الأمير نايف والأمن الفكري

                      
      سأتناول في هذه المقالة قضية مهمة ألا وهي قضية (الأمن الفكري) التي تناولها سمو وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز في لقائه يحفظه الله (يرحمه الله) مع جريدة "المدينة المنورة" الذي نشر يوم 19شعبان 1417هـ. عقب الاحتفال بتكريم المتقاعدين بوزارة الداخلية. فسموه الكريم خير من يتناول هذه القضية حيث إنه يرأس جهازين من أهم أجهزة الدولة وهما وزارة الداخلية التي أدركت دائماً أن " الوقاية خير من العلاج" بحكم خبرتها ومعالجتها لقضايا الأمن، وبحكم ترأسه للمجلس الأعلى للإعلام الذي يضع السياسات الإعلامية لهذه البلاد فهو على معرفة واسعة وعميقة بما يدور في العالم من تيارات فكرية وصراعات.
    فقد أكدّ سموه الكريم على أهمية الأمن الفكري وقال في ذلك:" لا شك أن (الأمن الفكري) من أهم الأمور لأنه إذا لم يكن هناك أمن فكري سيكون هناك خلل في الأمن في جميع فروعه." كما نبّه حفظه الله إلى أن مسألة في غاية الحساسية - ولا ينبؤك مثل خبير- بأن " جهدنا في الأمن الفكري ليس بالمستوى الذي نريد، وهو محدود جداً، ويجب أن تتعاون كل الأجهزة المعنية لتصحيح المفهوم الأمني." وطالب حفظه الله من الجهات المسؤولة وقد حددها بالوزارات المهتمة بالتربية والتعليم ووزارات الشؤون الإسلامية ورعاية الشباب ووزارة الإعلام.
     وهكذا ف" الأمن الفكري " قضية خطيرة ذلك أن الفكر يستمد جذوره من عقيدة الأمة ومسلماتها وثوابتها وهو الذي يحدد هويتها وشخصيتها وذاتيتها، ولا يمكن أن يكون للمسلمين فكر إلاّ ما توافق مع هذه العقيدة ومبادئها وثوابتها. وإن من أهم ما يذكر في الحديث عن الغزو الفكري أن لويس التاسع الذي أسر في إحدى الحروب الصليبية أخذ يفكر في السبيل إلى السيطرة على المسلمين وهزيمتهم فهداه تفكيره إلى أن مواجهة المسلمين عسكرياً وحدها لا تجدي ما لم ترتبط بمحاربتهم في عقيدتهم وفي فكرهم وثقافتهم. وهذا ما فعله الاحتلال الأوروبي للبلاد الإسلامية وما يزال حتى الآن.
    ومن المناسب أن نذكر أن القرآن الكريم اهتم بمسألة الأمن فقد منّ الله سبحانه وتعالى على قريش بالأمن، ولكنه كان أمناً حسيّاً مادياً. فقد كانت قوافل قريش تجوب الجزيرة العربية وتنطلق إلى خارج الجزيرة بأمن واطمئنان. أما الأمن الحقيقي فلم يتحقق إلاّ بالإسلام حينما تمسكت هذه الأمة بهذا الدين فتحقق لها الأمن بجميع صوره وأشكاله.
     وقد عانت هذه الجزيرة العربية قبل توحيد معظم أجزائها على يدي الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله ضياعاً أمنياً وقلقاً وخوفاً حتى جاء الملك عبد العزيز فأسس هذا الكيان المبارك على مبادئ الإسلام العظيمة فأصبح الأمن حقيقة لا يعرفها إلا من عرف ضدها وكما قيل (وبضدها تتميز الأشياء) فقضى رحمه الله على الجريمة بأنواعها من قطع الطريق والسرقة، كما بدأ الأمن الفكري يسود هذه البلاد بنشر الإسلام ومبادئه من خلال التعليم والإعلام.
     وجاء الملك سعود رحمه الله فواصل ما بدأه الملك عبد العزيز، وكانت ذروة المواجهة مع الأفكار القومية والشيوعية والبعثية والماسونية والصهيونية والوجودية وغيرها في عهد الملك فيصل رحمه الله، فوقف رحمه الله وإخوته معه من أبناء الملك عبد العزيز وبخاصة خادم الحرمين الشريفين الذي تسنم منصب الوزارة لأول وزارة للمعارف في المملكة. ووقف إلى جانبهم أبناء هذا الشعب الكريم في وجه هذه التيارات الفاسدة حتى عُدّت المملكة العربية السعودية من أهم الدول التي وقفت في وجه المد الشيوعي. (ومن شاء تفصيلاً فليعد إلى مذكرات معالي السيد حسن كتبي وما كتبه الشيخ محمد أحمد باشميل.)
     ولقد اقتضت الخطط الخمسية لتنمية المملكة ابتعاث أعداد كبيرة من أبناء هذه البلاد إلى أوروبا وأمريكا، كما استقدمنا أعداداً كبيرة من الخبراء والأيدي العاملة. وكان لكل من هاتين الفئتين جوانبها الإيجابية والسلبية. فقد أفاد أبناء هذه البلاد من الدراسة في الخارج فاطلعوا على الفكر الغربي وعلى التيارات الفكرية المنتشرة هناك وعاد الكثير منهم أو أغلبهم - والحمد لله - وهم أشد تمسكاً بالعقيدة الإسلامية وثوابتها. ولكن بعضهم تأثر -وهم قلة- بالفكر الغربي فحاولوا نشر ما تعلموه من خلال التدريس أو من خلال وسائل الإعلام.
    وكذلك الحال بالنسبة للأيدي العاملة والخبرات الوافدة فقد كان لها جانب إيجابي حيث أسهموا في نهضة هذه البلاد وبنائها، وكان منهم أساتذة أفاضل في العلوم العربية والشرعية وغيرها، وكان لهم دور مبارك في مواجهة الغزو الفكري وذلك للخبرات التي نالوها في بلادهم في مواجهة تيارات هذا الغزو حيث كانوا أسبق منّا في الابتعاث إلى الخارج وإلى الاحتكاك بالأجنبي. ولكن كان منهم أيضاً من جاء إلينا بكثير من الأفكار المخالفة للإسلام وحاولوا نشرها بيننا بوسائل مختلفة حتى إننا تأثرنا كثيراً في السنوات القليلة الماضية بهذه التوجهات السلبية.
    ولكن هذه البلاد تتمتع بقيادة حكيمة ترى أن من واجبها تحقيق (الأمن الفكري الحقيقي) فها هي كلمات الأمير تشير إلى ضرورة العمل من كل مؤهل للعمل على التأكيد على هوية هذه البلاد الإسلامية. فقد ذكر سموه أن الأرض "لم تخل قط من الانحرافات والجريمة ولذلك جاءت التشريعات الربانية والقوانين لمعاقبة المجرمين، ولكن ثمة ما هو حقيق بالاهتمام" ولكن في نفس الوقت لا بد أن نهتم بالأمن الفكري، وأستطيع أن أقول هذا هو هاجس المجلس الأعلى للإعلام الذي يسرني أن أشارك فيه كأحد المسؤولين، كما إنه هاجس وزارة الداخلية، ونحن نطالب من المعنيين  في الدولة من الوزارات المسؤولة بالتعليم والتربية مثل وزارة الشؤون الإسلامية ورعاية الشباب أن تقوم ممثلة في وزارة الإعلام كذلك بمواجهة الفكر الضار لأنه أخطر شيء فإن كان الفكر لدى الناس سليماً ونظيفاً وصحيحاً مستمد من كتاب الله عز وجل .. فهذه هي الغايات.."
     نعم إن الأمن الفكري قضية كبيرة وحساسة تتطلب تكاتف كل الجهات المعنية لمواجهة التيارات الفكرية الفاسدة، ففي الوقت الذي تسعى الأمم المختلفة وبخاصة الأمة الإسلامية إلى الاحتفاظ بهويتها وذاتيتها تحاول الدول الغربية تحت ستار التقارب الفكري والانفتاح على الآخر والحوار أن تسيطر على الشعوب الأخرى وتهيمن عليها ثقافياً وسياسياً واقتصادياً. والجهود المطلوبة ليست قاصرة على مجموعة من علماء الشريعة الذين تفرغوا للدراسات الشرعية؛ فهؤلاء لا شك لهم دورهم المهم والخطير في مسيرة الأمة، ولكننا بحاجة إلى كل جهد من كل فرد لنسعى جميعاً للعودة إلى الهوية العربية الاسلامية لنحقق "الأمن الفكري "
    وكما وعدت بالحديث عن بعض الوسائل فلنبدأ بالطفل الذي ما زال نهباً لأفلام الكرتون الغربية واليابانية العنيفة التي تسيطر على مساحة واسعة من شاشات التلفزة العربية والاسلامية. فنحن بحاجة إلى جيوش من كتاب القصة والسيناريو والحوار والرسّامين والفنيين والمخرجين والمنتجين والمدبلجين وغيرهم ليعدوا لنا ألاف الأفلام الكرتونية لتغطي مساحات البث التلفزيوني الواسعة. لا شك أننا بدأنا بخطوات جيدة وثابتة نحو هذا الهدف ولكننا مازلنا بعيدين عن تحقيقه. وليس المطلوب أن نتطلع إلى الاكتفاء الذاتي فإننا يجب أن ننظر إلى رسالتنا في هذه الأرض وهي هداية البشرية وقيادتها {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}. فتصبح الشخصيات الإسلامية الكرتونية التي تدعو إلى الخير والفضيلة والمثل الإسلامية هي التي تغذي عقول الناشئة في أنحاء الكرة الأرضية. وليس هذا من قبيل الخيال فنحن مطالبون بأداء هذه الرسالة.
     ولا بد أيضاً أن يكون لنا نشاطنا في المجالات الفكرية الأخرى من إنتاج الأفلام والبرامج التلفازية والإذاعية، وإصدار الكتب والمجلات والدوريات العلمية. فقبل سنتين أو أكثر أصدرت بعض الجهات التي تحارب الإسلام عدة مجلات فكرية (أو دوريات) ولا يكاد يقابلها من الجانب الإسلامي الرصين إلاّ العدد القليل جداً. وهنا تأتي مسؤولية العلماء والدعاة والوعاظ أن ينشروا علمهم في كل مكان فلا ينبغي لهم أن يعيشوا في بروج عاجية ينتظرون أن يأتي إليهم الناس. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حين كان يعرض نفسه على القبائل وخرج إلى الطائف مشياً على الأقدام ليجد بيئة لدعوته أصلح من بيئة قريش التي ناصبت دعوته العداء. ونحن والحمد لله نعيش في دولة تدعم كل الجهود الدعوية ويصرح كبار المسؤولين فيها أن ثمة تقصيراً في نشر الكلمة الطيبة وتحقيق الأمن الفكري الذي يؤدي إلى تحقيق أنواع الأمن الأخرى فلا عذر للقادرين على حمل رسالة الدعوة في أي تقصير.
وقبل أسابيع قليلة كان للأمير سلمان (الملك سلمان حالياً) لقاء مع الصحافة أشار فيه إلى مسؤولية العلماء في المشاركة في هذا المنبر. ومن العجيب أن تسمع أحياناً من يعترض على الأستاذ الجامعي حين يشارك في الكتابة الصحافية أو في إلقاء المحاضرات. فبالله ِلمَ درس وتعلم إن لم يسع إلى نشر العلم الذي تعلمّه؟ وليعلم الأساتذة أن التعامل مع وسائل الإعلام المختلفة يحتاج إلى فن ودربة وقدرة على الإقناع، ولا يمنع هذا أن يعرض الأستاذ نفسه مرة بعد مرة حتى يجد له مكاناً في هذه الوسائل. فالكاتب لا يصبح كاتباً لمجرد أنه يعرف كيف يكتب مقالة بل لا بد له من جهد كبير ليصل إلى المكانة التي يستحقها.
وثمة قضية خطيرة وهي أن الأمن الفكري الذي دعا إليه سمو الأمير الجليل يعني أن يتحلى المسلمون فيما بينهم بالأدب الإسلامي في الخلاف فمما ينافي الأمن الفكري الذي عناه الأمير ما يقوم به البعض من محاربة من يخالفهم الفكر مستخدمين كل الوسائل لتحطيمهم وتحقيرهم مع أن الكل يعمل في سبيل الإسلام. ومما يبعدنا عن تحقيق الأمن الفكري الذي ينشده سمو الأمير أن يتحارب أو يتخاصم أبناء الأمة الواحدة ويصل الأمر بالبعض إلى حد التكفير وهو أمر جد خطير. وقد وقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وجه الخوارج الذي حملوا السلاح لقتال مخالفيهم حيث لم يكتفوا بآرائهم الشاذة التي خرجوا فيها عن إجماع الأمة ولم يكن ليقاتلهم رضي الله عنه إلاّ لأنهم حملوا السلاح واستحلوا دماء المسلمين، فقد كان مجمل رأيه فيهم (إخواننا بغوا علينا) فلم يكفّرْهم ولم يصفهم بالنفاق.

شكراً لسمو الأمير نايف على هذه الكلمات الرائعة التي أرجو أن تأخذ طريقها إلى حيز التنفيذ كما يرغب سموه الكريم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية