المدينة المنورة من الجمال والسكينة إلى القُبح وغابات الإسمنت المسلح


       
 
      من يعرف المدينة المنورة قبل ثلاثين سنة ينكر المدينة الحديثة أو يظن أنه يزور مدينة مختلفة لولا المنارات الأربعة القديمة والقبة الخضراء. أما ما عدا ذلك فإنها مدينة غير تلك المدينة. ولم يكن التغيير يشبه ما حدث لعرش بلقيس الذي نكرته الجن ولكنه أصبح عرشاَ آخر. أي أصبحت مدينة أخرى لا يعرفها من عاش فيها وشهد المسجد النبوي القديم بألوانه المميزة وثرياته، تلك الثريات ومصابيح الزيت التي تذكر بعهد ما قبل الكهرباء التي أهديت إلى المسجد النبوي وكانت كل واحدة من الثريات تعادل ثروة ضخمة لا يستطيع حتى بعض كبار الأثرياء أن يملكون نصف واحدة منها أو ربعها أو حتى أقل من ذلك. تلك الثريات اختفت في ليلة ولم يعد أحد يعرف أين ذهبت. أتمنى أن تعود تلك الثريات إلى المسجد النبوي ولكن يقولون إن عجلة التمدين أو التحضير أو التغيير لا تعود إلى الوراء فلذلك لن تعود. أو ندر أن يعيد السارق ما سرق. وهذا ما قاله لي الدكتور يوسف عز الدين عندما قرأ مقالتي (سكة حديد الحجاز هل تعود؟) فقال لي "مازن لن تعود، لن تعود..."
        وفي المسجد النبوي كان الشيخ الشنقيطي وآخرون يملأون جنبات المسجد النبوي علماً، فهذا درس تفسير وآخر للحديث وثالث للفقه ورابع وخامس وعاشر....ثم إذا خرجت من المسجد النبوي وسرت في اتجاه الغرب من باب السلام أو خوخة أبي بكر أو باب الرحمة فإنك تجد الساحة وبعض الفنادق الملاصقة للحرم ومنها مثلاً فندق بهاء الدين وبياع السبح الأستاذ سالم الرحيلي فيما أذكر وفي الساحة تجد أنواع الباعة، وتصعد درجات قليلة فيصادفك أيسكريم التركي أو دندرمة التركي والسحلب في الشتاء، وتسير قليلاً فتجد عابد لليغمش والمنتو وتسير في شارع العينية وفي وسطه كانت متاجر ناصر العامر لبيع الثلاجات والغسالات والأدوات الكهربائية ، وفي الشارع نفسه دكان العم أحمد صندقجي والد صهري عدنان رحمه الله ومحمود لبيع الملابس.وفي آخر الشارع وعلى يمنيه محل رشوان لبيع السوبيا والفول، وقبل دكان رشوان كنت تتجه يميناً إلى سوق البرسيم ويساراً إلى سوق السجاد والمشالح، ثم باب المصري وهو مدخل سويقة. ثم ينتهي شارع العينية بشارع المناخة. ومن جهة دكان رشوان إذا اتجهت جنوباً تجد سوق الأواني المنزلية ومحلات الصعيدي وغيرهم وأحدهم يصنع المطبّق هناك، وإذا سرت قليلاً وصلت إلى باب المصري
وإذا خرجت من المسجد النبوي واتجهت إلى الشمال الغربي تدخل سويقة وكانت في بدايته أسواق صانعي العقل ثم أنواع المتاجر من قماشة وعطارين وغير ذلك من المتاجر، وقبل سويقة كان هناك حارة الأغوات التي تنتهي بدرب الجنائز.
        وأمام المسجد النبوي كانت مكتبة عارف حكمت إحدى أهم المكتبات في العالم الإسلامي التي كان الأمل أن لا تهدم لأنها لا علاقة لمكانها بالتوسعة. ولهذه المكتبة ميزة عجيبة ليس فقط في بنائها الحجري ولكن في دخول الشمس إليها والمحافظة على الكتب من عوامل الزمن. وكانت هناك اقتراحات قوية بأن لا تُزال، ولكنها أزيلت مع ما أزيل من معالم مرحلة مهمة من تاريخ الأمة الإسلامية.
         وكم كان بودي أن أتجول معك في المدينة القديمة كأنك تسير فيها مشياً على الأقدام ولكن هذه الذكريات تثير الأشجان والأحزان والدموع.... وكان في مدخل باب المصري بعض الإخوة النجديين الذين تخصصوا في صناعة الأحذية النجدية (كانوا يسمون الشروق) ويأتي قبلاً منهم متجر عبد العزيز شاهيني ومتجر أبو عوف لبيع الأغذية... وتسير قليلاً في شارع باب المصري تجد بعض الذين يصلحون مواقد الكيروسين (الدوافير) وبعض العطارين وفي جهة من الشارع كان متجر نغيمش وسليمان الأحمدي، وكانا يبيعان المواد الغذائية. وكان متجرهم يعج بالزبائن، وإن لم أكن أعرف تفاصيل عملهم ولكني أعرف حسن تعاملهما مع الناس وسماحتهما مما جعل الناس يقبلون عليهما، وكان عندهم بائع حضرمي نسيت اسمه ولكنه كان دينمو المحل ولعلي أتذكره فيما بعد... وبعد دكان العم نغيمش يأتي دكان صغير لأخيهم موسى..
وينطلق من باب المصرى سوق العياشة وهو لبيع الخبز والشريك، وكان الخبز أنواع ومستويات، وكان أشهر المخابز في ذلك الحين مخبر محمد صلاح ، ومخبز الكعكي ولكن كانت هناك مخابز كثيرة أقل شهرة. وكان من أشهر أنواع الخبز الخبز الجزائري وظل الشيخ إبراهيم الأخضر متخصصاً فيه مدة طويلة حتى توقف إنتاجه مؤخراً...
وتخرج من سوق العياشة إلى سوق الطباخة حيث تجتمع عشرات المطاعم والمطابخ لطبخ مختلف أنواع الطعام.
       وكان من معالم المدينة البعيدة عن عملية العمران أو التوسعة التكية المصرية أو المبرة المصرية، وكان بناءاً رائعاً جميلاً، وفي وقت من الأوقات كان يقدم للناس العلاج والطعام، وقد وصلنا المدينة عام 1382هجرية وكان الدكتور نيازي يعمل هناك، وكان يؤدي دوراً مهماً.في تقديم العلاج المجاني لأهالي المدينة المنورة ، وليتهم لم يهدموها.
        ومن المعالم لتلك المرحلة باب المجيدي وهو في الجهة الشمالية من المسجد النبوي، وكان هناك عدد من الفنادق ودار الأيتام ثم يأتي شارع السحيمي حيث كان فيه مبنى إدارة التعليم والمستوصف الباكستاني، وكان والدي يأخذني هناك للعلاج من التهاب اللوز أحياناً فيستخدم الطبيب مسحة طبية فيها مواد مطهرة، وقد قدم خدمة جليلة لأبناء المدينة مدة من الزمن، ولا أدري هل هو موجود حالياً أو لا...
ولكن ما الذي جعلني أكتب عن المدينة وإن كنت أحب أن أكتب عنها بتفصيل أكثر هو أن أخي الصغير غسان الذي يبلغ الثانية والثلاثين من العمر أرسل لي رسالة إلكترونية فيها عدد من الصور ومنها صورة زقاق الطوال، وسوق الغلال أيام كنّا نستخدم الصاع والمد قبل أن نتحول إلى الكيلو وكنّا نستخدم الأقة. ولكن لماذا التحول إلى مقاييس غيرنا فالإنجليز حاربوا طويلاً مع الاتحاد الأوروبي وسمح لهم أخيراً أن يتمسكوا بالرطل الإنجليزي وبالميل وهم متمسكون بالعملة الخاصة بهم الجنيه الإسترليني. أما الصور الأخرى فهي لمقهى ذي الكراسي العالية التي نسميها كراسي الشريط وتصنع من سعف النخل والخشب وتصلح أن تكون سريراً للنوم إذا وضع عليه فراش.
ومن الصور أيضاً صورة لشارع المناخة، وكان ذلك الشارع ينطلق من أمام مسجد الغمامة، وفي بدايته مجموعة من الأشجار الجميلة في وسط الشارع أو ما يسمونه الجزيرة، وكان شارعاً جميلاً . وكان ينافسه في جماله شارع قباء بما فيه من خضرة لولا بعض التوسعات العرجاء فكان ينبغي أن يصبح شارعاً واحداً باتجاه واحد مع المحافظة على التشجير فيه. وأتعجب من البلديات المختلفة التي تعشق الإسمنت والصبات والمسلح حتى ضاعت الخضرة في وسط المدينة المنورة أو كادت.
      وإذا انطلقت في شارع العنبرية فستصل إلى مدرسة طيبة الثانوية التي تعد من أقدم المدارس الثانوية في المملكة، بل إن منطقة المدينة المنورة التعليمية كانت إلى فترة قريبة من أكبر مناطق المملكة التعليمية. وهذه المدرسة قيل إنها بنيت في العهد العثماني لتكون كلية أو جامعة ثم أصبحت مدرسة ثانوية وفصولها واسعة وفيها تجهيزات رائعة أعدت على يد المربي الفاضل الأستاذ أحمد بشناق الذي كان ينفق من جيبه الخاص على تطوير المدرسة. وأمام المدرسة إلى اليمين منها محطة السكة الحديد.
      وما أن تبدأ شارع قباء تجد بعض المنازل ثم في المنطقة التي خلف الشارع تبدأ البساتين وكانت من الكثرة والخضرة الرائعة حتى إنك عندما تسير في شارع قباء وتقترب من المسجد تنخفض درجة الحرارة بما لا يقل عن عشر درجات مئوية. ومع الزمن هجرت المزارع وقطعت إلى أراض سكنية ودمرت الخضرة التي كانت تشتهر بها المدينة المنورة.
      أكتفي بهذا القدر وأعدكم أن أتحدث عن المدينة المنورة من خلال الأشخاص الذين عرفتهم، وفي يوم من الأيام افتقدت سائق شركة الكهرباء العم محمد خضر شيحة الذي كنت أشاهده بعد أن تقاعد في مكان معين من المسجد النبوي الشريف وفي الحرم القديم فعلمت أنه توفي إلى رحمة الله فقلت مات الذين عرفتهم... وبعد قليل عرفت أن أحدهم قال بيتاً من الشعر فيه مات الذين أحبهم وبقيت مثل السيف وحدى....
وإلى اللقاء في ذكريات أخرى قبل أن تنكر المدينة بثوب من الإسمنت المسلح أو غابات الإسمنت المسلح كما أطلق عليها.


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية