محاضرة الشيخ سعيد حوّى رحمه الله-مدرج كلية العلوم جامعة الملك عبد العزيز عام 1394هـ/1974م


فذلكة: كنت من أعضاء منتدى برنامج ساعة حوار فأتي أحد الأعضاء بهذه المحاضرة القيمة، وقد حضرتها في جدة وكانت مهرجاناً حقاً رحم الله الشيخ سعيد حوى وجزى الله خيراً من جعل تلك المحاضرة ممكنة

 

  • الجزء الأول


الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله ـصلى الله عليه وسلم ـ و آله أجمعين ..

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك و ارزقنا حفظ أمانتك ..

 

اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ..

 

اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه و نستغفرك لما لا نعلمه ..

 

أنت ولينا في الدنيا و الآخرة توفنا مسلمين و ألحقنا بالصالحين ..

 

أيها الأخوة اعتبر هذه الجلسة جلسة أسرية، ولذلك أرجو أن أتكلم فيها على السجية ثم بعد ذلك أجيب عن الأسئلة كذلك على السجية ..

 

و أرجوا أن لا يحاسبني أحدٌ إلا على خطأ شرعي.

 

اللذين يتكلمون في قضية الحضارة يعتبرون أن الحضارة هي حصيلة ثقافة ومدنية فحضارة أمة مّا هي مجموع ثقافتها ومدنيتها، فعندما تكون أمة ذات ثقافة متقدمة و مدنية متقدمة فإنها تكون أمة ذات حضارة متقدمة.

 

أمّا عندما تكون أمة ذات مدنية متخلفة وذات ثقافة متخلفة فهذا يعني أنها أمة ذات حضارة متخلفة.

 

و قد نجد أحيانًا أمةً متقدمة ثقافيًا .. متخلفة مدنيًا ..وقد نجد أمة متخلفة ثقافيًا .. متقدمة مدنيًا ..

 

فماذا تعني كلمة المدنية؟ و ماذا تعني كلمة الثقافة؟

 

اللذين ذهبوا إلى هذا المصطلح قالوا بأن الجانب المدني في حضارة أمة يعني مصانعها، بنائها، كل ما له علاقة بالجانب المادي في حياتها و يدخل في ذلك العلوم اللازمة من أجل بناء الجانب المادي كذلك.

 

فهذا الجانب من العلوم و هو جزء من الثقافة يعتبر جزءًا من المدنية على اعتبار أن التقدم المادي في الأمة لابد أن يبتني على علوم فهذه العلوم تعتبر كذلك جزءًا من مدنية الأمة.

 

أمّا الجانب الثقافي، فهو الجانب الآخر، الجانب الذي له صلة بتصورات الأمة الذي له صلة بعاداتها .. الذي له صلة بأسلوب حياتها .. الذي له صلة بما تعتمده من أخلاقيات وبما تعتمده كذلك من قوانين، و بما تعتمده من نظم إلى غير ذلك مما هو في الجانب الثاني من قضية الحضارة.

 

كثيرون يختلط عليهم الأمر في هذا الشأن، يختلط عليهم التقدم المدني مع التقدم الثقافي فيظنون أنّ كلّ تقدم مدني يعني تقدمًا ثقافيًا بالاصطلاح الذي ذكرته وهذا خطأ ويبنى على هذا الخطأ أشياء كثيرة. ومن جملة هذه الأشياء التي تبنى على هذا الخطأ .. أن كثيرًا من الأمم التي عندها تقدم مدني تحاول أن تدعوا إلى نظامها، على أنه هو الصورة الحيدة للتقدم.

 

هذه القضية تستغل استغلالاً كبيراً في العالم الآن، وأكثر ما تستغل على أرضنا الإسلامية نحن. فنجد الفكر الشيوعي مثلاً يطرح على أرضنا المقولة التالية: لن تكونوا تقدميين ولا متقدمين إلا إذا صرتم شيوعيين، فهذه هي الصورة الوحيدة للتقدم.

 

و نجد الفكر الرأسمالي كذلك يطرح هذه المقولة على الأرض الإسلامية، ما لم تكونوا منصهرين في الحضارة الغربية فإنكم ستكونون متخلفين.

 

هذه المقولات التي تطرح على أرضنا تجعلنا نناقش هذه القضية ببساطة و بوضوح و بتأنٍ كذلك .

 

و ليكن هذا الموضوع هو البداية لموضوعنا الرئيسي .

 

نحن نلاحظ أن التقدم المدني مع تعدد الأنظمة فلا يشك أحد أن هناك تقدمًا مدنيًا في الغرب و لا يشك أحد أن هناك تقدمًا مدنيًا في الشرق.

 

فنحن نلاحظ تقدمًا مدنيًا في البلاد الشيوعية ..نحن نلاحظ تقدمًا مدنيًا في البلاد الرأسمالية ..نحن نلاحظ تقدمًا مدنيًا أحيانًا حيث لا دين. ونلاحظ تقدمًا مدنيًا حيث يوجد دينٌ من الأديان محل نظر عند أي عقل منصف في هذا العالم .

 

مثلاً: أن اليابان استطاعت أن توجد تقدمًا مدنيًا على أرضها رغم أنها انطلقت من أجل الوصول إلى هذا التقدم المدني، من خلال دين ..هذا الدين لا يستطيع عقل أن يقبله إطلاقًا ..العقل البشري أصبح من البديهيات عنده أن البشر لا يمكن أن يكون إلها..وإذن .. فعندما ننظر هذه النظرة فنجد أن تقدمًا مدنيًا يوجد في ظل نظام، و تقدمًا مدنيًا يوجد في ظل نظام آخر، هذا يجعلنا ندرك أن للتقدم المدني قوانين، متى ما وجدت هذه القوانين وجد التقدم المدني، فما هي هذه القوانين؟

 

بعض الكاتبين يقول: إن للتقدم المدني عوامل رئيسية وعوامل مساعدة، فإذا وجدت العوامل الرئيسية والعوامل المساعدة فإنه لابد أن يوجد تقدم مدني .

 

هذه العوامل الرئيسية هي:أن تمتلك أمة من الأمم اختصاصيين في كل نوع من أنواع العلوم التي تحتاجها إقامة الحياة؛ فحيث ما استطاعت أمة أن توجد اختصاصيين يغطون جوانب الحياة كلها ، فإن هذه الأمة تكون قد وضعت قدمها في الطريق إلى تقدم مدني .. هذه واحدة .

 

الشيء الثاني من العوامل الرئيسية في التقدم المدني أن تستطيع أمة من الأمم أن تستفيد من خيرات أرضها ظاهرها و باطنها فحيث ما استطاعت أن لا تبقي جزءًا من المواد الخام في أرضها إلا و هي قد وصلت إليه و حاولت أن تستفيد منه و أن تصنعه و أن تنتجه فإن هذه الأمة تكون قد خطت خطوة ثانية على طريق التقدم المدني.

 

العامل الرئيسي الثالث الذي إذا وجد يكون عاملاً من عوامل التقدم المدني هو:استغلال الوقت ..فالأمة التي تستطيع أن تجعل وقت أفرادها منتجًا هذه الأمة تكون قد سارت كذلك في طريق التقدم المدني فحيث ما كان وقتٌ مستغل مع اختصاصات تغطي حاجات الأمة مع استغلال كامل للتراب فإن العوامل المساعدة التي تسارع في وجود التقدم المدني فإنها كثيرة، من جملتها: استمرار النظام، من جملتها أن تكون هناك ثقة بين الشعب و بين حكومته من جملتها ..أن يكون هناك تصور واضح عن ما ينبغي فعله ..

 

أشياء كثيرة .. كلها تساعد على التقدم المدني ..فحيث ما وجدت هذه الأشياء فإن تقدمًا مدنيًا يوجد بشكل تلقائي وحيث ما تخلفت هذه الأشياء فإن تخلفًا مدنيًا يكون موجودًا .

 

لنضرب أمثلة على ذلك :

 

* في الحرب العالمية الثانية نلاحظ أن ألمانيا قد أصبحت تحت الصفر. مصانعها تقريبًا إما محطمة و إما مصابة..أبنيتها محطمة، شبانها قتلى، فرضت عليها معاهدات قاسية، حتى اختصاصيوها أخذوا منها، و مع ذلك خلال 20 سنة فقط نلاحظ أن ألمانيا الغربية مثلاً عادت مرّة ثانية لتشكل دولة منافسة في العالم.

 

لنرجع عند النقاط التي ذكرناها ..نلاحظأن كل جانب من جوانب الحياة فيه اختصاصيون فمجموع الاختصاصات التي تحتاجها الأمة مغطاة. الأرض، لا تجد شبرا من الأرض إلا و هو يستغل، لا تجد مادة من المواد الخام إلا و هو يستغل.

 

الوقت، اعتمد الألمان بعد الحرب العالمية الثانية مبدأ أن على كل ألماني أن يعمل 8ساعات لنفسه و ساعتين لبناء ألمانيا، و إذن فكل فرد من أفراد الشعب الألماني كان يعمل يوميًا 10 ساعات ومن ثم فإننا نلاحظ أن هذه الأمة استطاعت أن تعود مرّة ثانية إلى ذروة في التقدم المدني بعد أن تحطمت خلال فترة قليلة من الزمن.

 

بينما نجد أن شعوبًا أخرى بقيت على حالها تقريبًا، لماذا ؟

 

أمَّا الاختصاصين فغير موجودين وإذا وُجِدوا فإنهم لا يغطون احتياجات الأمة، و إذا وجدوا فقد يكلفون بغير اختصاصهم، أمّا الوقت ففي كثير من شعوب العالم المتخلفة نجد أن بعض الناس لا يعملون إلا خلال موسم من المواسم، بعضهم لا يعمل إلا ساعتين، قسم كبير منهم لا يعمل أبدًا .فالوقت إذن معطل .

 

الأرض، لا ظاهرها يستغل ولا باطنها كذلك يستغل استغلالاً كاملاً .

 

فعندما تكون أمةٌ هذا شأنها فإنه لشيء عادي تمامًا أن تبقى في دائرة التخلف المدني. فالتقدم المدني إذن إنما هو حصيلة لاستغلال الوقت بشكل كامل .واستغلال التراب بشكل كامل ..

 

و لوجود الاختصاصيين الذين يغطون احتياجات الأمة .

 

فإن التقدم المدني لابد أن يكون موجودًا فإذا ما وُجدت العوامل المساعدة فإن طفرة كبيرة تتم في قضية التقدم المدني.

 

هذه القضايا الثلاث نحب أن نبين حكم الإسلام فيها :

 

أولاً: قضية الاختصاص .

 

نلاحظ أن علماء المسلمين وفقهائهم خلال العصور عندما تحدثوا عن العلوم قالوا: (إن من العلوم ما هو مفروض فرض عين على كل مسلم، ومن العلوم ما هو مفروض فرض كفاية على مجموع المسلمين) ثم قالوا: (إن كل علم يحتاجه المسلمون في أمر دينهم ودنياهم يفترض فرض كفاية على مجموع المسلمين بحيث يكون في هذا العلم اختصاصيون يغطون احتياجات الأمة)

 

وعندما يمثلون لهذه القضية لا يتركون جانبًا من الجوانب إلا ويمثلون له، حتى القضايا السياسية، حتى القضايا الصناعية، ولذلك تجدهم يقولون : (لو احتاج المسلمون لصناعة إبرة و لم يوجد بين المسلمين من يحسن صناعتها فكل المسلمون آثمون).

 

طبق هذه القاعدة ..كل علم يحتاجه المسلمون في أمر دينهم ودنياهم فهو فرض كفاية يأثم كل المسلمين إذا لم يوجد عندهم من يغطي احتياجات الأمة في ذلك .

 

الصناعات، كل الصناعات هي إذن من باب فروض الكفايات، فلو أن صناعة من الصناعات لم يوجد بين المسلمين من يتقنها فكل المسلمين آثمون.

 

يدخل في ذلك صناعة (السيارات، أو إطارات، أو دبابات أو بواخر أو أدوية..أو غير ذلك) كل علم يحتاجه المسلمون فهو فرض كفاية و المسلمون كلهم آثمون إذا لم يوجد عندهم من يضم اختصاصًا من الاختصاصات ..

 

و أن لا نقدمه نظريًا بل أن يقدمه عمليًا ..يعني لو أن صناعة القنبلة الذرية مثلاً لم تقم على أرضنا فإن الإثم لا يزال باقيًا على مجموع الأمة الإسلامية، و هذا يعني أنه حتى لو وُجد عندنا عُلماء في الذرة فإن ذلك لا يسقط الإثم عن مجموع الأمة الإسلامية فالعلم الذي يسقط الإثم هو العلم الذي يتمثل على أرض الواقع عملاً ..

 

هذا في الاختصاصات الدنيوية، أما في الاختصاصات الدينية فالأمر كذلك .

 

لابد أن يكون في المسلمين علماء قادرون على أن يكون في المسلمين علماء قادرون على أن يضعوا كل شيء في محله ..لابد أن يكون في هذه علماء في الفقه، وفي القراءات وفي مجابهة التيارات الكافرة بحيث لو خلت الأمة الإسلامية من ناس قادرين على مواجهة التيارات الكافرة على إقامة الحجة عليها فإن الأمة الإسلامية كلها تكون آثمة.

 

هذه القاعدة البسيطة التي يمر عليها الواحد منّا كثيرًا ونجدها مكتوبة أحيانًا في مقدمات الفكر عندنا.

 

هذه المقدمة البسيطة لو أننا عرفناها وعرفنا مدلولها ووضعنا قدمنا من أجل الوصول إليها و كان اللذين يشتغلون بالتخطيط لهذه الأمة مستوعبين لها فأحصوا مجموع الاختصاصات التي تحتاجها الأمة ثم بعد ذلك دفعوا شعوب العالم الإسلامي شبابه و طلابه نحو تحقيق هذه الاختصاصات كلها و بذلت الجهود من أجل أن تقوم هذه الأمور على أرض الواقع حقيقة كاملة فإن شيئًا كثيرًا يكون قد وُجد ..

 

وإذن فعندما نرى شعبًا يدين بالإسلام ونجده متخلفًا ومرجع تخلفه يعود إلى عدم وجود الاختصاصات التي تغطي احتياجاته. فإن الذنب في هذه الحالة ذنب الإسلام كما يحاول أعداء الإسلام أن يصوروا ذلك بالنسبة للوقت..الوقت عندنا في الإسلام لابد أن يكون مستفادًا منه إمّا في أمر دنيا و إمّا في أمر دين و لذلك فإننا نلاحظ أن كل الوقت الذي يذهب هدرًا فإن الله عز وجل سيسألنا عنه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ثم كان من الأمور الرئيسية التي يُسأل عنها الإنسان يوم القيامة عُمره فيما أفناه ..

 

الوقت عندنا في الإسلام إذن شيءٌ ثمين هو الحياة نفسها دفعنا الإسلام لأن نقضي هذا الوقت إمّا في أمر دنيا و إمّا في أمر دين ومن ثم فإنه لا محل عندنا في مجتمع إسلامي لحالةٍ لا يكون الإنسان فيها في أمر دنيا أو في أمر دين مع ملاحظة أن الحالات التي أُبيح فيها أوقات اللهو هذه الحالات هي نفسها تحقق مقاصد مشروعة في الحياة هي في نفسها تصل بالإنسان إلى أن يحقق شيئا منتجًا..هي في نفسها تحقق أهدافًا ..

 

فالوقت عندنا إذن لا يمكن أن يكون ضائعًا..إذن ما وُجد المسلم الذي فهم الإسلام و التزم به ..أمّا التراب .. فإن الله عز و جل يقول:ـ{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} فالأرض إذن مسخرة لك أيها الإنسان و عليك أن تستفيد منها ..

 

الله عز و جل يقول:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}فالسماوات مسخرة لك أيها الإنسان والأرض مسخرة لك ..

 

و إذا كانت السموات والأرض مسخرتين لك أيها الإنسان فإن الطريق مفتوح أمامك من أجل أن تستفيد مما ف السماوات والأرض ..ليست الأرض وحدها مسخرة لك بل السماوات مسخرة لك .. فإن استطعت أن تستفيد مما في السموات .. فالطريق مفتوح أمامك..إذا استطعت أن تصل إلى القمر لتستفيد مما فيه..فالطريق مفتوح أمامك..وإذا استطعت أن تصل إلى المريخ لتستفيد منه فالطريق مفتوح أمامك ..

 

الله عز و جل يقول: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} تعلمون أن هذه الصيغة

 

صيغة (استعمركم) تفيد أنه طلب منا أن نعمرها ..

 

وإذ نرجع إلى النقطة الأولى .. وهي أنه في ظل الإسلام لا يكفي أن يوجد المختص، ولكن ينبغي أن يكون اختصاصه قائمًا على أرض الواقع، إذا ربطنا ما بين هذه النقطة والنقطة الأولى فإنه في ظل الإسلام لابد أن يكون كل شيء في أرضنا مستغلاً ..

 

المواد الخام لابد أن تستغل .. والأرض المزروعة لابد أن تزرع ..وكل ذلك على أكمل ما ينبغي أن يكون عليه الاستغلال .. و إذن فعندما تكون تربية إسلامية .. و عندما يكون هناك تعليم إسلامي ..

 

يُلاحظ فروض العين ويلاحظ فروض الكفاية فإن التقدم المدني على الأرض الإسلامية لابد أن يوجد..وليس هذا من باب النوافل .. بل هو من باب الفرائض ..

 

احسبوا الآن كم هذه الأمة آثمة .. ومن الذي يتحمل هذا الوزر؟

 

لو أنك استعرضت أنواع الأدوية التي يحتاجها المسلمون وعرفت أن كل دواء لا يصنع على أرضنا .. نحن آثمون بسبب الإهمال فيه ..

 

ولو أنك حسبت مجموع الصناعات التي نعيش فيها على معامل غيرنا ولو أنك حسبت غير ذلك لوجدت أن هناك آلافًا بل عشرات الآلاف من الاختصاصات كلها نحن مطالبون بها وكلنا  آثمون بسبب إهمالها ..

 

هذا هو ما يعطيه إياه إسلامنا في هذا المقام ..

 

وإذن فاللذين يريدون أن يدعونا نحن المسلمين للتخلي عن إسلامنا بحجة أن إسلامنا يحول بيننا وبين التقدم هؤلاء عليهم أن يعرفوا أنهم مخطئون .. وعلينا بنفس الوقت أن نحاسبهم فنقول..نقول لكل الشعوب غير المسلمة في العالم إنكم متخلفون ثقافيًا وبالتالي فإنكم لستم متحضرين ..

 

أيها الإخوة لابد أن يكون واضحًا في الأذهان تمامًا أن التقدم المدني لا يعني بالضرورة تقدمًا ثقافيًا .. فقد يوجد تقدم مدني في أمة .. تصوراتها خاطئة .. أخلاقياتها ناقصة .. سلوكها فاسد .. ثقافتها بالتالي خاطئة ..وهي بالتالي متخلفة .. إن التقدم المدني لا يعني بالضرورة تقدمًا ثقافيًا ..

 

هذه قضية ينبغي أن نقف عندها وقفة ..

 

لو أننا تصورنا أن مجموعة من الناس سَرَقة و مجرمين و وضعوا لأنفسهم خطة .. هذه الخطة تجعلهم يصلون إلى كل ما هو نفيس من خلال السرقة و الإجرام على هذه الأرض ليقيموا من خلال هذه النفائس بناءًا فخمًا ضخمًا ومليئًا بهذه النفائس فهل نعتبر هؤلاء أصحاب حضارة؟! هؤلاء من الناحية المدنية قدموا لنا تحفة نفيسة تجمعت فيها نفائس فعندما تنظر إليها تجد فيها جمالاً وتجد فيها إبداعًا ونجد فيها كمالاً ولكن من خلال التواطؤ على السرقة والإجرام فهل نعتبر أمثال هؤلاء متحضرين لأنهم استطاعوا أن يوجدوا أثرًا ماديًا فخمًا ..

 

لابد إذا أن يكون واضحًا في الأذهان أن التقدم المدني لا يعني تقدمًا ثقافيًا بالضرورة ..

 

قد يوجد تقدم مدني مع تقدم ثقافي ولكن قد نجد تقدمًا مدنيًا دون تقدم ثقافي ..وقد نجد تقدمًا ثقافيًا دون أن يكون هناك تقدم مدني ..

 

نحن أيها الإخوة نعتبر هذا العالم كله متخلفًا ثقافيًا والدليل معنا وبأيدينا ..نحاسب العالم و نقيم عليه الحجة على أنه متخلفٌ مدنيًا من خلال ما تواطأ العالم على اعتباره ..

 

العالم أيها الأخوة الآن يقدس شعار الحرية فلنناقش العالم في قضية الحرية هذه ..

 

في النظام الغربي الحرية ليس لها حدود إلا حدود القانون، والقانون لا يتدخل في كثير من الأمور ومن ثم فإن حرية الإنسان مطلقة في كثير من دوائر الشر.. مطلقة في كثير من الدوائر التي تخالف العقل .. مطلقة في كثير من الدوائر التي تخالف العلم ..

 

العلم يقول بأن أضرار الزنا كثيرة ومع ذلك فالزنا مباح..العلم يقول إن الخمر مضر ومع ذلك فالخمر مباح ..العلم يقول بأن الأفيون والحشيش يقتلان الشعوب ومع ذلك فإننا نجد كثيرًا من الشعوب تعتبر مثل هذه الأمور مباحة ..

 

في النظام الشيوعي يقال حرية ولكن كل شيء في الإنسان مستعبد ..عقله لايسمح له أن يفكر .. لايسمح له أن يناقش الخطأ ..عقله مستعبد للفكر الخاطئ

 

نحن في الإسلام مثلاً .. نتحدى أي إنسان في العالم أن يقول أن هناك نصًا من نصوص القرآن يناقض حقيقة علمية بل نحن في الإسلام نقول إذا تبين لنا أن هناك حقيقة علمية وأن النصوص قد تعرضت لها فإننا في هذه الحالة نفهم النصوص على ضوء الحقيقة العلمية ..

 

ولابد أن يكون واضحًا أننا نفرق بين النظرية والفرضية وبين الحقيقة العلمية ..فإذا ما تأكدت لنا حقيقة علمية فإننا نفهم النصوص على ضوءها ..

 

و مما ذكره علماء الأصول من علماء المسلمين أن الحكم العقلي تُفهم على ضوءه النصوص .. و لكن

 

( الوجه الثاني )

 

لماذا؟

 

لأن نظريات أينشتاين تنقض الفكر الماركسي من أساسه..

 

كاد العالم أن يصنع القنبلة الذرية على ضوء نظريات أينشتاين والإتحاد السوفيتي نفسه مشى في هذا الطريق ومع ذلك فإن إنسانًا ما لا يجرؤ على الأرض السوفييتية على أن يتبنى نظريات أينشتاين ..

 

الإنسان مستعبد بحيث لا يستطيع أن يفكر و لا أن يناقش خطأ .. فإذا قال الحزب هذا الشيء هو كذا فينبغي أن يقول الجميع هو كذا ثم إذا تبين للحزب بعد عشرات السنين أن هذا خطأ فعلى الجميع كذلك أن يقولوا بأن هذا خطأ ..

 

و لكن لا أحد يستطيع أن يقول بأن القرار الحزبي الماضي كان خاطئًاً ..

 

لو نظرنا إلى قضية العدل ..لو نظرنا إلى قضية الحق ..لو نظرنا إلى قضية الشورى والديموقراطية ..لو حاكمنا العالم على قضية الإنسانية ..لو أننا حاكمنا العالم الموجود حاليًا بشقيه الغربي و الشرقي ..

 

فإننا نجد هؤلاء جميعًا متخلفين ..

 

عندما تحكم القوة على الحق .. هل يمكن أن نعتبر أمة هذا شأنها متقدمة ..

 

عندما تكون القوة هي التي تحكم الحق..هل تستطيع أن نعتبر أمة هذا تفكيرها متقدمة ..

 

انظروا إلى العالم الآن. فماذا تجدون فيه .. تجدون دائمًا القوة هي التي تحكم الحق ..

 

أمّا الصورة المشرقة التي نجدها في تاريخنا حيث تجد الحق هو الذي يحكم القوة فهذا الشيء لا تجده الآن في هذا العصر إطلاقًا ..

 

و هذه تجربتنا في قضية فلسطين تبين لنا هذا الأمر بوضوح تمامًا ..

 

أهل سمرقند في يوم من الأيام احتكموا إلى عمر بن عبد العزيز شكوا له أن الجيش الإسلامي غدرهم، فعين لهم عمر بن عبد العزيز قاضيًا مسلمًا يحكم بينهم وبين الجيش المسلم وحكم القاضي المسلم لأهل سمرقند على الجيش الإسلامي وأمره أن ينسحب من المدينة و قرر المسلمون أن ينسحبوا ثم بعد ذلك أهل سمرقند قالوا: رضينا ..

 

فها هنا تجدون أن القوة في الإسلام يحكمها الحق .. و لكن في عالمنا الذي نجده الآن نلاحظ أن الحق محكوم بالقوة .. فالقوة لها بأنها قوة سلطان .. بأنها قوة ..

 

أبرز مثال على ذلك قضية الفيتو مثلاً في مجلس الأمن .. من الذي يعطى حق الفيتو؟..

 

تعطاه الأمم القوية لأنها قوية تعطى هذا الحق .. هذا نموذج بسيط على أن هذا العالم الذي نعيش فيه الآن هو من ناحية المدنية متقدم ولكن هناك تخلفٌ في جانب آخر ..

 

في قضايا الديموقراطية..أن تنبثق قيادات الشعوب عن شعوبها ..

 

هذا شيء طيب ولكن أن يكون للشعوب بأكثريتها حق التغيير و التبديل في كل شيء ولو كان ذلك على حساب الحق والعدل ..

 

هل هذه نظرية صحيحة .. خاصة إذا عرفنا أن قضية الأكثرية هذه تتلاعب فيها أشياء كثيرة .. تتلاعب فيها الأهواء ..وتتلاعب فيها المصالح ..وتتلاعب فيها رؤوس الأموال ..و يتلاعب فيها اللذين يريدون إفسادًا في الأرض كذلك .

 

من خلال نظريات الديموقراطية المعاصرة..تجد أن ما يمكن أن يكون اليوم حقًا بعد فترة من الزمان يصبح باطلاً ..

 

ومن ثم فإنك لا تجد ثباتًا على قيمة من القيم .. لننظر بعد ما أوصلت إليه الديموقراطية في بعض البلدان..من خلال نموذج ندرك من خلاله .. كيف أن الديموقراطية المقدسة عندهم .. كيف أنها ليست معقولة في وضعها الذي أرادوه ..هذا النموذج هو ما له علاقة في بعض شؤون الحياة الجنسية ..

 

نحن نعلم أن الله عز و جل قد ركب الشهوة الجنسية عند النساء والرجال .. كما ركبها في ذكور الحيوانات وإناثها ..

 

وجعل الله عز و جل دافعًا عند الذكر نحو الأنثى  ودافعًا عند الأنثى نحو الذكر لأجل أن يبقى النوع فعندما يحدث زواجٌ بين رجل وامرأة يبقى النوع البشري .. وإذن هذا النوع من الصلة الجنسية له مبرره .. و هو بقاء النوع ..

 

عندما يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء فماذا يحدث للعالم؟

 

يترتب على ذلك فناء النوع .. خلال فترة بسيطة من الزمان ..

 

البشرية خلال عصورها متواطئة على أن اكتفاء الرجال بالرجال والنساء بالنساء قضية غير معقولة و لا مقبولة .. و لكن عندما توصل الديموقراطية بعض البلدان إلى أن تعتبر جريمة اللواط مباحة !! فهل يمكن أن يكون النظام الذي أوصل إلى مثل هذا المعنى نظام مقبول؟!

 

الشورى في حياة الأمة أمر لابد منه لما لذلك من آثار كبيرة على الأمة، فالشورى بقدر ما تعمم في أمة فإن هذه الأمة تنمو .. عندما يكون كل فردٍ من الأفراد يشارك في قضايا أمته ويبدي رأيه فيها فإن هذا يؤدي إلى نمو مجموع أبناء الأمة ..

 

الشورى تبعد الشعوب على أن تتخذ قرارًا خاطئًا ..

 

الشورى تبعد الأمم من أن تستطيع قيادتها من أن تتعرف بها ..

 

الشورى تجعل عقل الأمة وتجربة الأمة في حالات كمال لأن كل إنسان يضيف نتائج تجربته وآثار طاقة عقله إلى آثار طاقات عقول الآخرين .. وإلى نتائج تجاربهم وبهذا فالأمة دائمًا تكون قراراتها أحكم .. تكون قراراتها أسلم .. فالشورى إذن لابد منها في حياة الشعوب و لكن هل في قضايا الحق هناك محلٌ للشورى ؟

 

إن هناك بديهيات وأساسيات لا ينبغي أن تكون محل شورى إطلاقًا ..

 

في نظامنا الإسلامي حيث ما كان النص موجودًا فلا محل للشورى 

 

والنص قدم لنا كل ما يحتاجه الإنسان ..النص أطلق طاقات الإنسان ..

 

النص عرف الإنسان على الأساسيات والبديهيات .. ومن ثم تجدون في نظامنا الإسلامي كيف أنه اجتمعت الشورى في حياة الأمة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي وأمر المسلمين شورى بين المسلمين كلُّ أمرٍ يخص المسلمين جميعًا..فهو شورى بين المسلمين جميعًا ..

 

 فدائرة الشورى واسعة جدًا ولكن لا شورى حيث بديهيات ..

 

لا شورى حيث أساسيات ..

 

لا شورى حيث نص والنص عدلٌ كله .. حق كله .. كامل كله ..

 

عندما ننظر إلى الحياة المعاصرة لغير المسلمين فإنك تجد صورًا .. هذه الصور لا يمكن أن يعتبرها ذو عقل مظهرًا من مظاهر التقدم في الحياة الإنسانية ..

 

البشرية لم تزل تعتبر كلمة إنسانيًا كلمة مدحٍ و ثناء ..

 

فعندما أقول فلانٌ عنده نزعة إنسانية .. البشرية لم تزل تعتبر أن هذه كلمة ثناء و مدح ..

 

و البشرية لم تزل تعتبر أن كلمة حيواني .. هي نوع من أنواع السباب ولكن ..

 

أُدرس الآن واقع العالم فإنك تجد أن كيرًا من نزعات الشعوب المعاصرة تعتبر الحيوانية مثلها الأعلى .. خذ مثلاً على ذلك ..

 

ظاهرة نوادي العري .. ماذا تعني هذه الظاهرة؟ ..أن تكون هناك منطقة تأخذ شكل الغابة هذه المنطقة لا يدخلها إنسان سواء كان رجلاً أو امرأة إلا كان عاريًا !!..

 

الشعب الذي يقر ذلك .. والناس اللذين يمارسون ذلك هؤلاء كيف تفكيرهم؟

 

أليس عملهم هذا دليلاً على أنهم يعتبرون الحياة الحيوانية مثلهم الأعلى ..

 

فعندما يصل الإنسان إلى حالة يعتبر الحيوانية فيها مثله الأعلى ..

 

هل يمكن أن نعتبر مثل هذا الإنسان متقدمًا ثقافيًا؟!

 

هذه الأجيال التي نجدها مبعثرة ها هنا و ها هنا في العالم .. والتي تنظر إلى هذه الاندفاعات المتمثلة التي تنظر إلى هذه الاندفاعات على أنها شيء عادي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية