دروس من السيرة العطرة : درس التفاؤل

 

     ليلنا يطول وتشتد حلكته وتعصف بأمتنا الخطوب والمصائب والرزايا حتى لا يبدو بصيص أمل بأن لهذا الليل آخر، وأن هذه المصائب والرزايا والخطوب سترحل عن أمتنا. ولكن لا يأس مع الإيمان {إنه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون}.

      عشرة آلاف جندي من معسكر الشرك أحاطوا بالمدينة المنوّرة إحاطة السوار بالمعصم وكشف اليهود عن خبث طواياهم فأعلنت بنو قريظة نقضها للعهد فأصبح المسلمون يواجهون عدواً خارجياً وعدواً داخلياً، وهنا بلغت بالمسلمين الأمور حداً من الشدة والخوف حتى أفصح المنافقون عن مكنون أنفسهم المريضة. وإن أبلغ وصف لهذه المحنة ما جاء في القرآن الكريم حيث يقول الحق جلّ وعلى: {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} الأحزاب: 10 – 11.

     وفي مثل هذه الأثناء عرضت للمسلمين صخرة كبيرة صعب عليهم كسرها فاستعانوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الفأس وضربها فظهرت شرارة بعد الضربة الأولى فكبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم قائلاً: ((أُعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثمّ ضربها الثانية وقال : الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثمّ ضرب الثالثة وقال : الله أكبر أُعطيت مفاتيح اليمن وإني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة)) .

    وانهزم الأحزاب وتحققت بشارة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ولكن الدروس مستمرة فتكرر المشهد يوم حنين ولكن بصورة مختلفة حيث أصبح للمسلمين قوة عددية بيد أن هذه القوة العددية ليست على مستوى إيماني واحد لذلك أصاب البعض شيء من الغرور ولذلك تعرضوا لهزة عنيفة في بداية المعركة وتراجع الجيش الإسلامي لولا ثبات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعدد قليل من المسلمين وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ وليتم مدبرين} التوبة: آية 25. وكان النصر للمسلمين.

     ولما كانت سنة الله عزّ وجلّ أن يبتلي عباده بالشر وبالخير فكانت نكبة الأمة الإسلامية بالحملة الصليبية الأولى حينما تجمع رعاع أوروبا ومتوحشوها فهجموا هجمتهم الشرسة على ديار المسلمين يقتلون ويذبحون وينهبون … وكانت عودة الأمة الإسلامية إلى ربها وتوحدها تحت قيادة مؤمنة بربها صادقة مخلصة، تلك هي قيادة آل زنكي ثم صلاح الدين ودُحر الصليبيون. وانتصر المسلمون.

    وجاء المغول بتدبير مشترك مع نصارى أوروبا الحاقدين الحاسدين، وما أعجب أن يوالي النصارى هؤلاء الوثنين المتوحشين، وكانت نكبة أخرى شاء الله لهذه الأمة أن تفيق منها وتنتصر على المغول، وخاب كيد النصارى أكبر حين أصبح المغول مسلمين. وانتصر المسلمون.

     وعادت الصليبية في ثوب جديد كشوف جغرافية واستيطان ولكن بتدبير أشد خبثاً، فبعد أن خمدت أصوات السلاح شهروا في وجه المسلمين سلاحاً أشد فتكاً ذلكم هو السيطرة الثقافية والفكرية. ولئن رحلت جيوش الاحتلال لكن بقيت سيطرتهم ونفوذهم وكان من صور الصليبية الجديدة الشيوعية الملحدة التي جثمت على صدر هذه الأمة في أجزاء كبيرة من قارة آسيا وعدن والصومال وغيرها في أفريقيا وسقطت الشيوعية لتتحرر هذه البلاد بفضل الله ومنته.

     نعم إنها نكبات ورزايا كأنها حلقات متواصلة، ولكنها محن تحمل في طياتها منحاً ربانية … إن زحف روسيا الأحمر على أفغانستان أيقظ في المسلمين روح الجهاد فهبت الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها تدعم الجهاد وتسانده بالنفس والنفيس حتى إن مدينة صغيرة في أقصى الجنوب الغربي للولايات المتحدة الأمريكية استقبلت عدداً من الجرحى المجاهدين تقدم لهم العلاج تلكم هي مدينة تمبي (Tempe) بولاية أريزونا التي كانت إلى سنوات خلت تخلو من مسجد، ولا يقام فيها صلاة الجماعة فإذا بمسجد كبير في قلب المدينة الجامعية.

     وهذا هو الغرب الصليبي اليوم يشنها حرب إبادة على جمهورية البوسنة – هرسك في قلب أوروبا كأنه أغاظه أن تقوم للمسلمين دولة في قلب قارتهم، ولكنها محنة أرجو الله أن يجعل منها فرصة لإيقاظ المسلمين الغافلين المخدوعين بالغرب وقيمه وحضارته ليعلموا يقيناً أن مزاعم أوروبا وأمريكا فيما يسمونه (النظام العالمي الجديد) إنما هو استمرار لمكرهم وخداعهم، ألم تعلن فرنسا ثورتها المشهورة على الظلم والقهر، وتنادي بمبادئ حقوق الإنسان، ولكن لمن؟ للإنسان الأوروبي! لأنه لم تمضِ عشرون سنة حتى كان نابليون يغزو مصر فيقتل ويدمر ويخرب، وبعد ذلك بثلاثين سنة غزت فرنسا الجزائر تقتل الجزائريين وتنهب خيرات البلاد وتهدم مساجدها ومدارسها وتقيم السجون والمعتقلات لأبناء الجزائر كأنهم لا حظّ لهم في حقوق الإنسان المزعومة.

     ورغم هذا كله لا بد أن نتفاءل فرسولنا الحبيب صلّى الله عليه وسلّم كان يحب الفأل ويكره الطيرة، وإننا على منهجه نسير وبخطاه نقتدي فمهما كانت جرائم الصرب مروعة فلا بد أن يكون فيها خير لهذه الأمة لعلها تستيقظ وتدرك موقف أوروبا وأمريكا من هذا الدين وأهله، وعندئذ يكون لنا معهم شأن آخر.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية