طبيعة الدراسات الاستشراقية المعاصرة


إن الاستشراق المعاصر أو ما أصبح يعرف بالدراسات العربية والإسلامية أو الدراسات الإقليمية أو دراسات الشعوب العربية والإسلامية تحت مختلف التخصصات كالاجتماع وعلم الإنسان والاقتصاد والسياسة لم يعد يشبه ذلك التراث الضخم من الكتابات الاستشراقية المعروفة مثل كتابات جولدزيهر ومارجليوت وشاخت وكولسن وبرنارد لويس وهاملتون جب وتوماس آرنولد وغيرهم. فإذا كان المستشرقون القدامي ينطلقون من معرفة اللغة إلى تناول القضايا كافة التي تتناول الإسلام والمسلمين في المجالات العقدية والتشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فإن المستشرقين المعاصرين أو الباحثين الغربيين يدركون الآن أنه لا يمكن للشخص أن يصبح عالماً متخصصاً في الشرق العربي الإسلامي من خلال اللغة وحدها، فإن الباحثين الغربيين الذين يدرسون العالم الإسلامي من خلال بعض المعرفة باللغات الإسلامية مع إلمام محدود بالإسلام أصبحوا يدرسون العالم الإسلامي من خلال قضايا محدودة جداً مثل وضع المرأة في قطر من الأقطار، أو التعليم في بلد من البلاد الإسلامية. أو قضايا الزواج والطلاق أو بعض المسائل الفرعية الأخرى.

الاستعانة بالطلاب العرب المسلمين والأساتذة:

لقد توفر للاستشراق المعاصر أعداد كبيرة من الباحثين العرب والمسلمين الذين يدرسون في الجامعات الغربية ويختارون بناء على توجيه مشرفيهم لدراسة قضايا معينة تخص العالم الإسلامي وهذا ما لم يتوفر للمستشرقين القدامى الذين كان بعضهم يضطر إلى زيارة البلاد العربية والإسلامية والإقامة فيها سنوات، ومع ذلك فقد لا تتوفر له المعرفة الدقيقة التي يمكن أن يحصلها من خلال ما يقوم به طلاب الدراسات العليا العرب والمسلمين. ومع ذلك فعلينا أن نذكر أن أمر الرحلة لم ينقطع تماماً فمازال للبلاد الأوروبية والأمريكية الجامعات ومراكز البحوث في البلاد العربية الإسلامية التي يستطيع بعض الباحثين الغربيين من الإقامة بضع أشهر أو سنوات لدراسة الشعوب العربية والإسلامية وإتقان لهجاتها المختلفة ومعرفة أوضاعها.

وأصبحت الدراسات العربية والإسلامية تستعين بأعداد من الأساتذة العرب المقيمين في الغرب أو الزائرين (نصر حامد أبو زيد أستاذ زائر بجامعة ليدن منذ عشرة أعوام)  وصادق جلال العظم وبسّام الطيبي وعزيز العظمة (والقائمة طويلة حقاً)، وهولاء الأساتذة لا بد أن تنطبق عليهم شروط معينة لعل من أولها أن يكون صاحب تفكير "حر" بزعمهم وهو أن يكون ممن لا يتورع عن انتقاد الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجاً. أما الأساتذة الذين يعتزون بدينهم فمن الصعب أن يجدوا مكاناً في الجامعات الغربية ([1]) وفي زيارة لمعهد الولايات المتحدة للسلام عام 1415هـ(1995م) علمت عن دعوتهم للدكتور سعد الدين إبراهيم لإعداد بحث عن الحركات الإسلامية (الأصولية) في مصر، فتعجبت منهم يدعون باحثاً عرف عنه عداوته لهذه الحركات وتحيزه ضدها. كما أن معهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة كان قد دعا باحثاً من الأردن لإمضاء سنة كاملة للبحث حول الأردن فخرج بنتائج كادت تحدث فتنة داخل الأردن ([2]) وكان أحد الباحثين أيضاً في المعهد نفسه للكتابة عن الحركات الإسلامية وتناول كتابات سيد قطب وأصر في نتائجه عن أن سيد قطب هو الأب الروحي للقاعدة والإرهاب في الوقت الحاضر.([3])

ومن مظاهر استقطاب الجامعات الغربية للباحثين العرب والمسلمين دعوة بعضهم لإجراء البحوث فيما بعد الدكتوراه أو المحاضرة والتدريس في  جامعاتهم، ولكن بمواصفات خاصة وهي أن يكون هذا الباحث معروفاً بمواقفه المنتقدة للإسلام أو حتى التي يمكن أن تصل حد الكفر والأمثلة على ذلك كثير. ويأتي هؤلاء إلى الجامعات الغربية ليدرّسوا في الجامعات ويعتلوا المنابر ويشركوا في إعداد البرامج والإشراف على الطلاب وغير ذلك. كما أن البعض يستخدم لتقديم معلومات عن بلاده وبخاصة عن الحركات الإسلامية أو الجماعات الإسلامية  في الهند كما هو الحال في أحد الباحثين الهنود المدعو إلى المعهد الدولي لدراسة الإسلام في العصر الحديث  الذي تشترك فيه ثلاث جامعات هولندية هي: جامعة أمستردام وجامعة ليدن وجامعة أوتريخت.


الاستشراق المعاصر ودعم الحكومات الغربية.

والاستشراق المعاصر إنما هو امتداد للاهتمام بالعالم العربي والإسلامي الذي يحظى بدعم الحكومات الغربية، فالحكومة البريطانية ألفت عدة لجان في القرن الماضي (1947و1961و1985م) لدراسة احتياجات بريطانيا لمتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية وتخصيص المبالغ لدعم الجامعات ومراكز البحوث، وما زال هذا الدعم مستمراً من قبل الحكومات الغربية عموماً من حيث التمويل والإفادة من معطيات البحوث التي تنتجها الجامعات ومراكز البحوث بالإضافة إلى العدد الكبير من المراكز التي يطلق عليها مراكز الفكر (Think Tanks) التي تقدم إلى الحكومات الغربية دراسات واقتراحات للنظر في تنفيذها في السياسة الخارجية لتلك الدول. ومن نماذج التمويل لدراسات العالم الإسلامي ما قامت به الحكومة الهولندية من تخصيص مبلغ مليوني ونصف يورو لدعم برنامج الدراسات العليا في العقيدة الإسلامية بقسم العقيدة في جامعة ليدن، وهو البرنامج الذي يقول عن رئيس قسم الأديان إنه لإعداد الأئمة والخطباء في أوروبا بدلاً من استقدامهم من العالم الإسلامي.

وتنادت الجامعات البريطانية التي تضم أقساماً لدراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية بالمطالبة بدعم حكومي وعقدت لذلك العديد من الندوات والمؤتمرات واللقاءات الخاصة للحصول على دعم الحكومة. وقد استجابت الحكومة البريطانية استجابة عملية تمثل في تكليف ثلاث  جامعات لإنشاء مركز الامتياز للبحث في شؤون العالم الإسلامي المعاصرة وهي جامعات إدنبرة ودرم ومانشستر. وبالإضافة إلى هذا المشروع فإن أقسام دراسات الشرق الأوسط (وغيرها من الأقسام العلمية) يتم تقويم عملها من لجان محايدة كل ست سنوات ليقرر على ضوء ذلك تحديد الدعم المالي والمعنوي الذي تستحقه تلك الجامعات.

كما أن الاتحاد الأوروبي قد أنشأ المعهد الجامعي بفلورنسا ومن أبرز مهماته دراسة أوضاع العالم الإسلامي من خلال البحوث والدراسات العليا والندوات والمؤتمرات، وأذكر على سبيل المثال ندوات البحر المتوسط التي تعقد سنوياً وتضم أكثر من عشرة ورش تتناول قضايا مختلفة في العالم الإسلامي، وكان من بين تلك الورش: العيش تحت حكم استبدادي، ومسألة الجندر، والأسرة في الشرق الأوسط، وقضية المعلوماتية في العالم الإسلامي، وقضايا أخرى. وهناك مجموعات من الباحثين يتولون عقد دراسات حول العالم الإسلامي بدعم من الاتحاد الأوروبي، كما أن بعض الباحثين يحصلون على منح من حلف الناتو لدراسة أوضاع العالم الإسلامي.

كما أنه من ضمن هذا الدعم أن المعهد الدولي لدراسة الإسلام في العصر الحديث أعلن عن  تقديم ثمانية عشرة منحة لدراسة الدكتوراه وثلاثين منحة للماجستير في مجال الدراسات الإسلامية بجامعة ليدن شريطة إتقان اللغة الإنجليزية لأن الدراسات العليا في هذا البرنامج ستكون باللغة الإنجليزية.

وعلى الجانب الآخر من الأطلسي قامت الحكومة الأمريكية بعد سقوط الشيوعية واحتلال العراق للكويت بدعم برامج دراسات الشرق الأوسط بل إنها جعلت من شروط الحصول على منح للالتحاق ببرامج دراسات الشرق الأوسط الالتحاق بالخدمة الحكومية ومنها العمل في الاستخبارات المركزية الأمريكية. ثم عادوا الكرة مرة أخرى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، ولكن ظهر العداء أكثر للإسلام والمسلمين والتطاول عليه بعد هذه الأحداث وضيق على الأساتذة الذين يتعاطفون مع قضايا العالم الإسلامي وبخاصة الاحتلال الصهيوني لفلسطين وما تفعله إسرائيل في الشعب الفلسطيني حتى أصبحت الحرية الأكاديمية مهددة في أمريكا في الوقت الحاضر.  .


المراكز الاستشراقية تستوطن بلادنا

        لم يكتف الغربيون بالأعداد الكبيرة التي تذهب إليهم من أبناء المسلمين للدراسة عندهم والحصول على الشهادات الجامعية المختلفة وفي التخصصات كافة حتى الدراسات الشرعية حتى إن حكومة إندونيسيا عقدت قبل أعوام اتفاقاً مع جامعة ليدن على أن يقوم الطلاب الإندونيسيين بإتمام دراساتهم العليا في الدراسات الإسلامية في هولندا وأحياناً تستضيف الجامعات الإندونيسية عدداً من الأساتذة الهولنديين للإشراف على الطلاب هناك. بل لم يكتفوا بالجامعات التي كانت موجودة لدينا كالجامعة الأمريكية في القاهرة وبيروت فسعوا إلى إنشاء جامعات أمريكية أخرى كما فعلوا في كل من دبي والشارقة والكويت وغيرها. وبالإضافة إلى الجامعات الأمريكية فإن ألمانيا قامت بفتح جامعة في مصر وهناك محاولات محمومة لإنشاء جامعة فرنسية في القاهرة أيضاً. أما مراكز البحوث فعددها كبير وهي بين هولندية وألمانية ودنمركية وسويدية، وفي بعض البلاد التي لديها تردد في السماح بالجامعات الأجنبية افتتحت كليات بأسماء عربية وبمحتوى استشراقي بحت. بل إن جامعات عربية قد أنشئت تحت إشراف أكبر جامعة يسوعية في الولايات المتحدة الأمريكية وهي جامعة جورجتاون التي أنشأت كلية لها في قطر([4]). ومن الصعب عليّ تصديق من يزعم أننا نستطيع ضبط هذه الكليات والجامعات وأن نفرض عليها مناهج معينة، فلو استطعنا افتراضاً أن نصنع ذلك فهل نحن الذين نختار الأساتذة وما المعايير التي يمكن أن نتطلبها في هؤلاء الأساتذة؟ كما أن الأستاذ يستطيع أن يتجاوز المنهج المقرر من الجامعة وكما قال أحد الأساتذة هناك دائماً المنهج السري الذي يختاره الأستاذ.

        وثمة نشاط استشراقي جديد هو عقد الندوات وورش العمل في البلاد الإسلامية بحجة تدريب الباحثين العرب على المناهج العلمية في البحوث الاجتماعية، ويحضر هذه الدورات عدد من الأكاديميين الغربيين للإشراف عليها واتخاذ دور الأستاذ المدرّب والموجه. وفي هذه الندوات تناقش كثير من القضايا الحيوية والحساسة ومن أمثلة هذه الدورات ما قامت به مؤسسة الجنوب- الجنوب بمشاركة معهد جوته للدراسات الشرقية في بيروت، والمعهد الدولي لدراسة الإسلام في العصر الحديث بجامعة ليدن بهولندا.([5])

.







1- قدمت في تونس في مؤتمر عقدته مؤسسة التميمي عن المناهج الغربية في دراسة العالم الإسلامي وتركيا عام 1416هـ(1996م) وقدمت بحثاً بعنوان "التعاون العلمي بين الجامعات الغربية والعالم الإسلامي بين الواقع والطموح"في المنهجية الغربية في العلوم الإنسانية والاجتماعية عن البلاد العربية وتركيا (تونس: مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، ومؤسسة كونراد إديناور، 1996م) ص 281-291. وأشرت إلى أن اختيارات الغرب للباحثين لا تتبع المنهجية العلمية الموضوعية، فأثار حديثي حفيظة جميع الحاضرين لأنهم من الصنف الذي تستقطبه الجامعات الغربية.

1- الباحث هو صلاح أبو عودة وكان بحثه عن وضع الفلسطينيين في الأردن وحاول إثارة الفتنة بالحديث عن الظلم الذي يعاني منه الفلسطينيون في الأردن.

2- الباحث هو الدكتور أحمد الموصلي من الجامعة الأمريكية في بيروت وكان بحثه في معهد الشرق الأوسط بواشنطن عام 1995م.
ومن العجيب أن تنشر صحيفة الإندبنت   Independentملحقاً خاصاً بسيد قطب في صيف العام الماضي (أغسطس 2006م) تناول جذور الإرهاب- بزعمهم-ونسبها إلى سيد قطب رحمه الله.
[4] - جامعة الأخوين في إفران بالمغرب كانت جامعة جورجتاون هي المستشارة في وضع المناهج وربما إرسال الأساتذة وغير ذلك من التعاون العلمي ولغة هذه الجامعة هي الإنجليزية.
  1-رعت البرنامج برنامج تعاون الجنوب-الجنوب  للبحث في تاريخ التطور، والمعهد الدولي لدراسة الإسلام في العالم الحديث، ومعهد جوته للدراسات الشرقية في بيروت في الفترة من 8-13 ديسمبر 2005م بعنوان (ورشة التدريب على "التغير الاجتماعي والهوية في المجتمعات الإسلامية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية