- ليست حشيشاً أو شيئاً يجب أن يحظره القانون، وإنما السياسة هي الإدارة العامة لشؤون الناس وهذه الإدارة إما تفضي إلى عدل أو ظلم. والقرار السياسي –في محصلته النهائية- هو الذي يحدد طبيعة التعليم الذي نتلقاه وطبيعة الطعام الذي نأكله وطبيعة السكن الذي نسكنه وطبيعة الطريق الذي نعبره {كثير المطبات والحفريات والتحويلات في الرياض مثلاً}وطبيعة الجريدة التي نقرؤها وطبيعة المذياع الذي نسمعه وطبيعة التلفاز الذي نشاهده وكمية الدراهم التي نحملها في المحفظة.. نحن مادة القرار السياسي الذي يتخذه الأمير أو الملك أو رئيس الجمهورية. نحن المعنيون به. نحن ضحاياه أو فرسانه، فالقرار السياسي ليس شيئا ً منعزلاً عنا لا يؤثر فينا أو يتجاوزنا أو يتخطّانا ولا يدوس علينا أبداً.."

أما هيمنة الإعلام فللرئيس علي عزت بيجوفيتش رحمه الله في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب كلام جميل حيث يصف كيف أن الإعلام الجماهيري أصبح يسيطر علينا ويغير آراءنا وأفكارنا حتى لنعتقد الرأي ونظنه رأياً نابعاً من ذواتنا، ما أخبث ذلك الإعلام وإليكم عبارته: "تنحو الثقافة تجاه الفردية، أما الثقافة الجماهيرية فتصب في الاتجاه المعاكس، نحو التماثل (صب الأرواح في قوالب متماثلة). عند هذه النقطة تنحرف الثقافة الجماهيرية عن الأخلاق وعن الثقافة... إن الثقافة الجماهيرية تختلف عن الثقافة الأصيلة في أنها تحد من الحرية الإنسانية من خلال هذا الاتجاه نحو التماثل، ذلك أن الحرية هي مقاومة التماثل" (انظر ماكس هوركيهمر Max Horkheimer."Dialectic of Englightement)

ويقول بيجوفيتش (رحمه الله): "لقد أثبت علم نفس الجماهير، كما أكدت الخبرة، أنه من الممكن التأثير على الناس من خلال التكرار المُلِح  لإقناعهم بخرافات لا علاقة لها بالواقع  وتنظر سيكلوجية وسائل الإعلام الجماهيرية إلى التلفزيون على الأخص باعتباره وسيلة – ليس لإخضاع الجانب الواعي في الإنسان فحسب- بل الجوانب الغريزية والعاطفية، بحيث تخلق فيه الشعور بأن الآراء المفروضة عليه هي آراؤه الخاصة"(Djura Susinjic: Fishermen for Human Souls, 1977) وكتاب بيجوفتيش ص 106-108.

وأخيراً فقد نشر الفقيه المغربي الدكتور أحمد الريسوني كتاباً بعنوان الأمة هي الأصل ورسم على غلافه مثلثين أحدهما صحيح والآخر مقلوب، وقال كانت الأمة في الماضي تدير شؤونها حتى أكثر من سبعين في المائة فلم يكن للدولة سوى الأمن والدفاع والخارجية والمالية أو بيت المال أما باقي مجالات الحياة فكانت في يد الأمة حتى إن الهرم أصبح مقلوباً فصارت الدولة تسيطر على سبعين إلى تسعين في المائة من مجالات الحياة ولم يبق للشعوب يد في إدارة شؤونها. ما أعظم الوقف في الإسلام قبل أن تسيطر عليه الحكومات وتجعله في وزارات ويصبح المال الضائع يشبّه بمال الوقف.
فمتى نستطيع الخروج من تغوّل الحكومات المركزية العربية وغير العربية؟ متى؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية