موقف من الإرهاب





ولمّا وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، ونشرت وسائل الإعلام الأمريكية نقلاً عن الحكومة الأمريكية وجود مجموعة من الشباب السعودي ضمن ركاب الطائرات التي ضربت برجي التجارة العالميين في نيويورك حتى زاد اهتمام العالم بالسعودية والإسلام فيها. وكان سيل الاتهامات للسعودية والإسلام لا يكاد ينتهي. وتولى كِبر هذه الهجمة عدد من الصحفيين والإعلاميين وبعض الباحثين المتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية (المستشرقون) من أمثال برنارد لويس، ودانيال بايبس، ومارتن كريمر، والسفير الإسرائيلي في واشنطن الذي نشر كتاباً بعنوان مملكة الكراهية، وعدد من التابعين للتيار الاستشراقي من أمثال فؤاد عجمي، وفريد زكريا وغيرهما. فما حقيقة الأمر؟ والحقيقة أن هذا الهجوم على الإسلام لم يكن وليد الحادي عشر من سبتمبر فالمطلع على الإعلام الغربي، وعلى الإنتاج العلمي لمراكز البحوث وأقسام دراسات الشرق الأوسط يعرف أن هذا الهجوم كان قديماً جداً وقد ازدادت حدته مع سقوط الشيوعية وانفراط عقد الاتحاد السوفيتي سابقاً. وقد كتب القس الأمريكي سبايت من مركز التفاهم الإسلامي النصراني يحذر من جعل الإسلام الشبح الجديد، وأشار إلى بعض الكتابات في هذا المجال وبخاصة ما كان يكتبه كرس كروتهامر في الصحف الأمريكية عن أن الإسلام سيكون الشبح المخيف الجديد للغرب، وأكد مثل هذا الكلام الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، ثم كانت خاتمة المطاف مع كل من صموئيل هتنقتون في ابتكاره أو إعادة إحياء مصطلح (صدام الحضارات) الذي ابتدعه المستشرق المشهور برنارد لويس منذ السبعينيات في كتابه الغرب والشرق الأوسط، وفوكوياما في حديثه عن نهاية التاريخ.

إن المملكة العربية السعودية أعلنت منذ قيامها أن دستورها القرآن، وأن نظامها الأساسي منبثق عن تشريعات الإسلام وقوانينه. وبنت مناهجها الدراسية على الرفع من شأن الإسلام وتكثيف المواد الدينية في المدارس. فما زلت أذكر أن طالب الصف السادس ابتدائي كان عليه أن يحفظ عشرين حديثاً نبوياً (عام 1382هـ/1962م)، بالإضافة إلى حفظ عدد من سور القرآن الكريم لا يحفظها طالب في أي مرحلة من مراحل الدراسة في العالم الإسلامي. كما أن الدروس الدينية موزعة على عدة مواد هي القرآن والتفسير والفقه والحديث. ولا يغيب الدين عن دروس اللغة العربية حيث الأمثلة والشواهد من القرآن والسنة، أو من الشعر العربي الأصيل الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق والقيم السامية النبيلة.

وكان لمناهج التعليم دورها في المحافظة على إسلامية المجتمع السعودي أو تمسكه بالإسلام، فللمدارس نشاطاتها اللاصفِّية التي تشجع على مزيد من الارتباط بالإسلام وأخلاقه وسلوكياته. فهناك النشاط الكشفي في المراحل الدراسية المختلفة، ثم نشاط الجوالة في المرحلة الجامعية، أما المراكز الصيفية فإنها في أغلبها تتجه نحو الترفيه البريء، والمحافظة على القيم والأخلاق السامية المستمدة من الإسلام، مع الاهتمام بالتعليم والهوايات المختلفة من رسم ورياضة وغير ذلك.

أما الكتب الدراسية في المناهج السعودية فهي تلتزم بالإسلام عدا بعض الثغرات القليلة في بعض العلوم الحديثة كعلم النفس، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والجغرافيا، واللغة الإنجليزية وغيرها. وهذا الالتزام بالإسلام يقدم صورة بعيدة عن الصور النمطية للشعوب الأخرى. فهي مناهج متوازنة ومعتدلة، ولا يمكن أن ينسب إليها مطلقاً ظهور الفكر الإرهابي التطرفي. نعم يمكننا أن نقول أنّ بعض الكتب الدينية مكتوبة بلغة مرّ عليها أكثر من قرنين وكتبت بقوالب محددة لم تشهد أي تطور أو تغيير. إن الزمن الذي كتبت فيه هذه الكتب غير الزمن الذي نحن فيه، ومع ذلك فإن هذه المناهج تحذر من الشرك والكفر، وقد تبالغ أحياناً في بعض هذه المسائل ولكنها ليست مسؤولة عن ظهور التطرف. فالذين مارسوا التطرف والعنف إنما هم فئة محدودة بينما غالبية من درس هذه المناهج ليس متطرفاً ولا متعصباً، فكيف ينسب التطرف للمناهج؟

قد يتهم البعض المجتمع السعودي بالانغلاق، ولكن هذه التهمة لا تقف أمام الأدلة والبراهين على أن المجتمع السعودي من أكثر المجتمعات العربية انفتاحاً على العالم، فمنذ أكثر من أربعين سنة انطلقت البعثات العلمية إلى مختلف دول العالم ابتداءً من مصر إلى الدول الأوروبية وأمريكا، وقد أسهمت شركة أرامكو في ابتعاث عدد كبير، بل لم يقتصر الابتعاث على وزارة المعارف ثم وزارة التعليم العالي بل شاركت مختلف قطاعات الحكومة السعودية في ابتعاث موظفيها إلى الغرب لمواصلة دراساتهم أو الحصول على دورات متخصصة.

     وقد بلغت هذه البعثات في وقت من الأوقات عشرات الآلاف، وهؤلاء لا شك تعرفوا إلى المجتمعات الغربية وتأثروا بها وأثروا فيها. وعادوا يحملون فكراً وثقافة تختلف عن الفكر والثقافة التي غادروا بهما. وقد ظهرت تيارات فكرية في المملكة متأثرة بالفكر الغربي ومقلدة له، فقد انتشرت موجة ما يسمى بـ"الحداثة" في الأدب والفكر، وهي حداثة مقلدة لحداثة أوروبا رغم أننا لم نمر بالمراحل التي مرت بها أوروبا، وقد فسح المجال لها أن تعبر عن نفسها في وسائل الإعلام المختلفة من صحافة، وإذاعة وتلفاز. كما أصدرت العديد من الكتب. بل إن بعض رموز الحداثة في بلادنا احتكروا عدداً من المنابر الصحفية وغيرها. وأتيحت الفرصة لمنتقدي الحداثة أن يعبروا عن رأيهم بحرية كتابة ومن خلال المنابر المختلفة.

أما المجتمع السعودي فإن تمسكه بالإسلام تمسك حقيقي، ويتمثل هذا التمسك بالعلاقات الاجتماعية القوية التي تربط أفراد المجتمع بعضهم مع بعض، وكذلك في التلاحم الأسرى، وفي المناسبات العامة من أفراح وأحزان. ويتمثل التمسك بالإسلام في العلاقات المالية بين الناس. ولكن هذه المظاهر التي كانت أقرب إلى التمسك الصحيح أو ربما التشدد بدأت تشهد بعض التغيرات الكبيرة، فازدادت الأفراح بذخاً وربماً فساداً، وكثرت القضايا المالية في المحاكم، وضعف النسيج الاجتماعي عموماً. فظهرت حالات عقوق الوالدين التي لم تكن لتعرف قبل عقود من الزمن، كما ضعف النسيج الاجتماعي الذي كنّا نفخر به في يوم من الأيام. ولعل من أهم أسباب ذلك أننا تعلمنا الدين من الناحية النظرية وغاب التطبيق عنّا، كما أن الطفرات الاقتصادية والركض خلف المال يفقد المجتمعات الكثير من القيم والمثل والمبادئ. والأمر الثالث أننا تمسكنا بمظاهر الدين ولم نتمسك حقيقة بجوهر الدين ولبه، وهذا ما جعل المجتمع سريع التأثر بالإعلام الغربي وإنتاج هوليوود السينمائي الذي يدعو في معظمه إلى الرذيلة والانحطاط الأخلاقي، وصناعة الموضة التي أفسدت النساء وهن ركيزة الأسرة.

ومن المظاهر المهمة في المملكة العربية السعودية وجود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تشبه إلى حد كبير شرطة الآداب في البلاد الأخرى سوى أنها تختلف عنها في بعض المهمات، وكذلك في الأسس التي تنطلق منها؛ فهيئة الأمر بالمعروف تنطلق من مبادئ إسلامية أصيلة وهي ضرورة أن يكون في المجتمع فئة (تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى الله على بصيرة) وقد كان لهذه الهيئة دور مبارك، ولكن بعض الأخطاء والتجاوزات بالإضافة إلى وسائل الإعلام العربية والغربية أساءت لها. ولذلك لا يمكن للإنسان أن ينكر أن لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيجابيات كبيرة في الحد من كثير من مظاهر الفساد التي توجد في المجتمعات البشرية عامة، فقد كان من واجباتها الأساسية دعوة الناس إلى أداء الصلاة، ومتابعة قضايا الفساد من شرب الخمر أو الاتجار بها أو مظاهر الفساد الأخرى من بغاء ودعارة أو توزيع لما يمكن أن يدخل ضمن المواد الخادشة للحياء من أشرطة فيديو وغيرها.

ولما بدأت الطفرة الاقتصادية في أواخر السبعينيات الميلادية ودخل البلاد ملايين الوافدين، كان على الهيئة أن تواصل عملها بقوة واقتدار. وأن تطور من أساليبها ووسائلها وأن تدعم كادرها بعدد أكبر من الموظفين المتخصصين. ولا شك أنها واصلت العمل وحققت بعض النجاحات، كما أخفقت في بعض الأحيان. ولعل من أسباب الهجوم المستمر على الهيئة هو استخدامها بعض الأساليب القائمة على التشدد والتزمت فالناس لا يذكرون إلاّ الأساليب القمعية للهيئة، أما ما ينجحون فيه من حماية المجتمع من الفساد وشروره فإن المجتمع لا يعرفه. ومن أسباب هذه الجفوة مع الهيئة أن البشر يميلون إلى معاداة من يدعوهم إلى الخير والفضيلة ويتثاقلون من قبول النصيحة، ولعل هذا مصداق قول الله عز وجل {ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} (الأعراف 21)، ولذلك فهم بحاجة إلى حملة علاقات عامة حقيقية ليعرف الناس حقيقة ما يقومون به، كما أنهم يجب أن يفتحوا أبوابهم للنقد البناء، وأن يفتح المجال للعمل في الهيئة وفقاً للكفاءة والعلم لا أن تكون وظيفة يمكن الحصول عليها بالواسطة.

ولا بد من الحديث عن هذا العدد الكبير من الوافدين من عرب ومسلمين وأجانب فهؤلاء أسدوا للبلاد خدمات كبيرة في تقديم علمهم وخبراتهم والإسهام الكبير في نهضة البلاد وتنفيذ خطط التنمية المختلفة. ولكنهم في الوقت نفسه نقلوا إلى المملكة الكثير من العادات والتقاليد والسلوكيات الاجتماعية التي لم تكن مألوفة في السابق. ومن الأمثلة على ذلك أن المرأة الوافدة لم تعرف الحجاب الكامل الذي يتمثل في غطاء الرأس. فبدأت تظهر في المجتمع نساء سعوديات قلدن المرأة الأجنبية. وكان هذا السلوك سبباً في ظهور النقاش حول ضرورة غطاء الوجه. فالأمر الذي لم يكن مسموحاً بالاقتراب من الحديث فيه قبل سنوات أصبح يطرق الآن وبقوة. ومع ذلك فإن في المجتمع السعودي بعض مظاهر التشدد التي قد لا تجدها في بلد آخر.

    وليس هذا فحسب بل إن الإعلام الرسمي السعودي ظل ومازال الأقرب إلى روح الإسلام في برامجه، وحتى بعد أن بدأ هذا الإعلام ينطلق مقلداً الإعلام في الدول العربية الأخرى من حيث التركيز على التسلية والترفيه وإظهار المرأة في الغناء وفي التمثيل في أوضاع بعيدة عن الحشمة والحياء، جاءت حركة جهيمان العتيبي لتضع حداً لهذه الأمور فتوقف ظهور النساء المغنيات، وعاد التلفاز أكثر التزاماً بالقيم والحشمة والحياء.

ولكن ما لم يكن في الحسبان أن انطلقت وسائل إعلام مهاجرة وبخاصة في بريطانيا لتؤسس لعدد من الصحف والمجلات، ووسائل الإعلام الأخرى من قنوات فضائية وإذاعات وبخاصة إذاعات الإف إم لتتخطى الحدود في مسائل الترفيه والتسلية، كما أنها أعطت هامشاً أوسع من الحرية لتناقش كثيراً من ثوابت الأمة. ومن الصعب أن تحسب هذه القنوات على السعودية وإن كان بثها وتوجهها الأساسي هو لهذه البلاد. والدليل على ذلك أن التوقيت السعودي يتقدم في الغالب التوقيت العالمي أو توقيت جرينتش.

  أما الحديث عن حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فيمكن القول إنها قامت بدور مبارك في محاربة البدع والانحرافات العقدية في زمن ماض، ونجحت في إعادة المجتمع في الجزيرة العربية إلى الإسلام الصافي النقي، وما تزال مظاهر هذه العودة في بلادنا التي قد تتميز عن بقية أنحاء العالم الإسلامي في بعض الأمور التعبدية. ولكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكن مفكراً ومنظراً بقدر ما كان داعية إصلاح ووعظ. فلم يتحدث عن المسائل الكبرى مثل الحديث عن نهضة الأمة الإسلامية وعلاقتها بغيرها من الأمم.

ولكن نظراً للارتباط الوثيق بين الشيخ وحركته فإن نفوذ الحركة ما زال باقياً إلى اليوم. فما زال كتابه التوحيد هو الأساس في تدريس هذه المادة في المراحل الدراسية من الصف الأول ابتدائي حتى الجامعة. كما أنه تعقد مؤتمرات وندوات وأسابيع للاحتفاء بالشيخ وجهوده. وما زلت أذكر أن جمعية أهل الحديث في مدينة بيرمنجهام عقدت ندوة عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في شهر أغسطس عام 2000م بتمويل سعودي. كما أن دارة الملك عبد العزيز كان لديها خطة لإنشاء مركز بحوث باسم الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

كما ذكرت لا يمكننا أن ننكر دور حركة الشيخ في الإصلاح ومحاربة البدع، ولكن هناك مستجدات كثيرة تتطلب عدم الوقوف طويلاً عند هذه الحركة الدعوة وأسلوبها. وعلماء السعودية اليوم ليسوا أسرى تلك الفترة التاريخية. فإن صح أن يطلق على بعضهم أنهم متشددون أو متعصبون؛ فإن التعصب موجود لدى جميع الأمم وفي جميع الدول وفي جميع الملل والنحل. فإن كان في المسلمين متعصبون، فإن في النصرانية وفي اليهودية متعصبون أشد وأعنف وأعتى.

وفي الخلاصة فإن الإسلام دين عظيم جاء ليحقق للإنسانية الكرامة التي قال الله فيها {ولقد كرّمنا بني آدم}، وليكون رحمة للعالمين في أخلاقه وفي تشريعاته ونظمه، {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين}،  ويدعو البشرية للعمل في سبيل تطوير وترقية الحياة الإنسانية على هذه الأرض، وليس لتتصارع من أجل البقاء أو تتحارب على الموارد النادرة والمواد الأولية التي قال بها أساطين الفكر الاقتصادي الغربي، بينما يرى الإسلام أن الأرض قد قُدّرت فيها أرزاقها، ويدعو الإسلام إلى التسامح، فكيف ينسى الغرب كلمات المفكر الفرنسي الكبير جوستاف لوبون (لم تعرف البشرية فاتحاً أرحم من المسلمين)، وليتذكر العالم أن اليهود الذين عانوا من الاضطهاد على مدى تاريخهم لم يعرفوا استقراراً وازدهاراً كما عرفوه في تاريخهم مع المسلمين.

وأخيراً علينا أن نفرق بين الإسلام وحال المسلمين اليوم حين ابتعدوا عن الإسلام فلم يعد لهم تلك المكانة التي وصلوا إليها يوماً ما حينما كانوا معلمي البشرية وهداتها.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية