تقديم-مرحباً في الفردوس الأمريكي-لسنا منسجمين مع أنفسنا


 

 
 
        ثمة مشهد في فيلم قديم من زمن الحرب الباردة يطلق عليه "على الشاطئ" "On the Beach" حيث تخبر امرأة استرالية زائرتها – أمريكية برتبة كابتن في غواصة-عن نوبات شربها الأسطورية. تنظر إليها الكابتن باستفهام وتسأل"ما الذي تحاولين نسيانه؟" وتصمت المرأة السكرانة فجأة كأنها طعنت في قلبها.

          وتموت كلتا المرأتان في القصة الأصلية فيما بعد الحرب النووية. ولكن من أجل مواصلة حديثنا دعونا نتقدم أربعين سنة إلى الأمام إلى وقتنا الحالي. يزور الكابتن الأمريكي- متقاعد الآن- صديقه القديم من أستراليا في منزله المؤثث تأثيثاً حديثاً ومجهزاً بأحدث موديل من المسرح المنزلي ب999قناة بصفاء عال وبآخر ما توصل إليه من الترفيه. ويصف المضيف آخر ما تم التوصل غليه من الترفيه التلفزيوني والإنترنت التي تعزف أربعاً وعشرين سنة و365 يوماً في السنة. ويعرض أحدث التقنيات في السيطرة على المؤثرات الخاصة في هوليوود ومراكز الترفيه. ويضغط الكابتن المتقاعد على جهاز التحكم عن بعد ليوضح البرامج المختلفة في قنواته التلفازية- أفلام ورياضة وبرامج حديث وتقارير على الحرب والصحة والعيش الطيب. إنها مدهشة وساحرة وتأخذ الأنفاس ومشبعة.

          وأخيراً يستعيد الضيف حكمته بما فيه الكفاية ليسأل: "وما ذا تحاولون أيها الأمريكيون أن تنسوا؟" ويصاب المضيف الأمريكي بالصدمة يفقد معها السمع والفهم ويبدو تائهاً.

          بالطبع فالمجتمع الأمريكي اليوم يتحكم اليوم بأكثر وسائل الترفيه إبداعاً وحيوية في هذا الجانب من الإمبراطورية الرومانية. فأحسن الأمريكان وألمعهم منشغلون في أروع وسائل الترفيه والتشويق في العالم، وأفلامنا الهوليوودية لا توازيها أفلام في قدرتها على التسلية والترفيه. وكل فرد أمريكي وأقصد كل فرد وعلى مدار الساعة فكل شيء نفعله ملهم بفكرة التسلية والترفيه وتسلية أكثر وترفيه أكثر وزيادة.

          وبالتأكيد فحياتنا معترف بها عالمياً أنها "الهروبية العظمى" التي عاشها أي مجتمع. وبالتأكيد كما سأل الضيف المتحير "ما الشيء الذي نحاول الفرار منه ؟"

          ففي مجتمعنا الحالي في أمريكا يوجد أبدع مكان للترفيه- الذي لم يشهد التاريخ البشري من قبل مثله في تنوعه وأصالته وشدته- فهل تلك الحقيقة الشعب الأكثر ترفيهاً وبالتالي "الأسعد" في العالم؟

          إن الهدف الأساسي لأي ترفيه هو صرف اهتمامنا وجعلنا ننسي. ولكن في مجتمع كهذا مرفّه وسعيد ما الشيء الذي نريد أن ننساه وأن يصرف اهتمامنا عنه؟ فلو كان المجتمع الأمريكي اليوم مجتمع رائع- لاحظ تفوقنا الاقتصادي والعسكري- فلماذا   نسعى بشدة لنهرب من أكثر رموز انجازتنا التي نفتخر بها- يعني- أنفسنا؟

          بالتأكيد لماذا؟

        انظر إلى المواد الآتية- مواد روتينية في أمريكا تلاحظ فقط لأنها ليست ملفتة للانتباه بصفة خاصة:

المادة الأولى: الاستطلاع السنوى "للمرأة التى نالت أكثر أعجاب" التي يختارها النساء الأمريكيات. لقد كانت الأم تريزا وأوبرا ونيفري دائما الرقم واحد واثنين. فقد خصصت الأم تريزا حياتها كلها لأفقر الفقراء وتتهيأ الآن لتصبح قديسة بينما أوبرا ونفري من الشخصيات المشهورة لنجاحها في الإعلام.

المادة الثانية: نحكم العالم عسكريا وميزانية جيشنا أكبر من ثنتي عشر دولة مجتمعة، ومع ذلك لا نجد سلاماً بين أنفسنا حيث يخاف بعضنا بعضاً –أمريكيون ضد الأمريكيين- أكثر مما نخاف الإرهابيين.

المادة الثالثة: شاشات تلفازنا أكثر حدّة وأكثر إشراقاً من أي وقت مضى تظهر كل تفصيل في وضوح عظيم وبدقة متناهية، ولكن ما لذي يظهر بدقة ووضوح على شاشاتنا؟ وعلى خلاف التطور في نوعية الصورة فإن محتويات برامجنا تبقى على الدرجة نفسها من الإسفاف والطفولية والغباء ..

المادة الرابعة: تبرز صفحة قومية المجاعة في أفريقيا بصورة لأطفال يكادون يموتون من الجوع، وتحت ذلك تماماً في الدعاية صورة لشاطئ البهاما الجميل مع إعلان: "إجازة خاصة في الكاريبي"

المادة الخامسة: يتخذ رئيس مجلس إدارة مايكروسوفت من موضوع "العمل الخيري العام" موضوع حديثه في جامعة هارفارد. وأن يأتي هذا من أغنى رجل في العالم يبيع أكثر آلية فعالية في عزل الإنسان وتحطيم المجتمع قد اخترعت (منذ التلفاز)وكل أمريكا تصفق ولا أحد  يحفل بهذه السخرية.

        والغريب حول هذه المواد أنه لا أحد في أمريكا يعتقد أنها غريبة. ولا أحد يشعر بالغرابة حول سخرية وتناقض اشتراك هذه الأفكار. فالقديس الكامل والغارق في نفسه مقدم برنامج حواري هو الأكثر نيلاً للاعجاب والمرأة الثانية الأكثر إعجاباً في أمريكا ولا أحد يرمش جفنه عجباً. نحن شعب فخور بهيمتنا العسكرية النشطة ومع ذلك فإن بيوتنا وشوارعنا مرعبة تماماً مثل أرض معركة الأمريكان ضد الأمريكان . ولا أحد نظر من خلال ثقب صغير عن الحيرة. كل هذه يعطينا صورة عظيمة لموضوع  لا معنى له والأطفال الجوعي والإجازة في شاطئ عند الغروب، وأغنى رجل في العالم يدعو إلى المثالية في عمل الخير وكل هذا جنباً إلى جنب في الإطار الفكري نفسه ومثل هذا الاختلاف الواضح للحياة والمجتمع يسيران بكل سهولة. وأغرب شيء في هذا كله لا أحد يلاحظ أننا لا نلاحظ أي شيء مطلقاً.

         ما هذه الأشياء سوى بعض رصد الأحداث والأفكار الخارجة عن الانسجام مع المنطق والعقل. –ومع ذلك تعد مقبولة عموماً- حتى إنها تصنع الحياة في أمريكا اليوم لتشبه زيارة متكررة لأخفض نقطة يصل إليها الضوء في المحيط.

        هل الأمر ببساطة نزع الحساسية من الأمريكيين لشدة المثيرات؟ هل أصبحنا غير قادرين على التفكير أو الإحساس بطريقة عادية كبشر؟ هل ممكن حتى أن نناقش الحياة في أمريكا بعقلانية وبمنطق؟ ماذا يمكن أن نستنتج من مثل هذا التحول في حياتنا ومجتمعنا؟

        بينما كنت أحاول أن أتصارع مع مثل هذه الأسئلة خطرت لي فكرتين غريبتين جعلتاني  أرغب في كتابة هذا الكتاب.

        كانت الفكرة الأولى أنني أعرف كثيراً عن المجتمع الأمريكي بطريقة لا يشاركني فيها إلّا القليل. وقد خطر لي منذ وقت قريب فكرة تشبه الوحي –أنني لم أجمع تماماً كأستاذ في  علم الاجتماع لعقود ثلاثة- كمية من المعرفة عن أمريكا أود أن أشارك غيري فيها. فطريقة معيشتنا وعملنا ونموت- وحدنا ومع الأمريكيين الآخرين –لها خفايا كثيرة يمكننا أن نقول أن هناك أمريكيتين الأولى نعتقد أننا نعرفها والأخرى مجهولة لنا تماماً. مثل هذه الخاطرة أجبرتني بما فيه الكفاية على أن أتحرك بصفتي عالم اجتماع لأبدأ بكتابة ما أعتقده عن أمريكا الخفية.

        والفكرة الثانية والتي ربما كانت أكثر قوة من الأولى أن المجتمع الأمريكي- وحياتنا فيه- تواجه نوعاً من المعضلة. ولا أقصد النوع الذي يناقش في التلفاز كل يوم بصفتها "مشكلات اللحظة" أعني المعضلة بالمعنى التي تؤثر في قلوبنا وأرواحنا وعقولنا وعلاقاتنا مع جيراننا ومع الغرباء في الوطن وفي الخارج. فإن كان هذا النوع من أمريكا لا يتلاءم مع ما نعرف أنه أمريكا الكبيرة السعيدة الملبية للطموحات نستطيع فقط أن نسأل أنفسنا سؤالاً بسطياً واحداً: لماذا نوجد مجتمع كهذا مليئاً بالإثارة والأفضل في العالم، وإذا لم نكن قلقين كثيراً حتى نهرب أو ننسي أنفسنا؟

         عندئذ ما ينتج من هذا الجهد هو صورة أمريكا التي تبدو مباشرة مألوفة ومع ذلك غريبة. فهي مألوفة بأنها إلى حد كبير هو ما نعيشه كل يوم: إنها أمريكا التي تتحدث إليها بصوت مرتفع وذات ألوان وبسرور. وفيها نلعب ونستمتع ونعيش. وفي هذه الألفة الشديدة هو الجزء غير المفيد لأهدافنا في اكتشاف أمريكا الخفية. إنه الجانب الغريب من أمريكا الذي يسبب المشكلات لنا ويخيفنا وربما يدفعنا إلى الهروب إلى اللاواقع الأكثر تلوناً وأكثر سروراً. وحيث يصبح الهروب أكثر إلحاحاً كل يوم وكذلك شهادته على فراغ حيانا ووحدة وجودنا المنعزل.

        وقد تناولت في هذا الكتاب هو الجانب الغريب من أمريكا لأني هذا البعد في الحياة الأمريكية يبقى إلى حد كبير غير ملاحظ ومنسي. وأفضل طريق لاكتشافه ومناقشته من خلال الأدوات التقليدية للسخرية والتناقضات والأوهام والتضليل، والمفارقات، و المعضلات، والسخافات التي جعلتها العنوان الفرعي لهذا الكتاب. وحدث أنني متخصص في علم الاجتماع ولكن الكثير من الأدباء والكتاب والمتخصصين في الدين يستطيعون استخدام هذه الأدوات لاكتشاف أنفسنا ومجتمعنا.

        ولتوضيح هذه الطريقة من النظر إلى الأشياء مرة أخرى فإن الرؤية "الاجتماعية" بصفتها واحدة –دعنا نقول أننا ننظر إلى رجل يحمل عشرة أسطوانات فيديو وصندوق من البيرة إلى بيته لنهاية الأسبوع فإن رد فعلنا المباشر للمنظر أنه سيكون "سعيداً" في عطلة نهاية الأسبوع. وفي الجانب الآخر حيث سخريتنا –ندرك أن الرجل يجب أن يكون تعيساً جداً من البداية.ولماذا إذن يحاول أن ينسي واقعه من خلال أسطوانات الأفلام والبيرة؟ فإن الصورة نفسها تعطينا صورتين ذهنيتين متناقضتين لحياة الرجل والمجتمع- السعادة والبؤس. وهذا الخيال هو ما اكتشفه الزائر من أستراليا سابقاً.

        ما الصورة التي تمثل الحقيقة عنه وعن المجتمع؟

        من المتوقع أن بائعي أسطوانات الأفلام المدمجة والبيرة سيقولان إن الرجل سعيد بأسطواناته وبيرته- على الأقل في نهاية الأسبوع- حتى يفرغ منهما. ومن المتوقع أن الرجل نفسه يمكن أن يجادل أنه رجل سعيد بسبب الترفيه واللهو الذي لديه.

        ولكن جانبنا الاجتماعي- الجانب المؤيد بالسخرية – سيرى أن الرجل يحتاج إلى الترفيه واللهو خلال نهاية الأسبوع لأنه تعيس للغاية وبائس في حياته ومجتمعه خلال الأسبوع.(نضيف "المجتمع" لحياته لأن حياة كل إنسان تتم في مجتمع.

        واعتماداً على الصورة التي نرى فيها الرجل نستطيع أن نقدم نوعين من العلاجات: الأول أن نجعل الترفيه أكثر ترفيهاً والتسلية أكثر تسلية حتى تكون الأفلام أكثر ترفيها وتكون البيرة أكثر تسلية للرجل. وهذا ما يريده البائعون ويعدوا بأن يفعلون كل يوم. أما الثاني يحتاج إلى تفكير ذكي واختيار-أن نوضح السخرية للرجل حتى يمكنه أن يرى الصورة كاملة بنفسه في ضوء آخر ويعيد تنظيم كل حياته والمجتمع.

        من الرجل في هذا الإيضاح؟ تماماً مثل الكابتن المتقاعد أعلاه إنه نحن وكل إنسان أمريكي. إنه جو العادي الذي نادراً ما يعي هذه السخريات في حياته كل يوم في أمريكا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية