الغزو الفكري وكيفية التحصين منه



     "ما غُزِيَ قومٌ في عقر دارهم إلاّ ذلوا" هذا ما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. فهل نحن خاضعون للغزو الفكري؟ فلو أجاب أحد بالنفي لكان كمن يغطّي الشمس بغربال. أو "ينكر وجود الشمس من رمدٍ" ولنا أن نسأله ومن يملك وكالات الأنباء العالمية ؟ وما ذا تشاهد في التلفاز؟ وما ذا تستمع في الإذاعات؟ وكم يتدفق علينا من الانتاج الفكري الأوروبي والأمريكي كل لحظة من ليل أو نهار؟ وهذا المنتوجات المادية الغربية التي حولتنا إلى شعوب مستهلِكَة التي تزدحم بها متاجرنا وبيوتنا أليست جزءاً من الغزو الفكري؟
      فهذا نحن بعد مئة سنة من بداية صناعة السيّارة ما زلنا نركب السيارات التي صنعها الأوروبيون والأمريكيون واليابانيون والكوريون والروسيون؟ أ تقول إنّ هذا ليس من الغزو الفكري. ألا يتبادر إلى ذهن الذي يركب السيّارة لماذا هم الذين صنعوا السيارة ولسنا نحن؟ وعندما ترتدي شماغاً أو غترة لماذا نصرُّ على أن تكون من بريطانيا أو من سويسرا أو من اليابان؟
      و عندما نذهب إلى الطبيب  نجده يكتب في السجل بالأحرف الأجنبية كأنه لا يستطيع أن يكتب مثلاً رشح شديد أو زكام أو التهاب في اللوزتين مع ظهور بقع بضياء على اللوزتين مثلاً، وربما أضاف اُخِذت مسحة من اللوزتين وأُرسلت إلى المختبر لوصف المضاد الحيوي المناسب بعد ظهور نتائج المزرعة؟ وهو لم يكتب هذا باللغة العربية ثم كتب لك الوصفة باللغة الأجنبية أو بالأحرف اللاتينية، وتذهب إلى الصيدلي فيعطيك دواءً صنعته شركة فايزر أو شركة ولكم أو شركة روشيه أو شركة ليو وغيرها.
    وإذا أردت شراء عطر فلا بد أن يكون مصنوعاً في باريس أو لندن أو في روما، وإذا تم تصنيعه في بلادنا فتحت الأسماء الأجنبية نفسها التي كان يُصَدّر لنا بها ، ومع ذلك فالمصنّع في بلادنا لا يتجاوز نسبة ضئيلة في المئة من الذي نستورده من الخارج. وكذلك الحال في المساحيق التي ننظف بها ملابسنا فبعد أربعين سنة من تعبئتها في بلادنا لا زلنا نحتفظ بأسمائها الأجنبية، وقل الأمر نفسه بالنسبة لما نغسل به أيدينا أو رؤوسنا وأجسامنا.
     وعندما تحتاج إلى غسّالة أو ثلاجة أو تلفزيون فإنك تبحث عن الماركات العالمية اليابانية وقد كنّا قبل ثلاثين سنة لا نثق في الانتاج الياباني فلا بد أن يكون الراديو زينيث أو جروندنج أو فيليبس أو أي ماركة أخرى أوروبية أو أمريكية أما اليوم فقد اكتسح اليابانيون الأسواق، ودخل إلى المنافسة الكوريون. وإن كان الماليزيون يجمعون الأجهزة ذات الماركات اليابانية فإنني أتوقع أنه لن يمر وقت طويل حتى يصبحوا هم المصنعون لأدوات وأجهزة تأخذ أسماء ماليزية.
    وهناك جانب خطير في حاجة العالم الإسلامي للغرب وهي الاحتياجات الغذائية فما زال الغرب يسيطر على سوق الغذاء في العالم العربي الإسلامي فكم نستورد من غذائنا من عندهم؟ وكما قيل "الحرص أذلّ أعناق الرجال" وفي العصر الحاضر قيل " كم أذل الغذاء أعناق الشعوب" فهذه روسيا كم رضخت لأمريكا  
    فالغزو الفكري الذي يمثله هذا التفوق في المجال المادي لا يقل أهمية عن الغزو الفكري في المنتوجات الفكرية والإعلامية والتي من أبرزها إدمان أبنائنا مشاهدة أفلام الكرتون الأمريكية أو اليابانية. فمن الأفلام الأمريكية التي تجعل القط (ابن عم الأسد) الحيوان المسكين الغبي الذي يخدعه الفأر الماكر الذكي بل العبقري أيضاً. ومن الأفلام الأمريكية تعلّمَ الأبناءُ أنّه لا بد للمرأة من دور في كل قصة. فمن هذه القصص المرأة التي يتقاتل من أجلها باباي الملاح والرجل الآخر ولا يستطيع باباي أن يتغلب عليه إلاّ بعد أن يتناول علبة من السبانخ. ونحن لا نقول هذا لنبعد المرأة فهي الأم والأخت والعمّة والخالة والجدّة والزوجة، ولها دور مبارك ومهم في حياتنا. ولكنها في الأفلام الكرتونية المستوردة امرأة سافرة تخالط الرجال وتلبس الملابس التي تكشف عن أجزاء من الجسد دون حياء أو خجل. ولم يتوقف الأمر بالأفلام الكرتونية عند هذه الحدود بل إنها تناقش قضايا عقدية خطيرة فهذا فيلم يوزعه أحد المطاعم المشهورة للأكلات السريعة يناقش قضية القوة والعدل أيهما أهم. ومهما كانت الإجابة التي يقدمها الفيلم فيهي لم لا تهتدي بهدي الكتاب والسنّة ولكنها تسير وفق التفكير المادي الغربي. وفيها أيضاً تعظيم للقوة البشرية فلا يمكن أن يرد على لسان أي بطل من الأبطال الاستعانة بالله أو اللجوء إليه سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يرد على لسان أحد من هؤلاء من يقول إن شاء الله.
    فهل يمكن التغلب على الغزو الفكري؟ نعم يمكن ذلك إذا توفرت للأمة الإرادة والعزيمة والتصميم ولتعرف الأمة أن الأمر لا يتم بسهولة ويسر بل لا بد من التضحيات وقبول التحديات. وأتذكر دائماً موقف المسلمين بعد غزوة الخندق حيث استخدم يهود أموالهم لحشد يهود قبائل الجزيرة العربية من قريش وغطفان وهوازن ووصلت أعداد الجيوش الغازية عشرة آلاف ولم يتوفر للدفاع عن المدينة أكثر من ثلاثة آلاف بمن فيهم من المنافقين بالإضافة إلى خيانة يهود بني قريظة الذين كانوا في عهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدافعوا ضد أي هجوم خارجي على المدينة. أقول في هذه الأجواء العصيبة التي صورتها سورة الأحزاب {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غرورا}، وشاء الله أن يهزم الأحزاب ويردهم على أعقابهم فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم (الآن نغزوهم ولا يغزونا) فكان صلح الحديبية وفتح خيبر وفتح مكة.
      يجب على الأمة أن تستشعر التحدي، والتحدي لا يكون إلاّ بمعرفة من نحن ومن هم وما ذا يريدون منّا. لم يمنع الإسلام التعامل مع الكافرين لكنه لم يرد للمسلمين أن يكونوا في موضع الضعف أمام غيرهم ولذلك جاء قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} فنحن حين نكون أقوياء إنما نكون قد امتثلنا أوامر ربنا سبحانه وتعالى في أن لا نكون فتنة للذين كفروا فمن يرى حال المسلمين هل يسرّه أن يلتحق بالإسلام؟ ولذلك جاء القرآن الكريم بقوله تعالى (ربّنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا}

     فلا بد من البدء في بناء الشخصية الإسلامية الصحيحة السوية التي تؤمن بالله الإيمان الحق وتتوكل عليه التوكل الحق. الشخصية الإسلامية القوية بإيمانها وقيمها وأخلاقها وعملها. المؤمن الذي يستشعر مسؤوليته عن هذه الأمة لا المؤمن الذي لا يهمه إلاّ نفسه. ألم يقف الصدّيق رضي الله عنه يقول:" الله الله أن يؤتى الإسلام وأنا حي" ويصر على بعث جيش إسامة إنفاذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو لم يبق غيره في المدينة.
     وإن استشعرت الأمة التحدي الذي يواجهها وعلمت ما تريد انطلقت إلى العمل الفعال ويذكر التاريخ أن المسلمين الذين واجهوا جيوش أعظم دولتين في عصرهم لم يكونوا يملكون من السلاح والتدريب والقوة ما ملكه أعداؤهم ولكن إرادة التحدي جعلت المهابة تنتقل من نفوس العرب للفرس والروم -كما هي الحال في مهابتنا من القوة العظمى الوحيدة صاحبة طائرة الشبح و.- وقد استطاع المصريون في مواجهة نابليون أن يصنعوا مدافع أقوى من مدافع نابليون في عدة أيام. والأمة الإسلامية تمتلك من العقول والإمكانيات والعلم ما تستطيع أن تواجه العالم، وها هي أندونيسية قد صنع الطائرة وهاهي ماليزيا قد صنعت السيارة وغيرها. وها هي شعوب أقل منّا مكانة وعلماً وليس لديها من النظم والشرائع التي عندنا واستطاعت أن تدخل التحدي فهل نعجز عن ذلك؟
     إن التحصين من الغزو الفكري لا يكون إلاّ بمعرفة أن من يُغْزى هو الطرف الأضعف فإلى متى نبقى الطرف الذي يغزى، لقد آن الأوان لنفيق ولا يمنعنا قلة الإمكانات والمعرفة وتقدم الأمم الأخرى فلا تقاس قيمة الأمم بما تملك ولكن تقاس بإرادتها وقيمها. وأخيراً نردد الحديث الشريف (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) والحمد لله رب العالمين




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية