المسلسلات التلفزيونية : ما ذا قالت؟ رمضان نموذجاً


                                      بسم الله الرحمن الرحيم



كنت قد اقترحت في رسالة خاصة على سعادة رئيسة تحرير مجلة حياتي-التي لم تعمّر طويلاً-الأخت الدكتورة رفيدة حسين خاشقجي أن تهتم المجلة في أعدادها القادمة بالفنون المختلفة من مسرح وسينما وتلفزيون أو ما يسمى الفن السابع؛ ذلك أن هذا الفن  أصبح جزءاً مهماً من حياتنا الاجتماعية والثقافية والفكرية. بل إن النقد السينمائي أو الفني يدرس في معاهد وكليات متخصصة، وأنه لا ينبغي لمجلة جادة  ومتميزة مثل مجلة حياتي أن تهمل هذا الجانب المهم وبخاصة أن النساء اللاتي لديهن وقت للفراغ يشغلنه بمشاهدة المسلسلات وينفقن وقتاً كبيراً من حياتهن أمام شاشة التلفاز بالإضافة إلى اجتماع الأسر أيضاً لمشاهدة هذه المسلسلات ولاسيما في شهر رمضان المبارك ، كل هؤلاء بحاجة إلى أن يقرأن ويقرؤوا مقالات موضوعية ناقدة لهذا المجال.

     ولم يكن ليدر في خلدي حين قدمت الاقتراح أنني سأكلف بإعداد مقالة حول مشاهداتي لبعض المسلسلات الرمضاينة. وتأتي صعوبة التكليف أنني لم أستعد لمثل هذا العمل حينما كنت أجلس لأشاهد بعض حلقات هذه المسلسلات. ولأنني أؤمن أن مشاهدة المسلسلات مع الأسرة يباعد بين الأسرة حيث يكون الجميع أسرى للشاشة أو لما يدور فيها. ولا يخلو الأمر من مقاطعة وحديث جانبي يفوت على المشاهد بعض اللقطات المهمة.

      ولكن حتى أفي بوعدي جلست لأسترجع بعض ما شاهدت وحرصت أن أشاهد بعض الحلقات التي ما تزال تعرض حتى بعد انتهاء شهر رمضان. والمسلسلات التي أعتقد أنها نالت اهتمام قطاع كبير من المشاهدين هي مسلسلات: زيزينيا،  والشارع الجديد، وهوانم جاردن سيتي، وتل الرماد، والثريا، والعوسجالخ وذلك لحشدها لأبرز نجوم السينما والتلفزيون في كل من مصر وسوريا،  ولما توفر لها من إمكانات فنية كبيرة في التصوير والمونتاج والموسيقى والديكور والملابس والمكياج والإخراج...

      لقد تميزت هذه المسلسلات بالاهتمام بالجانب السياسي وبخاصة الحديث عن العهد الملكي في  مصر حيث كان الصراع شديداً بين الوطنيين والقصر وبين الوطنيين والإنجليز. وقد اهتمت هذه المسلسلات بالإشادة بالموقف الوطني من الإنجليز الذين سيطروا على البلاد عسكرياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً. وقد اقتصر تناول المقاومة على المظاهرات وتوزيع المنشورات وبعض عمليات فدائية، ولم أجد أي إشارة إلى الإسلام في المقاومة. وهذا ما سعى الاحتلال الأجنبي إلى ترسيخه في البلاد التي كانت خاضعة له. فقد سعى كما أشار الأستاذ محمد قطب  رحمه الله في كتابه القيّم واقعنا المعاصر إلى ما يسمى بصناعة الزعيم الذي يقود الجماهير والدهماء لمقاومة الاحتلال الأجنبي والسيادة الأجنبية من خلال المظاهرات والشعارات الوطنية التي لا يهمها إلاّ التراب والاقتصاد والثروات أما الأثر الثقافي والفكري والاجتماعي للاحتلال فلا يهتم به الاهتمام الصحيح، فلا تكون مقاومة الأجنبي نابعة من الجهاد وروح الجهاد بل اخترعوا كلمة نضال ومناضل لتحل محل الجهاد والمجاهدين.

     ومن الاهتمام بالجانب السياسي تناول عهد الدولة العثمانية وموقفها من الإنجليز حتى إن بعض الوطنيين المصريين سافر إلى تركيا في مسلسل (الشارع الجديد) حسان ومعه بعض المصريين  ليشارك في محاربة الإنجليز ولكنه عاد بعد أن عانى الأمرين من معاملة الأتراك له حتى خرج بنتيجة أن الإنجليز والأتراك كلاهما محتل وظالم ومستبد. وعاد إلى مصر وبدلاً من أن يعود إلى محاربة الإنجليز المحتلين عاد ليغرق في الخمر ثم في المخدرات بتأثير زوج أخته إسماعيل. والذي لا يدركه المشاهد أن الدولة العثمانية في عهدها الأخير بعد أن دب فيها الفساد واستولى على الحكم فيها دعاة النزعة التركية الطورانية انقلبوا ضد العرب ولكن الدولة العثمانية لم تكن في يوم من الأيام دولة استعمارية؛ فهي لم تحتل البلاد العربية الإسلامية لتنهب خيراتها وثرواتها وتستبد بأهلها. فالعثمانيون مسلمون سعوا إلى وحدة الأمة الإسلامية والدفاع عن هذه الوحدة. ومن شاء التوسع في هذه القضية فليرجع إلى كتاب الدكتور محمد حرب العثمانيون في التاريخ والحضارة، وكتاب محمد جلال كشك ودخلت الخيل الأزهر

      وقد أبرزت المسلسلات الحياة المرفهة في العهد الملكي وسلوك الطبقة الراقية التي تأثرت بالقيم والسلوك الغربي، فهناك مجون وخلاعة وتهتك وانحراف. فقد كانت نساء الطبقة الراقية في جاردن سيتي لهن مغامراتهن العاطفية، وكان للرجال مثلها، كما أن عالم الرقص والعوالم كان له مكانة خاصة في أكثر من مسلسل بالرغم من أن المجتمع ينبذ هذه الطبقة لكن يحدث أن يقع أحد أبناء الطبقة الراقية في حب إحدى الراقصات أو العالمات وتفرض عليه أن يتزوجها في اليوم الذي يتزوج فتاة من الطبقة الراقية. وفي مسلسل آخر يتزوج أحد أبناء الطبقة الفقيرة راقصة (وفاء مكي) وينجب منها رغم أنه متزوج من فتاة من عامة الشعب ولكنها لا تنجب ويخطف ولده وتقع المواجهة بين العوالم وطبقة الناس العاديين.

      ويبرز مسلسل (الشارع الجديد) الصراع المادي بين الإخوة  والأقارب فأحدهم مناضل شريف يعيش حياة صعبة جداً حتى إن المشاهد لا يستطيع أن يرى أن الحياة الشريفة مستحيلة بينما يبرز المسلسل أن الحرام سهل ميسور. فالأخ المناضل الشريف (علي)(عزت العلايلي) يعيش حياة صعبة حتى يضطر إلى العمل في خدمة الإنجليز الذين يمقتهم ويكرههم فقد ضاقت الدنيا في عينه حتى لم يجد مكاناً يلجأ إليه سوى العمل مع الإنجليز. أما زوج الأخت (إسماعيل) فيعمل في تجارة المخدرات كما أنه يتعاطاها ويعيش في بحبوبة من العيش هو وأبناؤه. والمشاهد الساذج الذي لا يدرك أن البعد عن المخدرات والحرام أمر ينبغي أن يكون منطلقه الإيمان بالله عز وجل والإيمان بالجنة والنار وأن هذا الدار الدنيا دار ابتلاء وعمل والآخرة دار حساب وجزاء، ،هذا المشاهد العادي قد يتأثر بالحياة المرفهة الناعمة للحرام وقد يكون في ذلك تشجيع على الحرام. وقد أشار أكثر من ناقد إلى أن المساحة الأوسع تعطى للنعيم والمتع لمن يعيش في بيع المخدرات وتعاطيها بينما لحظات العقوبة قصيرة وتمر بسرعة. فلذلك لا يهمه أن يحدث له في النهاية ما يحدث لمتعاطي الحرام من نهاية تعيسة مادام أنه سوف يستمتع بالجزء الأكبر من حياته.

 والأمر اللافت للانتباه أن هذا الذي يتعاطى المخدرات يجيد التخطيط الشيطاني الماكر ضد اخوة زوجته حتى إنه يجر أحد الاخوة إلى تعاطي المخدرات بعد أن كان يتناول المسكرات وهنا وهم آخر قد يقع فيه السذج من المشاهدين بأن المخدرات تقوي الفكر وتزيد الذكاء بينما العكس هو الصحيح. وكأن هذه إشارة إلى المحتل الأجنبي الذي فرق بين الاخوة وأفسد ضمائر بعضهم ليستولي على كل ما يملكون. وقد كان هذا تخطيط (اسماعيل زوج عزيزة).

وقد لفت انتباهي إلى أن (علي)-يقوم بالدور عزت العلايلي- الذي يكره الإنجليز ويقاومهم يضطر للعمل في خدمتهم في معسكرهم وفي يوم من الأيام يعود ومعه بسكوت إنجليزي فيتعجب الابن من البسكوت المستورد وكذلك الأم (فردوس عبد الحميد) ولكنهم يقبلونه ويفرحون به. فبرغم كراهيتهم للإنجليز لكنهم يحبون المنتجات الإنجليزية. وكأنه كراهية في الظاهر وحب في الباطن، وهذا ليس شك في انتمائه لبلاده ولكنها حالة تصيب الناس عموماً في البلاد المهزومة. 

       أزعجني جداً منظر (عزيزة) في مسلسل الشارع الجديد وهي تستخدم الحلاوة لإزالة شعر الوجه واليدين والساقين لقد كان منظراً مقززاً وقد بالغ المخرج في إظهاره دون هدف واضح فهذه الأمور من خصوصيات النساء التي لا يُطلعن عليها إلاّ أقرب الناس من أم أو أخت ولو كان المشهد مهماً جداً فقد كان بالإمكان أن يكون أقصر.

      تأثرت بموقف أراه يتكرر حتى في أيامنا هذه وهو أن الآباء والأمهات يشقون ويتعبون و(يذوقون المر أو يتجرعون المر) من أجل أبنائهم ومن أجل لقمة الحلال ولكن بعض الأبناء يقابل هذا بجحود عجيب. فقد وقف أحد أبناء علي في (الشارع الجديد) يصرخ في وجه أمه حينما طلب شيئاً ولم تستطع أن تلبي طلبه، فقال لها: لماذا تنجبونا إذن إذا كنتم لا تستطيعون الإنفاق علينا؟ وهنا ثارت الأم (فردوس عبد الحميد) وتكلمت بحرقة عن صعوبات الحياة التي واجهتها هي وزوجها علي(عزت العلايلي) وبعد قليل عاد ذلك الابن معتذراً وتأثر بقية الاخوة. صحيح أن الموقف كان رائعاً ِلقُدْرات فردوس عبد الحميد التمثيلية ولكن هل يعود الأبناء إلى الصواب بهذه السهولة؟ وكان بإمكان الكاتب هنا أن يقدم آية كريمة من كتاب الله عز وجل أو حديث شريف من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا أبلغ في التأثير وبخاصة أن المسلسل يقدم لأبناء المسلمين.

      وتأكيداً لهذا الأمر فقد كان غياب الدين واضحاً في هذه المسلسلات كأن المصريين الذين اهتمت المسلسلات بحياتهم وتاريخهم وتطلعاتهم جاؤوا من المريخ أو الزهرة أو من أي كوكب آخر. وكأن هؤلاء الناس ليس لهم تاريخ طويل في التمسك بالإسلام. وقد يكون الدين جاء عرضاً في تناول شخصية الولي ضرغام وأنه أجبر على تقمص هذه الشخصية وقد أعجبني عند حدوث الغارة حيث أصر على النزول إلى الملجأ وهي كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه(نفر من قدر الله إلى قدر الله) ولكن لم يظهر الدين في هذا المسلسل أو المسلسلات الأخرى بشكل صحيح. وقد كان الدين بعيداً عن سلوك الطبقة الراقية في زيزينا فهذه عايدة (آثار الحكيم) بعد طلاقها تصاب بصدمة نفسية فترتبط بعلاقات حب مع خمسة رجال أو توهمهم أنها تحبهم، وإن كان لا يفوز بها إلا الخواجا (بوتشي) (يحي الفخراني- ِبشْر). ومن سلوكها البعيد عن القيم الإسلامية التي يتمسك بها الشعب المصري عموماً أنها في إحدى الليالي تلقت مكالمة من حبيبها فخرجت بعد منتصف الليل أو قريباً من الفجر لتجتمع به في مقهى. صحيح أن المسلسلات لم تتضمن مشاهد حب مخلة بالأدب (سوى الرقص) ولكن ما معنى أن تخرج امرأة من بيتها بعد منتصف الليل لتقابل رجلاً تزعم أنها تحبه ويحبها.

       وتضمن مسلسل زيزينيا و مسلسل الشارع الجديد دور الخواجات(الجانب في مصر (من يونان وإيطاليين- الذين كان لهم نفوذ في عهد فاروق) ففي الشارع الجديد نجد أن الخواجا يكون وفياً لذكرى الحاج يونس ويقدم المساعدة لعائلة ابنه علي، بينما الاخوة  والأقارب يتقاتلون ويتآمرون بعضهم على بعض، حتى إن اخوة فردوس عبد الحميد يحرمونها من الميراث رغم مطالبتها المستمرة بذلك، ولا أدري لماذا لم يجعلها المؤلف تلجأ إلى المحكمة التي تحكم بالشرع الإسلامي لإنصافها من إخوتها. أما في مسلسل زيزينيا فهناك الجالية الإيطالية وعمدتها الذي يقوم بدوره جميل راتب يحتقر المصريين ويعتبر أن زواج أخته من مصري كارثة وأن ابنها لا بد من تطهيره من التأثير المصري بينما يصر الابن بشر (يحي الفخراني) على مصريته فينخرط في الحركة الوطنية فيما بعد وتشترك معه عايدة  (آثار الحكيم).  وكأن الكاتب يقول أنه بإمكانك أن تكون متأثراً بالغرب سلوكياً وخلقياً وفكرياً ومع ذلك تسعى لمقاومة الاحتلال. مع أن مقاومة الاحتلال كانت أجدى حينما تمسكنا بهويتنا الإسلامية العربية.

      والغريب أن مؤلف مسلسل (زيزينيا) تحدث إلى إحدى القنوات الفضائية فأكد أن العائلات الأجنبية هي التي تأثرت بالثقافة العربية وبالتقاليد المصرية، ولكن الحقيقة أن المصريين وغيرهم من الشعوب العربية الإسلامية تأثرت بالوجود الأجنبي على أراضيها. وقد أعجبتني سيدة مصرية عندما سمعت أن ولدها أو قريبها ينوي الارتباط بفتاة يونانية فلم تعجبها الفكرة لأن اليونانيات يدخلن عالم العشق والغرام من سن مبكرة وأنها لا تصلح له. ليتنا بالفعل أثرنا فيهم بعقيدتنا الإسلامية وأخلاقنا ومثلنا وقيمنا. واذكر في هذه المناسبة كتاب صدر في مصر قبل عدة أعوام بعنوان الانفجار الجنسي في مصر أكد على تأثير الجاليات الأجنبية وبخاصة حينما أصبح عددها بمئات الآلاف.

وقد دار حوار في مسلسل (الشارع الجديد) عن الأحزاب ولعبة القصر والإنجليز في ضرب المصريين بعضهم ببعض وتمزيق الشعب المصري بين الأحزاب والانتخابات والنيابة والرشاوى وشراء الأصوات . ومن العجيب أن الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه اللهأحد زعماء الجزائر-كان قد اكتشف هذا الأمر وتحدث عن الأحزاب وجنايتها على الأمة الإسلامية ووحدتها. يبدو أن الذين اخترعوا اللعبة لا زالوا يمارسونها حتى اليوم مع فرق أن الحكومات القائمة أصبح لها حزب لا بد أن يفوز وأن يكون هو الأعلى، (والله أعلى وأجل).

      وقد أغفلت المسلسلات التيار الإسلامي فلم تناقشه ولم تعطه أي مساحة وهذا خطأ تاريخي كبير فأين الأمانة يا كتاب هذه القصص ويا مخرجون؟ هل هو خوف من الاتهام (الجاهز) بالأصولية. إنها والله خيانة للأمانة وإنكار لجهود فئة كريمة من أبناء الشعب المصرى راح منهم شهداء كثيرون في الدفاع عن مصر وعقيدتها وترابها من المحتل الظالم. لقد ظهر التيار الإسلامي في العصر الحديث منذ وقفة الأزهر العظيمة في مقاومة نابليون، ومازال علماء الدين يقفون في وجه الاحتلال فظهر الشيخ محمد عبده وبعده محمد رشيد رضا، وظهرت جمعية الشبان المسلمين وظهر الشيخ محب الدين الخطيب ومجلته الحديقة وكتابه الغارة على العالم الإسلامي. وكان للشيخ حسن البنا رحمه الله دور مبارك في التيار الإسلامي وقد تقدم للترشيح في البرلمان لولا أن طلب منه أن ينسحب ثم اغتيل. لو كتب هذه المسلسلات كاتب أجنبي لما استطاع أن ينكر وجود التيار الإسلامي كما حدث في مسلسلات هذا العام. فهل يليق بنا أن نستغفل الناس بهذه الطريقة؟

       إنني لم أقصد من هذه الأسطر أن أكون ناقداً سينمائياً أو تلفزيونياً _ وإن كنت أستطيع لو أردت-ولكنها خواطر أقدمها بين يدي قراء هذه المجلة الجادة آملاً أن يتيسر لي مستقبلاً الوقت والإمكانات لمشاهدة أكثر دقة ومتابعة فاحصة لأقدم نقداً أفضل، ولكن كما قيل ما لا يدرك كله لا يترك جله. والله الموفق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية