الاستشراق والأدب العربي الحديث (بحث قديم)


                           بسم الله الرحمن الرحيم

      الاستشراق والأدب العربي الحديث (*)


سألتُ أستاذة الأدب العربي في جامعة صوفيا ببلغاريا ماذا تدرسـون في الأدب العربي المعاصر؟ قال إننا ندرس كتابات نجيب محفوظ ويوسف السباعي ويوسف إدريس، وغيرهم. فسألتها مرة أخرى هل تعرفين كتابات أحمد علي باكثير أو نجيب الكيلاني أو عبد الرحمن العشماوي أو عبد الرحمن رأفت باشا أو جودت السحّار؟  فردت بالقول: لا لم نسمع بهؤلاء، إنه لا يأتينا من البـلاد العربية إلاّ الكتابات القديمة وبخاصة الأسماء التي ذكرت. فقلت لها لقد أنشئت رابطة بعنوان (رابطة الأدب  الإسلامي العالمية) وهذه الرابطة يصدر عنها مجلة دورية وهناك أكثر من مجلة تهتم بالأدب العربي الحديث ومنها مثلاً مجلة المشكاة التي تصدر في وجدة بالمغرب. وأعادت أنها لا تعرف عن هذه الرابطة شيئاً. ووعدت هذه الأستاذة أن أبعث إليها بعض الكتابات عن الأدب الإسلامي.

    ومن خلال متابعتي للدراسات الغربية حول الأدب العربي المعاصر وجدت أن الأدباء العرب الذين ينالـون الحظوة من المؤسسات الغربية هم المتغربون من العالم العربي أو من الذين يخالفون ثوابت الأمة الإسلامية في الفكر والثقافة والأخلاق. فهؤلاء تقدم لهم الدعوات لإلقاء المحاضرات كما يدعون للعمـل كأساتذة زائرين بالإضافة إلى ترجمة أعمالهم . ولا تقصد هذه المقالة استقصاء المواقف الغربية من الأدب العربي الحديث بل تسعى إلى تقديم نماذج من هذه الاهتمامات.

        فهذا معهد الفنون الحديثة البريطاني The Institute of Contemporary Arts   وهو مؤسسة غير ربحية مسجلة في بريطانيا، ومؤسسة تعليمية خيرية تحصل على مساعدة مالية من مجلس الفنون البريطاني ومن مجلس مدينة ويستمنستر، ومن معهد الفيلم البريطاني ومؤسسة راين. ومن أهـداف المعهد توفير المكان للتعبير عن الآراء المختلفة، وهذه الآراء هي آراء الفنانين والكتّاب وكتـّاب الدراما وصناعة الأفلام، ولا تمثل هذه الآراء  بالضرورة آراء المعهد وفيما يأتي بعض نشاطات المعهد عام 1992م وفقاً لنشرته الصادرة في صيف عام 1992.

1-22سبتمبر 1992 لقاء مع محمد شكري ، الكاتب المغربي "وهو من أبرز الشخصيات الأدبية في المغرب وصاحب كتاب الخبز الحافي الذي يحكي حياة المؤلف في شوارع طنجة، وقد أعد شكري مذكراته التي ترجمت إلى ثلاث عشرة لغة، ولكنها ممنوعة في معظم البلاد العربية، وذكر الخبر أن الكاتب سينشر الجزء الثاني من مذكراته قريباً. (وقد نشر الجزء الثاني والثالث )

        ومحمد شكري ليس أديباً بأية معايير، أما كتابه الخبز الحافي فهو متوفر في البلاد العربية التي يهمها محاربة الإسلام أو ما يطلقون عليه التطرف أو الأصولية أو قوى الظلام. أما الكتاب فقد اطلعت عليه ولا يمكن أن يطلق عليه أدب بأية معايير فهو خال من الأدب وإنما هو مذكرات شخص حاقد على والديه وعلى الناس أجمعين، لا يعاشر إلاّ الحمالين والقوادين والبغايا فهو مذكرات شخص لا يعرف القيم ولا الأخلاق وباختصار هو نوع من الكتابة الهابطة جداً. فما ذا يمكن أن تقدم مثل هذه الكتابات لفهم الغرب للأدب العربي الحديث.

ويلقى هذا الكاتب وأضرابه من المنحرفين كثيراً من التشجيع من بعض الصحف العربية وبخـاصة التي تصدر في الغرب ،ولكن هذه العـدوى انتقلت إلى بعض الصحف التي تصدر في العالم الإسلامي . بالإضافة إلى هذا الاهتمام فإنهم يعدون رسائل الدكتوراه حول هذا النوع من الكتـابات من مثل رسالة الطالبة ساندرا ميلبورن بجامعة برنستون للدكتوراه في قسم دراسات الشرق الأدني بعنوان:(الأدب المغربي العربي الحديث: محمد شكري) (النشرة المشتركة لجامعتي نيويورك وبرنستون لعام 1994-1995م)

2- لقاء مع عبد الرحمن المنيف وطارق علي. وقد ذكرت النشرة ما يأتي: "بالرغم من أن كتب عبد الرحمن منيف ممنوعة في كثير من البلاد العربية فإن الكاتب قد حصل على سمعة عالمية بسبب المجلدين الأوليين من روايته حول تاريخ الخليج مدنالملح والخندق ومن المعروف أن المنيف يعيش في منفاه في سوريا." والمنيف هذا يتبنى الفكر الاشتراكي ويحارب بعض النظم الحاكمة في الجزيرة العربـية. وقد تكون رواياته مكتوبة بأسلوب أدبي يمتلك القدرات الفنية للكتابة الجيدة،  لكنه نموذج من نماذج الكتاب العرب المتأثرين بالفكر الغربي.

3-اللقاء مع نوال السعداوي في 24 سبتمبر 1992 " والدكتورة سعداوي  تخصصت في دراسة الطب النفسي ومن أكثر دعاة "تحرير المرأة" شهرة في العالم العربي، سجنت عام 1981 بسبب كتاباتها ولم يتم إطلاق سراحها إلاّ بعد موت السادات وتشعر السعداوي وغيرها من الكتاب بالخوف من مواجهة المصير الذي لقيه فرج فودة. "

4- النساء والجنس والهوية:ندوة عقدت في هذه المؤسسة في 26 سبتمبر 1992 من الساعة الثانية بعض الظهر حتى الساعة السادسة. وقد شارك فيها " خمسة من الكتاب العرب البارزين وضع المرأة، والعلاقات بين الرجل والمرأة والمواقف الجنسية والنفسية في المجتمع المسلم." وهؤلاء الكتاب هم : عائشة جبّار وأندريه شديد ونوال السعداوي وماري كاردينال وترأست الندوة مايا جاجي.

     ومن نماذج الاهتمام بالأدب العربي الحديث استضافة بعض الأدباء العرب كأساتذة زائرين أو أساتذة مقيمين في الجامعات الغربية ومن هؤلاء على سبيل المثال أن جامعة لندن استقطبت الدكتور كمال أبو ديب لتدريس الأدب العربي الحديث في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية منذ أكثر من ثلاثة سنوات.  وعمل الدكتور صالح الطعمة في قسم اللغة العربية بجامعة إنديانا عدة سنوات حتى تم تحويله إلى العمل في مكتبة الجامعة وفي قسم اللغة العربية.

وأود أن أتوقف عند نشاطات رابطة دراسات المرأة في الشرق الأوسط الأمريكية، فهذه الرابطة تصدر نشرة أو مجلة تتناول في كل عدد من أعدادها تقديم عروض لبعض الكتب الأدبية حول موضوع المرأة. ولكن هذه الكتب هي الكتب التي تنتقد المبادئ الإسلامية من مثل كتابات فاطمة مرنيسي ونوال السعداوي وليلى العثمان وغيرها. فقد دعيت حنان الشيخ لتكون المتحدثة الرئيسية في الاجتماع السنوي لهذه الرابطة ، وهي المؤلف الزائر لهذه الرابطة لعام 1994. وقد قدمت نشرة الرابطة   فـي عددها الرابع لشهر ديسمبر 1994 عرضاً لكتاب حنان الشيخ قصص حياتي ذُكِر فيه أن الكتاب تضمن حديثاً عن كسر العلاقات مع الأسرة ومع المألوف ومن البيت ومن الوطن ومن الماضي ومن الثوابت.

       ومن اهتمامات هذه الرابطة أنها قدمت في عدد مارس 1995 عرضاً لكتابين للكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي أولهما : الحجاب والنخبة الذكورية: تفسير أنثوي لحقوق النساء في الإسلام. ترجمة ماري جو لاكلاند Mary Jo Lakeland .وثانيهما: أحلام الخطيئة: قصص الحريم، وترجم عام 1994) 

        وثمة مجال آخر يظهر فيه اهتمام الغرب الأدب العربي الحديث وذلك في الإذاعات الغربية الموجهة ومن الأمثلة على ذلك هيئة الإذاعة البريطانية التي تقدم برنامجاً حول الكتاب فتقدم عروضاً لبعض الكتب الأدبية العربية أو الكتب الغربية. فإذاعة لندن تهتم بكتب أدباء من أمثال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، وأهداف سويف وغيرهم . وإذا قدمت عروضاً لكتب غربية حول العالم العربي الإسلامي فإنها تقوم باستضافة نماذج معينة من الأدباء العرب للحديث عن هذه الكتب، فعندما عرضت كتاب ثمن الشرف لكاتبة إنجليزية الذي يتناول ضع المرأة المسلمة في خمس دول عربية وإسلامية استضافت للتعليق على الكتاب كل من نوال السعداوي و أهداف سويف.

    وقد تأثرت معظم القنوات الفضائية العربية في برامجها الثقافية بهذا الأسلوب ففي أحد هذه القنوات - على سبيل المثال- يقدم أديب معروف برنامجاً ثقافياً لا يستضيف في برنامجه إلاّ الأدباء والنقاد الذين يمثلون النموذج المتغرب أو ما يطلق عليه الأدب الحداثي. ومن الغريب أن الصحف تناقلت خبراً مفاده أن بعض الجامعات الغربية طلبت حلقات هذا البرنامج من القناة الفضائية. وتساءلت هل تجهل الجامعة الغربية أن هذا البرنامج الذي لا يستضيف إلاّ البياتي وصلاح فضل والطيب صالح وجابر عصفور وتركي الحمد، ومشعل  السديري، وأحمد عبد المعطي حجازي  وأمثـالهم يستحق كل هذا الاهتمام ؟ ولكن قديماً قيل (إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة **وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم)

       أما أصحاب الاتجاه الذي يعتز بثوابت هذه الأمة ومسلماتها ويعتز بالهوية العربية الإسلامية ويدعو إلى التمسك بالقيم الإسلامية ويحارب الدعوات الهدامة التي تدعو إلى تحطيم السائد والموروث وتفجير اللغة وغير ذلك من الأفكار الهدامة فإنهم إما أنهم لا يستضافون مطلقاً وإذا استضيف أحدهم فلذر الرماد في العيون بالزعم أن ثمة عرض متوازن لوجهات النظر.

        وإذا كان الشيخ محمود شاكر (أبو فهر) رحمه الله تعالى قد كتب حول إفساد الذائقة الأدبية قبل أكثر من خمسين سنة فإن وسائل الإعلام العربية والمؤسسات الثقافية استمرت في هذا الاتجاه فقد قام المجمع الثقافي في أبو ظبي بالتعاون مع السفارة اليونانية في دولة الإمارات العربية المتحدة بعقد ندوة "احتفالية" بالأديب اليوناني كازانتزاكيس بعنوان (أيام كازانتزاكيس الثقافية) واستمرت خمسة أيام من 15 إلى 20 أكتوبر 1994م شارك في الندوة كل من أحمد عثمان ومحمد علي اليوسفي وحاتم حمد وإبراهيم المصري وسلوى رشاد.

        وقد يكون هذا الأديب مهماً بالنسبة لليونانيين أو للأوروبيين عموماً ، ولكن لهذا الأديب  موقف معاد وحاقد ضد الإسلام بعامة والدولة العثمانية بخاصة ففي كتابه (تقرير إلى اليونان Report To Greecoالذي يكاد يكون مذكرات الكاتب..نجد عبارات  ومما يعرف عن هذا المؤلف دعوته الإباحية وبخاصة في روايته زوربا اليوناني -الذي حولته هوليوود إلى فيلم سينمائي بطولة أنتوني كوين- .

        وليس بعيداً عن التأثير الاستشراقي ما عرف بالتأثيرات النصرانية في شعر شعراء الحداثة وهذا ما كتبه خالد القشطيني (الشرق الأوسط 25يناير 1995)عن أحد هؤلاء الشعراء: "هذه الموضة من أدباء مسلمين يحاولون التظاهر بخلفية مسيحية أعطانا محمود درويش عينة منها في إشاراته إلى مطر فوق برج الكنيسة، وهللويا  هللويا … وأيقونات الكنائس وخاتم العذراء" ويرى القشطيني أنه ليس المقصود من ذلك التفاتة ترمي إلى تجسيد التلاحم بين المسيحيين والمسلمين وإظهار أن التراث المسيحي هو أيضاً جزء من تراثنا ... ولكن هو الظهور بالتفرنج والاستغراب والعصرنة. والتراث المسيحي ليس كما قال القشطيني تراث مشترك، فإن الانحرافات العقدية أو تراث الشرك ليس بتراث لنا، فما لدينا عن عيسى عليه السلام وأمه مريم عليها السلام في القرآن الكريم هو تراثنا.

     وعلّق القشطيني قائلاً: "لقد تحملنا مجاراة الغرب بالماركسية والفرويدية والسريالية والرومانطقية والرمزية….أما مجاراة الغرب بمحاكاة نصرانيته فحقاً هذا شيء لا يحتمل؟" والحق أننا لم نحتمل، ولكن  أصحاب هذا الاتجاه هم الذين يسيطرون على معظم منابر الرأي في العالم العربي الإسلامي في العصر الحاضر. وهذا الاتجاه لا يمثل إلاّ فئة قليلة من أبناء الشعوب العربية الإسلامية ويدل على هذا انتشار الكتاب الإسلامي وكساد كتابات مثل هؤلاء الشعراء والأدباء المزيفين.

    وقد سبق للدكتور يوسف عز الدين أن أشار إلى التأثر بالشعر الغربي واقتباس رموزه (التجديد في الشعر الحديث1406)، فهاهو بدر شاكر السيّاب يتأثر بالشاعرة إديث ستويل Edith Sitwell فيعجب بها ويقول الدكتور عز الدين :" وكان من جراء هذا الانغماس والإعجاب أن تسربت إلى شعره الرموز المسيحية والأساطير التوراتية، كالصلب والقتل والتعذيب والآلام والمخلّص كما ورد إليعازر الاسخريوطي إلى جانب الناقوس والكنيسة وتعليق المسيح بالمسامير …"

     إن الدراسات العربية الإسلامية (الاستشراق) في الغرب للأدب العربي الحديث تهتم بجانب واحد أو بنموذج واحد أو صورة واحدة من هذا الأدب ويمكن إرجاع ذلك إلى أنهم لا يرغبون في انتشار الأدب العربي الحـديث المتمسك بالإسلام وثوابته والذي وصل إلى درجة رفيعة من الناحية الفنية إما خـوفاً من تأثير هـذا الأدب في القراء الغربيين حيث من المعروف عن الأدب قدراته العالية في التأثير بما هو أقوى من الوعظ المباشر أو الكتابة العلمية عن الإسلام وقضاياه. وثمة مبرر آخر في تشجيع الأدباء العرب المتأثرين بالغرب والحاقدين على أمتهم والمتمردين على ثوابتها ومسلماتها هو حقدهم على الإسلام والمسلمين ولا أجد مثلاً لذلك إلاّ في رسالة هرقل لأحد الصحابـة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك التي طلب منه فيها أن يقدم إليه ليكرمه. ولكن ذلك الصحابي الجليل كان قوي الإيمان وأدرك أن رسالة هرقل من الابتلاء فسجّر بها التنور. {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} وقوله تعالى{ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم إن استطاعوا}.

       ولذلك فإن من واجب الأدباء والقراء العرب المسلمين تشجيع الاتجاه الإسلامي في الأدب والوقوف في وجه الأدب العربي الحديث المتأثر بالفكر الغربي والمتبني للقيم والمعايير الغربية. والله الموفق.



* -للباحث بحث مطوّل نشر في مجلة كلية الآداب بمدينة وَجْدة المغربية قريباً ، وفيه تفصيل لكثير من النقاط التي أثيرت في هذا البحث

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية