ذات صباح في تايبيه




حيث تشرق الشمس في تايوان قبل جزيرة العرب بخمس ساعات وعلى الساعة السابعة والربع صباحاً أقف أمام أحد المتاجر الذي يعمل فيه ما لا يقل عن عشرة أشخاص اصطفوا خارج المتجر ليقوموا بتمارين رياضية يحركون أذرعهم وأجسامهم في تدريبات تنشط الجسم، وهو فيما يبدوا واجب لا يمكن أن يتخلى عنه أحد، وفي بعض الأماكن يكون هناك سمّاعة كبيرة لتسمعهم بعض الموسيقى. وأحياناً يكون هناك من يدربهم أو يقوم بالحركات أمامهم وهم يتابعونه. وقد لاحظت أن أعمار الموظفين في العشرينيات والثلاثينيات وحتى الخمسينيات وربما أكثر وبخاصة أنه من الصعب أن تعرف أعمار الصينيين ما لم تعش معهم مدة طويلة.

ولاحظت أن من لم ينتظم في تدريبات ضمن مجموعة استجابة لأوامر مدير المتجر فلن يصعب عليه أن يجد مكاناً ليطلق ساقيه للريح كما يقال. ففي وسط الازدحام الشديد وكثرة المتاجر تجد حديقة كبيرة فأتعجب كيف ينشئون الحدائق في هذه المنطقة التجارية التي يمكن أن تكون قيمة المتر الواحد بكذا وكذا. ألم يفكر شخص مسؤول كبير متنفذ أن يأخذ الأرض ويقيم فيها مبنى تجاري؟ أتعجب هل هم أذكياء أكثر منّا أو هم أغبياء؟ وأعود فأقول إنهم يرون هذه الحدائق  متنفس للبشر وكأنها رئة للمدينة. ولعل المسؤولين  عندنا يظنون أن كل مواطن لديه حديقة غناء في بيته كما هي في قصورهم فلماذا زيادة الحدائق وإضاعة الماء ونحن بلد صحراوي فإن تنزه البعض سقط عن الغالبية الجرداء كالصحراء.

سرت قليلاً في تلك المنطقة التجارية فرأيت أفواجاً من البشر تتوزع على عشرات المطاعم الصغيرة والمتوسطة والأكبر لتناول طعام الفطور، ولا بد أن لطعام الإفطار مكانة خاصة عند التايوانيين فهناك العديد من أنواع الطعام التي تطهى وأعتقد  أن هذا ينطبق على جنوب شرق آسيا عموماً. ويتكون الإفطار من الرز والمكرونة الرزية (المصنوعة من الرز) والحساءات والمسلوقات وحتى اللحوم وإن كان منها لحم الخنزير ولا أدري من أين جاءهم استهلاك هذه اللحوم، أما في اليابان فيقولون إن لحمه أرخص من لحم الأبقار والأغنام ولذلك يستهلكونه من الناحية الاقتصادية. ولكني لا أستبعد أن هناك من يحب هذا اللحم وبخاصة شرائحه المجففة في الإفطار وبعض الأجزاء الأخرى منه. وأحمد الله أننا نحن المسلمين حرّم علينا وأثبت الطب والعلم أن هذا اللحم غير صحي،ولكني يكفي أن يعرف المسلم أنه محرم حتى لا تقبله نفسه. وإن كنت في رحلة علمية إلى تونس قبل سنوات وسنوات ورافقنا شاب مسلم من المغرب كان –هداه الله- يعاقر المحرمات كلها ومنها أكل لحم الخنزير- (ﭽ                                  الزمر: ٣٧  

وابتعدت عن المطاعم قليلاً لأقف أمام إشارة ضوئية أو إشارة المرور فأرى ما يقارب الخمسين  دراجة نارية وربما يزيدون (نطلق عليها في الحجاز دبّاب) تصطف مستعدة للانطلاق لا يلوون على شيء، وهذه وسيلة رائجة هنا وفي ماليزيا وهونج كونج وربما في دول أخرى. وهي رائجة على الرغم من وجود قطار تحت أرضي أو قطار أنفاق أو مترو أنفاق. فالدراجة وسيلة سهلة للحركة ولا تكلف كثيراً من ناحية الوقود أو قيمتها أو صيانتها. ولكن لها مخاطرها الخاصة فقد امتلكت دراجة في سن السابعة عشر والثامنة عشر فلا بد لراكبها أن ينزلق وتتمزق بعض ثيابه ويجرح وقد تكون المصيبة أكبر.

اشتريت قهوة تسمى القهوة الأمريكية من أحد المطاعم المشهورة ولكنها ليست كالقهوة المركزة، وأحياناً يضطر صاحب الكيف أن يقبل بأقل مما يحب وذلك لأن المقهى الذي يوفر القهوة المركزة لا يفتح قبل الثامنة، ولجأت إلى الحديقة أحتسي القهوة وشرب القهوة يجر الذكريات فتذكرت أنني كنت أعمل في الخطوط السعودية قبل أكثر من عشرين سنة فجاءنا طلب للتصريح لطائرة تحمل أربعين طنا من النجف والثريات من تايوان إلى قصر أحد الأثرياء. فقلت أربعون طنّا مرة واحدة دفعة واحدة؟ هل رأى المسؤول هذه الثريات؟ هل اختارها أو اختارتها نساؤه أو وكلاؤه؟ هذه أربعون طنا من النجف وأنا لم أر نجفة فوق رأسي حتى بخمسين ريالاً. وكم قيمة الأربعين طنا؟ هل اشتراها بقيمتها الحقيقية أو إنها سجلت عليه بعشرة أمثال قيمتها الحقيقية أو عشرات الأمثال. يذكرون أن ثرياً احتاج مطبخه أو سفرته أدوات طعام من ملاعق وغيرها فكان أفضل نوع في السوق يساوي ستة آلاف ريال. فقال أحد العليمين بالأمر ستة آلاف! مجانين أنتم، كيف يكون سيدنا بستة آلاف اجعلوها بستين ألف فيرى أنها تليق بمقامه.

ومن أخذ البلاد بغير حرب               يهون عليه تسليم البلاد.

وكنت أدرّس مادة النظام السياسي في الإسلام فإذ بعبارة عجيبة يقولها أحد المواطنين لهارون الرشيد (يا هارون الرجل يسرف في ماله فيحجر عليه فكيف بمن يسرف في مال الأمة) وتعجبت أن يقال هذا لهارون الرشيد ولعل الرواية صحيحة، ولكنها تدل على قدرة الشعب أن يواجه الحاكم إن رأى منه إسرافاً. ولكن هارون الرشيد كان ملك العالم المعروف أو ملك أكبر دولة وكان يحج عاماً ويغزو عاماً وكانت الدولة الإسلامية في قمة عظمتها، وحتى لو صدقت الرواية فإنها تدل على ما كان يتمتع به المواطن من جرأة وحرية في التعبير.

 وعلى هذا المنوال طلب أحد الخلفاء أن يقابل سفيان الثوري، وكان سفيان من علماء التابعين العازفين عن القرب من الحكام. فقال له: "يا سفيان لم لا تأتنا فنستشيرك فما أمرتنا بشيء فعلناه وما نهيتنا عن شيء تركناه" فقال سفيان:" كم بلغت نفقتك في الحج فإني أرى عدداً كبيراً من الناس يحجون بحجك؟ فقال الخليفة لا أدري فهناك من يقوم بالأمر، فعاد سفيان للقول:" ولكني أتذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين كان في الحج سأل غلامه: كم بلغت نفقتنا في الحج؟ فقال الغلام:ثمانية عشر ديناراً يا أمير المؤمنين. وهنا قال عمر رضي الله عنه: " ويحك لقد أجحفنا بيت مال المسلمين"  ولم تذكر القصة ما حدث بين الخليفة والثوري ولكنه بلا شك لم يعجب الخليفة أن يسأله عالم عن نفقته. وربما قبل ولكن سفيان كان عازفاً عن القرب من الحكام.

وأخذت القلم وبدأت أخربش فتذكرت أنني حين كنت أعمل في الخطوط السعودية وفي إدارة الشؤون الدولية وصلت رسالة بالتلكس الذي كان يسمى السيتا، تنص على أن الصين الوطنية قررت أن تغير اسمها إلى تايوان وسيكون هذا اعتباراً من ساعة معينة وأن الخبر مازال سراً.

وكانت تايبيه في مخيلتي التعاون المشترك بين المملكة وبين تايوان في بناء خمس مستشفيات ضخمة في عدة مدن والتعاون الصحي، كما عاصرت عدداً من الأطباء الصينيين في مستشفى جدة الوطني ومنهم الدكتور وانق الذي دخلت المستشفى باسمه وكان طبيب متخصصاً في الباطنية، وكان تشخيصه لحالتي (حرارة من مصدر غير معلوم) وبقيت ثلاث أيام وانخفضت الحرارة وخرجت دون أن أعرف السبب. كما كان في المستشفى طبيبات أسنان وغير ذلك من العاملين الصينيين في المستشفى.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية