مؤسسات الإصلاح الديني والأخلاقي في الغرب

بسم الله الرحمن الرحيم
تتناقل وسائل الإعلام العربية والعالمية أن العالم الغربي يمر بمرحلة هبوط أخلاقي حاد، وأن القيم والمثل الأخلاقية الرفيعة قد تراجعت وانحدرت أمام هذا الطوفان من الفساد. وقد شجع على مثل هذا التصور ما تبثه هوليود من آلاف الأفلام التي تروج لهذه الصورة، بل تدعو لها أيضاً بما تبثه من أخلاق فاسدة ودعوات رخصية للتحلل من الأخلاق والمثل والقيم. وأول مظاهر الانحدار الأخلاقي انتشار الفاحشة وشيوع العلاقات الجنسية المحرمة، وانتشار المخدرات والجريمة من سرقة واغتصاب وغير ذلك وشيوع العلاقات الجنسية المثلية، وارتفاع معدلات تعاطي المخدرات والخمور.
ولكن الباحث في المجتمعات الغربية يجد أنها لم تخل في يوم من الأيام من الدعوات الكريمة للقيم والأخلاق ومحاربة الرذيلة، وبخاصة إذا وصل الأمر حداً مبالغاً فيه كارتفاع معدلات الجريمة بين الأحداث، أو ظهور حوادث اغتصاب للقاصرات، أو الإعلان عن جرائم يقوم بها رجال الشرطة. أو تقطع أواصر المجتمع، وازدياد روح الأنانية وانخفاض روح التعاون والعمل الاجتماعي التطوعي.
وإذا انتقلنا إلى الشكوى العامة من تراجع القيم الأخلاقية فإن ما كتبه جيمس بيكر –وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق-  في مقالته التي اشار فيها إلى أزمة الأخلاق والقيم في المجتمع الأمريكي يدل دلالة واضحة على تذمر طائفة من حكماء الغرب من هذا الإنحدار. وقد ذكر بيكر أن 73في المائة من الشعب الأمريكي يشعرون بأن الأمة تعاني من انحدار أخلاقي، وازدياد الصلات الجنسيية غير الشرعية والعنف، وأن الأنظمة القضائية والتربوية عاجزة عن وقف هذا التدهور.(الشرق الأوسط 10/7/1994م) وربما كان هذا الأمر أحد الأسباب التي أدت إلى قيام بيكر بتأسيس معهده الذي يعتني أحد أقسامه بالأبحاث والدراسات الخاصة بالدين والأخلاق.
ففي قسم الدين والأخلاق اهتم المعهد بمسالة انتشار المخدرات وسبل علاجها ووضع حد لها. وقد عقد المعهد مؤتمراً عام 2002م شارك فيها أكاديميون، وخبراء صحة وقادة حركات محاربة المخدرات وممثلين عن المنظمات الخاصة بسياسات المخدرات وغيرهم لمناقشة وضع المخدرات حول العالم. (www.bakerinstitute.org ). ويأتي تصريح المعهد في صفحاته على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) بأن الحرب ضد المخدرات ليست ناحجة حتى الآن فمازالت هذه الآفة قوية وتزداد تفاقماً. ولكن المعهد يعلن عن عزمه وتصميمه على العمل مع كل الجهات المختصة للحد من هذه الظاهرة الخطيرة.
وفي الاجتماع السنوي للرابطة الأمريكية لعلماء السياسة أعلن رئيس الرابطة البروفيسور روبرت باتنام Robert D. Putnam  أن المجتمع الأمريكي يعاني من تمزق في نسيجه، وأن الأمريكيين وبخاصة من الجيل الذي ولد بعد ظهور التلفزيون لم يعودوا يشاركون في الأعمال الاجتماعية وهم أكثر انانية وقل رغبة في مساعدة الآخرين. وعزا  ذلك إلى التلفزيون.(Washington Post, September 3, 1995)
وظهر بعد بيكر وبوتنام آخرون ومن هؤلاء لجنة بن التي تهتم بشوؤن المجتمع والثقافة أعلن رئيسها عن تراجع القيم والأخلاق في المجتمع الأمريكي، وهاهي جوديث رودن تشير إلى ازدياد ما  أسمته  بـ "علامات الغضب الجامح" وهي التي تظهر على شاشات الإنترنت مشفوعة بالسادية وبقذف الآخرين) كما أن لجنة قومية أخرى أنشئت باسم "اللجنة القومية للتجدد المدني "برئاسة سام نن عضو المجلس الديموقراطي المتقاعد، ومن مهام اللجنة البحث في مجال الترفيه، والسياسة، والرياضة، والنظام القضائي."(الشرق الأوسط 11شعبان 1417هـ_21/12/1996م).انظر كذلك موقع اللجنة على الإنترنت
http://www.cpn.org/crm/essays/1stpanel1.html
 بل إن الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون أمر بتكوين " الهيئة الوطنية الاستشارية لإحياء القيم الأخلاقية" وكانت برئاسة مدير جامعة برنستون هارولد تي شابيرو، ومن أهم أعمال اللجنة الاهتمام بالقضايا الأخلاقية وضم خبراء مختصين في علم الحياة، وعلم الاجتماع، والطب، والقانون، والفلسفة بالإضافة إلى ممثلين عن المجتمع الأمريكي.(المسلمون، 11ربيع الأول 1417هـ 26 يوليه 1996م)
وتأكيداً على هذه القيم فإن العديد من الجمعيات والهيئات والكنائس قامت بعمل واضح لمواجهة أنواع الانحراف والجريمة. وسأبدأ الحديث بخبر طريف أذاعته الإذاعة الأمريكية الحكومية NPR حيث تحدث المذيع عن قيام رجل أعمال بافتتاح متجر لبيع الأدوات والمجلات الجنسية على الحدود بين ولايتين حتى يتهرب من القوانين المعمول بها في هاتين الولايتين بخصوص منع قيام مثل هذه المتاجر. فما كان من سكان القرى المجاورة إلاً الاتصال بالحكومات المحلية لإغلاق المتجار، وذكر الخبر أن من رواد هذه المتاجر قائدي الشاحنات في أثناء تنقلهم بين الولايتين، فما كان من الأهالي إلاّ الاتصال بالشركات التي تملك الشاحنات للإبلاغ عن السائقين.
        تعجبت أن يكون في المجتمع الأمريكي أناس يسعون إلى إقفال محلات الجنس وأدواته ومجلاته، بالرغم من أن القانون عموماً يسمح بمثل هذا الأمر، فأعجبني أن تكون هذه النزعة الأخلاقية موجودة؛ الأمر الذي يدل على انها نزعة إنسانية صادقة وأن الفطرة أصلاً تدعو إلى الفضيلة والأخلاق وتكره الفساد والرذيلة.
        واستخدام المرأة في الأفلام الإباحية والترويج لذلك كان سبب قيام بعض النساء في كندا بمظاهرات ضد المحلات التي تسوق أشرطة الفيديو الفاضحة، لأنهن يرين أن هذه الأشرطة تحط من مكانة المرأة ويعد من أوجه اضطهادها، وقد أوصت المحكمة بمصادرة هذا الإنتاج..(عاصم حمدان، المدينة المنورة 29/12/1412هـ)
        أما محاربة الكحول وشروره التي أسماها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم (أم الخبائث) فإن جريدة الجارديان الأسبوعية (9يونية 1996م) نشرت تقريراً مطولاً بعنوان "معركة القارورة تنطلق"(The battle of the Bottle Breaks out) ،وفيه حديث مطول عن الحرب العنيفة ضد الخمور حتى  إن شركات إنتاج الخمور رغم المبالغ الضخمة التي تنفقها في الإعلانات لمنتوجاتها بدأت تعاني من الخسارة. ومن الأمثلة على ذلك تصريح جورج هاكر George Hacker  رئيس الحملة المحاربة للخمور الذي يقول فيه: " إن أمريكا قد أصبحت أرضاً جافة حيث أعلن أربعون بالمائة من الشعب الأمريكي امتناعه عن تعاطي الخمور." ويذكر المقالة أن امرأة كانت حاملاً في الشهر التاسع وزيادة، طلبت الخمر في مطعم من المطاعم المشهور في مدينة سياتل بولاية واشنطن، فرفض النادل أن يقدم لها الخمر مما حدى بصاحب المطعم إلى فصله، وهنا وقف الرأي العام مع النادل حتى رجع إلى عمله.
وإذا انتقلنا إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي نجد الجرائم الجنسية ضد الأطفال قد اخذت حيزاً واسعاً من اهتمام الدول الأوربية فعقد مؤتمر في ستكهولم في 28 أغسطس 1996م  ليناقش الجرائم الجنسية ضد الأطفال واستغلالهم جنسياً.(الشرق الأوسط 14 ربيع الآخر 1417هـ، 28 أغسطس 1996م). ومن الدول الأوربية التي أعلنت عن تصديها لهذه المشكلة فرنسا حيث أعلنت السلطات الفرنسية حرباً واسعة على شبكات الاستغلال الجنسي للأطفال، وضاعفت من علميات الشرطة، وقامت الحكومة الفرنسية باتخاذ قوانين صارمة لمعاقبة مرتكبي الحوادث ضد الأطفال ومن ذلك إلزامهم بالعلاج الإجباري عدة سنوات.( الشرق الأوسط ، 5 ذو القعدة 1417هـ، 14/3/1997م).
 وأعلنت الحكومة الدنماركية عن سلسلة من الإجرءات ضد مواطنيها الذين يتوجهون إلى دول جنوب شرق آسيا من  أجل السياحة الجنسية أو ما أسماه السكرتير العام لجمعية حماية الأطفال الدنماركية بـ "الاغتصاب السياحي للقاصرين"( الشرق الأوسط 11 ذو القعدة 1417هـ، 20مارس 1997م)
ولما كانت أوروبا تعاني من مشكلات أخرى منها تجارة الرقيق الأبيض، فإن اللجنة العدلية التابعة لمجلس الاتحاد الأوروبي قد أعدت قانوناً خاصاً لمكافحة تجارة النساء واسترقاقهن بعد أن ازدادت نسبة جرائم الاتجار بالنساء وإجبارهن عن ممارسة البغاء.(الشرق الأوسط 21ذو الحجة 1417هـ، 28 أبريل 1997م).
وأمام تفاقم مشكلات الاغتصاب في بريطانيا؛ فقد قامت شرطة لندن بإصدار بعض التعليمات للنساء لمواجهة الاغتصاب ومن تلك التعليمات:ذ
-      الاحتشام في اللباس
-      عدم الجلوس في الحافلات في الطابق العلوي إذا كانت الحافلة خالية، والحرص على الركوب قريباً من السائق.
-      عدم وضع الأيدي في الجيوب حتى تكون المرأة مستعدة للدفاع عن نفسها.
ومع هذه التعليمات، فإن صحيفة لندن تايمز تذكر أن البوليس البريطاني يلقي اللوم على الفتيات لأنهن يعرضن مفاتنهن مما يعرضهن لحوادث الاغتصاب.(عاصم حمدان، المدينة المنورة ، 23 ربيع الأول 1415هـ 30 أغسطس 1994م.)وهذا الرأي قالت به محامية أمريكية (عجوز) قبل اكثر من ثلاثين سنة حينما انتشرت ظاهرة الاغتصاب في المجتممع الأمريكي، وطالبت النساء أن لا يخرجن وحدهن أو لا بد أن يكن دائماً برفقة أحد الأقارب( المحارم).
وقد أفادت الشرطة البريطانية من تجربة المجتمع المسلم في بريطانيا، وهذا ما سمّاه إيان موري –الكاتب في التايمز اللندنية- بقوة الشعب التي نجحت في تطهير المجتمع من منطقة الضوء الأحمر-كناية عن الدعارة والمخدرات- حيث اجتمع عدد من المسلمين بعد صلاة العشاء في مدينة بيرمنجهام، وأعدوا نقطة مراقبة للمنطقة بحيث يطردون النساء البغايا، والقوادين، ومروجي المجدارت. وقد استطاعوا القضاء على هذه الآفات خلال ثلاثة أسابيع. وقد قامت مدن ثلاث أخرى وهي ليستر، وبرادفورد وروتشديل بالتجربة نفسها. ويذكر سكان المنطقة أنهم كانوا لا يستطيعون النوم بهدوء لكثرة السيارات التي تأتي لالتقاط البغايا أو شراء المخدرات ولكن بعد هذه التجربة عاد إليهم الهدوء وأصبحوا يهنأون بالنوم.
ومن وسائل محاربة الانحلال الأخلاقي قيام جميعات تدعو إلى المحافظة على العذرية ومنها ما سمي حركة "الحب الصادق ينتظر" وتتلخص فكرتها في الدعوة إلى عدم ممارسة الجنس قبل الزواج، والمحافظة على العذرية. وقد قويت هذه الحركة وانتشرت في بريطانيا وأمريكا(الشرق الأوسط 30/1/1997م)
        وإذا كان العالم الأمريكي المتخصص في السياسة قد حذر من أخطار التلفاز فإن ثمة مجموعات ظهرت في ألمانيا تدعو إلى الحد من الإثارة والعنف والجنس في التلفزيون، وهذا ما كتبه محرر الشرق الأوسط قائلاً :" تشن الأوساط الثقافية والاجتماعية وكذلك وسائل الإعلام المكتوبة في المانيا حملة شديدة على ازدياد مظاهر العنف والجريمة والجنيس في التلفزيون الألماني...ودعت هذه الأوساط إلى ضورة الحد من موجة العنف والجريمة والجنس في محطات التلفزة الألمانية المتنافسة بهدف حماية الأجيال الجديدة.
وقد عقدت العديد من الندوات في أوروبا وفي فرنسا بصفة خاصة لحماية الأطفال من التلفزيون وما يبثه من أفلام وبرامج، وأكدت هذه المؤتمرات كما يقول الباحث اللبناني برجيس الجميّل على تقوية المناعة الإعلامية لدي الأطفال ضد برامج التلفاز.(مازن مطبقاني، المدينة المنورة )
        وفي كندا نجد أن الحكومة الكندية قد أسست فريقاً من الشرطة باسم شرطة  الأخلاق لمحاربة الرذيلة، والمخدرات. ومن الطريف أن أحد ضباط الشرطة كان قد ألقي القبض عليه وهو يقوم بأعمال منافية للأخلاق( Toronto Star, April 7, 1990)
        وقد بلغ الحرص ببعض الجهات في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن هالها التدهور الأخلاقي في الغرب عموماً وفي أمريكا بخاصة إلاّ أن تبحث عن وسيلة لنشر الأخلاق والفضيلة، فقام عدد من أساتذة جامعة هارفارد بإعداد كتاب يعنوان : هل يمكن تعليم الأخلاق؟، ويهتم الكتاب أن يكون تعليم الأخلاف إضافة جديدة إلى ما تقوم به الجامعة التي لا تعلم طلابها العلم، والمهارات، ووالقيم الإدارية فحسب، بل أضافت إلى ذلك تعليمهم الأخلاقيات والمسؤولية.(الاقتصادية، 28/1/1999م)
        كما تكونت في الولايات المتحدة مجموعة عرفت بالآباء الغاضبين(مجموع الحروف الأولى من اسم المجموعة) وهي رجال ضد الهدم والدفاع ضد المخدرات والفوضى الاجتماعية وقد تأسست في شهر مايو 1989م  من قبل آباء أزعجهم عنف العصابات وانتشار المخدارت في مجتمعاتهم. http://www.maddadsnational.com/whoweare.asp
        وتكونت في بريطانيا جمعيات تهتم بمحاربة الرذائل ومنها (الحزب القومي البريطاني) الذي أقلقه انتشار جريمة الاغتصاب فعاد إلى دراسات علمية قام بها باحثون أكاديميون ربطوا بين مرتكبي جرائم الاغتصاب وانتشار الصور الخليعة في الإعلام وغيره. كما طالب الحزب بإعادة تطبيق حكم الإعدام على مرتكبي جرائم الاغتصاب. (Thomas Bombadil "Pornography and Sexual Violence"  in www.pnp.org.uk
        ولما كان من الصعب أن يلم المرء بكل الجمعيات والهيئات التي تدعو إلى الفضيلة وتحارب الرذيلة والجريمة فإننا نكتفي بما جاء في الصفحات السابقة آملين أن تكون مثل هذه المؤسسات موضوعات لبحوث أكاديمية معمقة لنتعرف كيف أن الفطرة الإنسانية واحدة،  وأن البشر يشتركون في كثير من الخصائص ومن أبرزها الدعوة إلى الأخلاق والفضيلة التي جاءت الرسالة سيدنا محمد لإتمامها (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والحمد لله رب العالمين.


       

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية