الإسلاميون والسياسة


    قبل أن تقع الثورة الإيرانية بعدة أشهر جمعني مجلس مع أحد الصحافيين المشهورين، فأخذ يتحدث عن حكم الشاه في إيران، وكيف أن إيران ستنتقل قريبا جداً من دول العالم الثالث إلى دول العالم الأول، و أفاض في مدح الشاه وما فعله لبلاده، وما حققه من معجزات التنمية. ومضت الأيام وسقط الشاه وجاء نوع آخر من الحكم قيل إنه حكم (رجال الدين) أو (الملالي) فعاد هذا الصحافي نفسه إلى الحديث عن أن الفقهاء لا يصلحون للحكم والسياسة، وهذه أفعالهم تدل على عنفهم وقسوتهم ووحشيتهم، وأضاف بأنهم مغفلون في مجال السياسة التي تتطلب قدراً من الحنكة والخبرة والدهاء.

      تعجبت من هذه النقلة في فكر شخص لديه من الإمكانات للاطلاع على كثير من الأسرار التي تغيب على معظم الناس. فهل كان يظن أني نسيت حديثه الأول. أين كان فهمه وإدراكه حينما تحدث عن عظمة الشاه من المظالم الاجتماعية التي كانت تسود البلاد، أين كان عن فساد أجهزة المخابرات التي كانت تأخذ الناس بالظنة وبالوشاية وتأخذ الطائع بالعاصي؟ هل كان جاهلاً بكل ذلك أو كان يريد مني أن أقبل ما يقول وأسلّم له؟

     إن موضوع الإسلاميين والسياسة موضوع لا يحتاج إلى كل هذه الضجة لولا أن كثيرا من المفاهيم قد تشوهت وكثيرا من الحقائق قد غابت أو غيّبت. هذا الموضوع يحتاج منّا إلى إحساس بالتاريخ قبل المعرفة الحقيقة الموثقة. إننا إذا تساءلنا عن التدين والسياسة نقع في تجاهل أساس مهم من أسـس العقيدة الإسلامية. لقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم فكان رسولا نبياً، وقائداً عسكريا وقاضيا وحاكما إدارياً وزعيماً سياسياً. ويكفي أن يطلع الإنسان على أي كتاب في السيرة ليدرك هذا. ولكني احب أن أذكر كتاب العلامة عبد الحي الكتاني المعنون التراتيب الإدارية أو الحكومة النبوية ففيه تفصيل رائع لهذا الأمر.

     وجاء الخلفاء الراشدون فكانوا رؤساء دول وحكاماً سياسيين، فهذه الدولة الإسلامية في عهد الحليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تضم الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر، ودام حكمه أكثر من عشر سنوات مارس فيها السياسة بكل تفاصيلها ومعانيها. ولقد كان لعمر بن الخطاب مجلس شوراه، وأجرى الاستفتاءات الشعبية العامة، -ولم تكن نتائجها كتلك المحددة سلفا- فعندمـا فتـح المسلمون أرض السواد(العراق) وحدث خلاف حول تقسيم الأرض ولم يبق أحـد له رأي مخالف سوى بلال بن رباح رضي الله عنه فلم يجبره ابن الخطاب رضي الله عنه أن يغير رأيـه ولم يعاقبه على أن له رأيا يخالف الحاكم بل ما كان من عمر إلاّ أن أخذ يدعو الله عز وجل أن يشرح صدر بلال إلى الحق. وقد تناول أبو يوسف صاحب كتاب الخراج هذه المسألة في مقدمة الكتاب الذي يعد بمنزلة النصيحة الموجهة لهارون الرشيد.

      ولو رجعنا إلى كتب الأحكام السلطانية التي تمثل الفكر السياسي الإسلامي لوجدنا أن من شـروط الحاكم المسلم أن يتصف ب (العدالة الجامعة لشروطها) ولو فسرنا هذه العبارة بلغة العصر نجدها  تعني أن يكون متدينا أو أن يكون من الإسلاميين، وهذا التدين هو ما يحلو للإعلام الغربي أن يطلق عليه التشدد والتطرف والأصولية وقد أصابت العدوى الإعلام الإسلامي فنسي مصطلحاته وقـلد مصطلحات الإعلام الغربي. ولو رجعنا إلى التاريخ الإسلامي وطبقنا شرط العدالة هذا نجد أنه لا يتوفر أحيانا فيكون الانحراف في السلوك الفردي للحاكم أو بعض أتباعه ولكنه لا يمكن أن يصبح تياراً يسيطر على الأمة، بل كان هؤلاء الحكام مدافعين عن الشريعة الإسلامية حماة لها.

     وثمة شرط آخر يجب أن يتصف به الحاكم المسلم وهو (العلم) الذي يرى بعض الفقهاء أنه يجب أن يصل درجة الاجتهاد. ولو استعرضنا التاريخ الإسلامي على مدى ألف عام وزيادة لوجدنا العلماء الحكام أو الفقهاء الحكام، وتبدأ هذه السلسلة المباركة بالخلفاء الراشدين فقد كانوا من أعلم الأمـة بالإسلام، ثم جاء معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان من خلفاء بني أمية العلماء عمر بن عبد العزيز و عبد الملك بن مروان. وتواصلت هذه السلسلة حتى عصرنا الحاضر.

        هكذا كان تاريخ هذه الأمة فمتى أصبح المتدينون شبحا مخيفاً لقد أصبحوا هكذا عندما خافهم الغرب على مصالحه أو توهم أنهم خطر على مصالحه. فأصبحوا مشجبا تعلق عليه كل العيوب والآثام حتى تفنن من المسلمين من وصفهم بالظلاميين بدل الإسلاميين، وأطلق التنوير على الإظلام الذي جاء به لويس عوض وعلى عبد الرازق وسلامة موسى وطه حسين وغيرهم.

     إن الأمة الإسلامية لمن أعرق الأمم في التسامح واتساع الأفق والانفتاح على الثقافات الأخـرى إذا لم يصل الأمر إلى الطعن في العقيدة، وهذه الفرق التي ظهرت في تاريخ هذه الأمة رغم خطورة معظمها ووجود عناصر خارجية فيها إلاّ إن المسلمين تركوها وناظروها، أليس في هذه الأعداد الضخمة من المخطوطات والكتب ما يدل على التسامح .  

      أما اتهام الإسلاميين أو المتدينين بأنهم سيستبدون إذا ما وصلوا إلى الحكم، فأين الدليل على هذا الاتهام، وكأني بأصحاب هذا الاتهام كما يقول المثل (رمتني بدائها وانسلت) وقديما قال المتنبي في أمثال هؤلاء:

 إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه        وصدّ ق ما يعتاد من توهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية