صور من التجسس في الغرب، والحرية الشخصية في الإسلام


                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                      

عاش أستاذي الدكتور علي الغمراوي رحمه الله دهراً طويلاً في أوروبا أتقن خلالها أكثر من عشر لغات أوروبية وتعرف خلال تلك المدة على حياة الغربيين وتاريخهم وثقافتهم، فكان يقول رحمه الله إن العيش في بلادنا العربية الإسلامية أفضل ألف مرة من العيش في الغرب ويشير بصفة خاصة إلى العيش في المملكة العربية السعودية التي فضّل العيش فيها أكثر من عشرة أعوام.
وأشار ذات مرة إلى أن المواطن الغربي تحول إلى رقم يعرف به في سجلات دولته وأن حركاته مرصودة منذ أن يخرج من بيته صباحاً وحتى يعود إلى منزله مساءً وهو مراقب بين ذلك. وكان هذا الحديث قد دار بيني وبينه قبل أكثر من خمس سنوات.(والآن قبل حوالي عشرين سنة) وتأكد لي هذا الأمر عندما قرأت في الصحف عن انتشار الكاميرات في الشوارع الغربية ترصد حركة الناس لدرجة أنه لم يعد يملك الإنسان هناك إلى حياة خاصة.
والحقيقة أن موضوع مراقبة المواطن في الغرب بدأت منذ أن نشر جورج أورويل كتابه (1984)وأشار فيه إلى أنه في عام 1984 سيكون المواطنون في الغرب خاضعين إلى المراقبة المستمرة والاستبداد السياسي. وقد أعيد الحديث عن هذا الكتاب في بداية السبعينيات عندما أعلنت وكالة التحقيقات الفدرالية (FBI) أنها تحتفظ بملفات لعدد كبير من المواطنين الأمريكيين العاديين، وتساءل الأمريكان حينها لماذا تهتم هذه الوكالة بالاحتفاظ بكل هذا العدد من الملفات؟ وقد عرض برنامج في إحدى القنوات الثقافية الجادة أن الحكومة الأمريكية تقوم بمراقبة المظاهرات السلمية وتلتقط الصور لهذه المظاهرات وتستطيع بوسائل إلكترونية أن تتعرف إلى كل فرد في تلك المظاهرات وربما رُفض طلبه للعمل في الحكومة الفدرالية لهذا السبب مع أن المادة الأولى من الدستور الأمريكي تبيح هذا الأمر.
وعوداً للمراقبة فقد نشرت ( الشرق الأوسط) في 16ذي القعدة 1413هـ أن الأجهزة الإلكترونية أصبحت تساعد على القبض على المجرمين من خلال الكاميرات المنصوبة في الشوارع في المدن البريطانية. ويبدو أن الأمر قد راق الذين بدأوا في نشر هذه الكاميرات في الشوارع فازدادت  عدداً وفي الوقت الذي تطورت فيه هذه الآلات أصبح الإنسان يعيش في فزع من أن يكون هناك من يتجسس عليه في كل لحظة من حياته. ومن الأمور التي تساعد في الغرب على التجسس أن الشقق المبنية من الخشب لا يفصل بين الجار والجار إلاّ جداراً رقيقاً وقد اخترعوا آلات عجيبة في التصنت وفي التصوير دون أن يشعر المواطن أنه يخضع لذلك.
وعادت (الشرق الأوسط،17ذو القعدة 1419) فنشرت تقرير نقلاً عن جريدة لوس أنجلوس تايمز عنونته ب (خصوصية الأفراد وحرياتهم تختفي في القرن المقبل أمام التطور التكنولوجي) وأوردت فيه مختلف الأقوال والتحليلات عن أوضاع مواطني دول الغرب من حيث ضياع خصوصياتهم الشخصية. ومن الأقوال  المهمة في هذا التقرير ما قاله جون فالنتاين- رئيس شركة انفوجيلد "انتهت أيام الحرية الشخصية ، ولا تستطيع في هذه الأيام حتى تغيير اسمك بسرية تامة." وقال جيمس ديمبسي أحد نشطاء مركز الديموقراطية والتكنولوجيا في واشنطن:" قبل خمسة وعشرين عاماً كان الخوف من الملف الكبير والسجل الكبير وقاعدة المعلومات الكبيرة ، أما الآن فقد أصبحت أجهزة الكمبيوتر متصلة بعضها ببعض الأمر الذي يساعد على خزن المعلومات بسرعة فائقة وبدون عناء" 
وقد عرضت محطة السي إن إن CNN يوم الأحد 19ذو القعدة برنامجاً خاصاً عن هذا الأمر استضافت أحد رجال الشرطة الداعين إلى التجسس ونشر الكاميرات في الأماكن العامة وبين مناضل عن الحريات الشخصية فظهر الاختلاف واضحاً فرجل الشرطة يريد لهذه الكاميرات أن تقوم بدور مساعد للحد من الجريمة والتعرف على سلوكيات رجال الشرطة بينما يخشى الآخر من طغيان هذه الكاميرات التي ستحد من الحريات الشخصية وأن القانون مازال عاجزاً عن مواجهة هذه التطورات المتسارعة في مجال المراقبة.
أما في الإسلام فإن الشريعة الإسلامية قد حافظت على الحياة الشخصية عبر تشريعاتها السماوية فقد نزلت الآيات واضحات بينات في هذا الأمر وهو ما سوف نوضحه في الأسطر القادمة.
تناولت فيما سبق صوراً من حياة الغرب في مجال التجسس على الأفراد وأن حمّى نشر الكاميرات في الشوارع العامة وفي الميادين أصابت بعض العقلاء هناك بالفزع فأخذوا ينادون بأن الحرية الفردية الشخصية أصبحت مهددة. وتساءل البعض عن النواحي القانونية في هذا المجال. وربما كان هذا من أهم ما يميز حياة الغرب أن التكنولوجيا تتطور تطوراً أسرع مما يتطور التشريع لديهم ذلك أنه تشريع بشري خاضع لأهواء البشر. ووعدت أن أتناول ما جاء في الإسلام في هذا المجال. وأرجو أن تكون العولمة التي تتيح نقل المعلومات من مكان إلى آخر في العالم وسيلة لنقول لهم إن لدينا من التشريعات- والحمد لله- ما يمكنهم تطبيقه مهما تطورت الوسائل التكنولوجية وهذا من خصائص هذه الشريعة التي تتسم بالشمول والعموم.
وأول هذه التشريعات ما جاء في قوله تعالى )يا أيها الذين آمنوا اجتنوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم( (الحجرات 12). فلم يقع الابتداء بالنهي عن التجسس ولكن سبقه الحديث عن الظن السيء الذي يقود إلى التجسس فذكر القرطبي رحمه الله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) فقال القرطبي بعد ذلك: "قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التُّهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تُهمة لا سبب لها يوجبها، كما يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلاً ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب."
أما في قوله تعالى (و لا تجسسوا) فقال بعد أن بحث في الفرق بين التحسس والتجسس فالأول أن التجسس هو البحث عما يكتم عنك والتحسس طلب الأخبار والبحث عنها ويمكن أن يكون الفرق أيضاً أن التحسس ما أدركه الإنسان ببعض حواسه أو طلبه لنفسه أما التجسس أن يكون رسولاً لغيره. ومعنى الآية :" خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين ، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلّع عليه بعد أن ستره الله. وأورد بعد ذلك الحديث الذي رواه أبو داود عن معاوية وفيه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) فقال أبو الدرداء :كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها .ووردت أحاديث أخرى تنهى عن التجسس واتباع أخبار الناس ومن ذلك ما رواه المقدام بن معدي كرب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)
ولعل من أبلغ النهي عن التجسس حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من اطّلع في بيت قوم بغير إذنهم حَلّ لهم أن يفقئوا عينه.)رواه البخاري ومسلم وقد أورد أبو داود ( ففقئوا عينه فقد هّدِرت) وجاء في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم ( ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صّبّ في أُذنيه الآنُك (الرصاص المذاب) يوم القيامة.)
وقد تحدث الشيخ حسن أيوب في هذا الموضوع في كتابه القيم ( السلوك الاجتماعي في الإسلام) بقوله :" وهكذا يجب أن يفهم الملمون دينهم وأن يدركوا أن للمسلم ولكل إنسان مسالم حرمته وأن حرمة المسلم في مسكنه وفي أقواله وأفعاله وآرائه وأفكاره يحب أن تصان وتحترم.
 فهل يتعلم الغرب من تشريعات الإسلام العظيمة. وكم كنت أتمنى لو أن محرر الصحيفة التي نقلت تقرير الصحيفة الأجنبية (لوس أنجلوس تايمز ) ذكر التشريعات الإسلامية في هذا الباب لكنّا أفدنا من سعة انتشار هذه الجريدة وما يمكن أن تؤديه من خدمة للدعوة الإسلامية.






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية