الاستشراق والحديث




        وصوّب المستشرقون سهامهم أو سهام بحووثهم ونقدهم تجاه السنّة النبوية المطهرة يطعنون فيها وفي حجيتها وفي جهود العلماء المسلمين من سلف هذه الأمة في حفظها وتدوينها. وربما وجد المستشرقون مجالاّ لهذا النقد لأن السنّة لم تحظ بالتدوين المبكر والكامل منذ بداية الدعوة الإسلامية كما حظي القرآن الكريم الذي نقل إلينا بالتواتر القطعي. ولكن هذا لا ينفي الحرص الشديد والعمل الكبير الذي قام بها علماء هذه الأمة للمحافظة على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
      وقد تولى كبر الطعن في السنة الشريفة بعض كبار المستشرقين من أمثال المستشرق اليهودي المجري اجناز جولدزيهر في كتابه(دراسات إسلامية) وغيره من الكتب .كما تناول السنة مستشرقون آخرون مثل المستشرق جوزيف شاخت والمستشرق جيمس روبسون .
تدوين السنّة:
       من أبرز الطعون في هذا المجال أن اختار المستشرقون الوقوف إلى جانب الرأي القائل بأن السنة لم تلقى أي تدوين ن واحتجوا لذلك بوجود بعض الأحاديث التي تسمح بكتابة الحديث بينما يعارض بعضها الكتابة. وقد وصل العلماء المسلمون إلى أن المنع عن الكتابة كان في أوائل الدعوة الإسلامية حتى  لا تختلط السنة بالقرآن الكريم ، وأن السماح بالكتابة هو الأغلب وقد وجد من الصحابة الكرام رضي الله عنهم من قام بالكتابة ،ووجدت عدة صحف تحتوي على عدد كبير من الأحاديث منها (الصحيفة الصادقة).وبعد أن يتمكن المستشرقون من تقديم الطعن هذا وأن التدوين الرسمي والشامل لم يبدأ إلاّ بعد قرن تقريباً من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم يقدمون طعوناً أخرى وهي أن هذه المدة الطويلة كافية لتعرض الكثير من الأحاديث للضياع والنسيان ،فالذاكرة البشرية مهما كانت قوية فلا تستطيع أن تحتفظ بكل هذه المرويات هذه المدة الطويلة.
      وأضاف المستشرقون سبباً آخر لفقدان الحديث أو وقوع الوضع فيه أو التزييف كما يقولون هو الصراعات السياسية بين فئات المجتمع بحيث لجأت بعض الفرق -وهم يزعمون أن كل الفرق فعلت هذا- إلى الوضع في الحديث.كما إن تطور الظروف الاجتماعية ودخول ثقافات أخرى إلى حياة المسلمين كالتأثر بالفرس والرومان والثقافة اليونانية والنصرانية واليهودية أدى إلى دخول كثير من الأفكار الدخيلة إلى الحديث النبوي الشريف.
     وزعم المستشرقون أيضا أن الوضع في الحديث قد تأثر بتطور الحياة واحتياج المسلمين إلى تشريعات تواجه هذه التطورات فلجأوا إلى الوضع ، ويزعمون أن الحديث الشريف لم يكن له حجية كاملة في بداية الدولة الإسلامية حيث اكتفى المسلمون بالقرآن الكريم ، ولكن هذه التطورات جعلتهم يلجأون للحديث الشريف، فإن لم يجدوا رواية لحديث في المجال الذي يريدون قاموا بوضع الحديث.
     وقد أضاف بعض المستشرقين أن الوضع يكون أحياناً لأهداف شخصية كما زعم مستشرق بخصوص حديث من مات دون ماله فهو شهيد ، فزعم أن راوي الحديث كان رجلاً غنيا ، فرأى من مصلحته وضع حديث بهذا الخصوص.  
       ويمكن الرد على مزاعم المستشرقين من ناحيتين :أولا بيان جهود العلماء المسلمين لحفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وثانيا بذكر بعض الدراسات الحديثة للرد على شبهات المستشرقين في العصر الحديث.
      أما جهود علماء الحديث في المحافظة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فمبسوطة في كتب علم الحديث ،ولعلكم تعرفونها أفضل منّي .ويكفي أن نذكر أسماء العلوم التي وضعها علماء هذه الأمة الخاصة بالحديث الشريف ومنها :علم مصطلح الحديث ، وعلم الرجال ، وعلم الجرح والتعديل، وعلم مشكل الحديث، وأسباب ورود الحديث والناسخ والمنسوخ في الحديث الشريف وغيرها.فهذه العلوم بما تحويه مكتباتنا من مجلدات ضخمة فيها تدل دلالة واضحة على الجهود العجيبة التي بذلها المسلمون للمحافظة على الحديث الشريف.
     ونوجز قليلاً بعض هذه الجهود ، فقد بدأ الاهتمام بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ الخلافة الراشدة حيث روي أن الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما رفضا قَبول بعض الأحاديث الاّ بشاهدين . ومن الأمثلة على ذلك أن أحد الصحابة حدّث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحديث الاستئذان فعلاه ابن الخطاب بالدرة إن لم يأت بشاهدين على انه سمع هذا الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم. ولم يفعل عمر رضي الله عنه هذا تكذيباً للصحابي فكلهم عدول ولا يكذّب بعضهم بعضا ، ولكنه يريد أن يوضح للأمة الحرص على الدقة في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    أما مسألة الحفظ هذه المدة الطويلة فقد أوتي العرب ملكة الحفظ حيث كانوا يحفظون آلاف الأبيات من الشعر ، ويحفظون الأنساب ، ويحفظون أيام العرب وتواريخهم . وهذه الملكة تقوى مع الاستخدام والتدريب.ولمّا كانت العرب في الغالب أمة أمية فقد لجأوا إلى الحفظ .وقد أثبت التاريخ هذا الأمر في مجال الحديث بصفة خاصة وحتى يومنا هذا. فكم عدد النصارى الذين يحفظون كتابهم " المقدس" في مقابل الأعداد الغفيرة من المسلمين الذين يحفظون القرآن الكريم وكتب الحديث النبوي الشريف.
    أما في الماضي فقد كان عالم الحديث الذي ينال لقب " حافظ" -وكانوا كثر- فكان يحفظ آلاف الأحاديث بأسانيدها . ولو رجعنا إلى الاختبارات التي دخلها بعض علماء الحديث في مسألة الحفظ لذهلنا من هذه القدرة العجيبة.فقد قرأ على الإمام البخاري رحمه الله تعالى مئة حديث مقلوبة الأسانيد فأعاد كل حديث إلى سنده. وقد روي أن الإمام أحمد بن حنبل كان يجعل ابنه يحفظ الأحاديث الموضوعة أولاً ثم يقول له هذه موضوعة فابدأ الآن بحفظ الأحاديث الصحيحة.
     وبالإضافة إلى هذه القدرة العجيبة في الحفظ فثمة مسألة أخرى وهي تمسك المسلمين بدينهم وحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .والدليل على ذلك أن كثيراً من علماء الحديث أنفقوا أعمارهم في دراسة الحديث والرحلة في طلب الحديث ، وقد اعترف بعض المستشرقين بهذه الجهود.وكيف لا يحرص المسلمون على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأصل الثاني من أصول الشريعة الإسلامية .والحديث هو حديث نبيهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم .
    وأما مسألة تطور الحياة الاجتماعية في الدولة الإسلامية مما أدى إلى الحاجة للحديث فبدأ المسلمون في البحث عن التشريعات في القرآن الكريم فإن لم يجدوا بحثوا عن الحديث فإن لم يجدوا حديثاً وضعوه فهذا والله منتهى السخف من المستشرقين ،فقد كان الحديث موجوداً دائماً .والترتيب في البحث عن أدلة الأحكام إنما هو بترتيب أهمية هذه الأدلة .ولو لم يكن الحديث موجوداً لما عرفنا الحديث الذي يقول ( عليكم بكتاب الله وسنتي ، لا يزيغ عنهما إلاّ هالك.) وفي حديث آخر ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)
     ومن افتراءات المستشرقين على الحديث الشريف زعمهم أن علماء الحديث اهتموا بالسند أكثر من اهتمامهم بمتن الحديث. وأضافوا أن من السهل على أي شخص أن يأتي بالسند الذي يرغب ويضيف له ما يشاء من كلام. وهذه افتراءات عجيبة وقد تأثر بهم أحمد أمين في كتابه( فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) وكذلك محمود أبو رية في كتابه( أضواء على السنة المحمدية).
          ويقول ساسي سالم الحاج في الرد على هذه الفرية:" يبدو للباحث منذ الوهلة الأولى  اهتمامهم بسند الحديث أكثر من اهتمامهم بمتنه ، ولكن الحقيقة عكس ذلك ، فهم عندما قسّموا الأحاديث إلى صحيحة وحسنة فإنهم في الحقيقة تناولوا السند والمتن معاً أو السند دون المتن أو المتن دون السند000 وعند حديث العلماء عن الحديث المعلل فإنهم لم ينفوا تعليل المتن ، فقالوا:لا يطلق الحكم بصحة حديث ما لجواز أن يكون فيه علة في متنه، وقد جاؤوا بشواهد كثيرة على ذلك."(الظاهرة الاستشراقية1/2،ص 603-604)
     ومن العجيب أن هؤلاء المستشرقين الذين يزعمون التمسك بالمنهج العلمي والريادة فيه ، وأننا لا بد أن نتعلم منهم قواعد المنهج العلمي الصارمة تجدهم أول من يخالف هذه القواعد ، فمن هؤلاء من يبحث عن الأحاديث التي ضعفها علماء الحديث المسلمون فيجعلوها هي القاعدة التي يبينون عليها حكمهم بالوضع على معظم الحديث.فقد وجد منهم من يزعم أن الطبقات (طبقات الشافعية، طبقات الأحناف000الخ) أكثر صحة من الحديث النبوي الشريف لأنها ليس فيها صحيح وضعيف بينما توجد مثل هذه المصطلحات في الحديث. مع أن هذه المصطلحات في الحديث أدعى للثقة بالحديث من الثقة بالطبقات. كما أن بعض المستشرقين يلجأون إلى كتب الحديث مثل كنز العمال فيأخذوا منه أحاديث دون النظر في حكم علماء المسلمين ويزعمون أن الأحاديث كلها موضوعة.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية