آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية


كتاب الشهر

 


( القاهرة:عين للدراسات الإنسانية والاجتماعية ، 1997م)

تأليف الدكتور محمد خليفة أحمد

عرض عاطف مظهر*

يرى المؤلف أن الفكر الاستشراقي يمثل في معظمه حركة فكرية غربية مضادة للإسلام والمسلمين ، وعلى رغم وجود بعض الإيجابيات للفكر الاستشراقي فإن حجم الآثار السلبية وعمق هذه الآثار في المجتمعات الإسلامية لا يمكن مقارنتهما بالفائدة التي تحققت من خلال الآثار الإيجابية. فالاستشراق يعتبر مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن عملية الغزو الفكري المتواصل للثقافة الإسلامية، وعن طريق الاستشراق يحاول الغرب المحافظة على مكاسبه الثقافية التي جناها في المرحلة الاستعمارية وتوسيع دائرة نفوذه الثقافي وتوجيه الحياة الإسلامية وجهة غربية.

وفي هذا الكتاب يعرض الدكتور محمد خليفة أستاذ تاريخ الأديان في جامعة القاهرة الآثار السلبية للاستشراق في المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية مع توضيح الشبهات الاستشراقية والرد عليها في المجالات المختلفة.

يبدأ المؤلف بذكر الآثار السلبية للفكر الاستشراقي في الحفل الديني فيؤكد أن مجال العقيدة الإسلامية فيؤكد أن مجال العقيدة الإسلامية كان من أهم المجالات التي اهتم بها المستشرقون ووجهوا لها النصيب الأكبر من دراساتهم ، فقد نشأ الاستشراق أصلاً في مجال الدراسات الإسلامية لدرس العقيدة الإسلامية والبحث عن الوسائل التي تهدم هذه العقيدة وثير الشكوك حولها.

ومع أن الاستشراق لم يتمكن عبر تاريخه الطويل من تحريق العقيدة الإسلامية إلاّ أنه نجح في إثارة الكثير من المشاكل والقضايا الدينية ما شغل علماء المسلمين في الرد على شبهات المستشرقين ودفعهم إلى اتخاذ موقف الدفاع وهو الأمر الذي كان له تأثيره على الفكر الإسلامي الحديث وصبغه بالصبغة الدفاعية وابتعاده عن الدراسة العلمية المتعمقة التي تستهدف إيجاد الحلول لمشاكل الحياة الإسلامية المعاصرة وقضايا التنمية التي تواجهها البلاد الإسلامية 

ويشير المؤلف إلى اهتمام المستشرقين بدراسة الفرق الدينية التي ظهرت في العالم الإسلامي قديماً وحديثاً ، ومحاولة تعظيم دورها وإحياء أنشطتها،ـ وذلك بهدف تفتيت الوحدة الدينية والفكرية للمجتمع الإسلامي وتمزيقه إلى جماعات متباينة المذاهب.

ومن ناحية أخرى عمد المستشرقون إلى اظهرا الطوائف والأقليات الدينية والعرقية في المجتمعات الإسلامية في صورة أقليات مضطهدة بغرض تشويه صورة الإسلام في الغرب، وحثت الدراسات الاستشراقية الحديثة الأقليات على التمرد وإثارة القلاقل داخل المجتمعات الإسلامية للتخلص من الاضطهاد المزعوم.

ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى توضيح دور الاستشراق في الحركات التبشيرية فيؤكد أن التنصير كان ولا يزال من أهم الأهداف الأساسية للاستشراق الذي يعد الوسيلة العلمية التي يستخدمها التنصير للتعرف على أوضاع المجتمعات الإسلامية.

وفي الفصل الثاني الذي جاء بعنوان "الآثار السياسية للاستشراق في المجتمع الإسلامي" يتناول المؤلف دور الاستشراق في التمكين للاستعمار في العالم الإسلامي، فقد ارتبط الاستشراق منذ البداية بالحركات الاستعمارية الأوروبية ، وعمل كثير من المستشرقين فكخبراء عند الحكومات الغربية في مجالات السياسية والدين والاجتماع، وشاركوا في وضع استراتيجيات بلادهم والتخطيط لساستها تجاه العالم الإسلامي وإلى ذلك قام الاستشراق بالترويج للنظريات السياسية الغربية ونشرها بين المسلمين ونقد النظم الإسلامية ووصفها بالجمود وعدم الصلاحية ما كان له أكبر الأثر في إحداث انقلاب جذري في التفكير السياسي عند المسلمين خصوصاً بعد إسقاط الخلافة العثمانية التي كانت تمثل وحدة المسلمين كافة.

ولعب الاستشراق دوراً فاعلاً في تشويه صورة الخلافة في الماضي وضربها في الحاضر باعتبارها الرمز الذي يشكل خطراً داهماً على الغرب ومن ثم استقطبت الدراسات الثمانية معظم الدراسات الاستشراقية في الغرب بهدف تحليل أوضاع الخلافة العثمانية الداخلية ومعرفة أحوالها في البلدان الأوروبية والعربية التي وقعت تحت سيادتها والبحث عن سبل تقويضها بإثارة النزعات القومية عند الشعوب الخاضعة لها.

بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى تناول الآثار الاجتماعية السلبية للفكر الاستشراقي التي كان من ثمارها تغيير المجتمعات الإسلامية وتحويلها بالتدريج إلى مجتمعات تتبنى قيم الغرب وثقافته وتأخذ بالنظم الاجتماعية الغربية ويوضح الدكتور حسن أن الفكر الاجتماعي عند المستشرقين يندرج تحت دافعين: الأول دافع سيادي مرتبط بالرغبة في نشر الثقافة الغربية ، والثاني دافع فكري مرتبط بالخلفية الثقافية للمستشرق التي تدفعه إلى رؤية المجتمعات الإسلامية من زاوية غربية خالصة وإسقاط الرؤى الاجتماعية السائدة في الغرب على دراسة المجتمع المسلم. ونتج عنه الفكر الاستشراقي في المجال الاجتماعي تأثيرات سلبية عدة ساهمت في تغريب المجتمع المسلم في العصر الحديث. ومن هذه التأثيرات إهدار قيم الأسرة المسلمة وتفكيك العلاقات داخلياً تحت دعوى إطلاق الحرية لأفرادها.

وتمكن الاستشراق كذلك من النفاذ إلى الفكر الإسلامي الحديث من خلال العديد من النظريات الغربية التي ارتبطت بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، ويوضح المؤلف أن الاستشراق نجح في تكوين قاعدة ثقافية له من أبناء المسلمين الذين يقومون بترويج آراء الغرب وأفكاره ومعظمهم من الذين تلقوا تعليمهم في جامعات ومعاهد أوروبا وانبهروا بالحضارة الغربية فعن طريق هؤلاء تسربت إلى التعليم الجامعي والحياة الفكرية والثقافية العامة معظم النظريات الغربية في التاريخ والدين والاجتماع والفلسفة والأدب والفن ، وغير ذلك من المجالات العلمية والفكرية.

ونظراً إلى تعدد مذاهب المستشرقين وأيديولوجياتهم فقد تعددت أشكال الغزو الفكري وتنوعت الاتجاهات الفكرية التي ازدحمت بها الساحة الفكرية في المجتمع الإسلامي مثل الشيوعية والاشتراكية والعلمانية والقومية والليبرالية وغيرها من المذاهب التي سيطرت على قطاعات عريضة من المفكرين والمثقفين في العالم العربي والإسلامي.

ويتناول المؤلف بعد ذلك آثار الفكر الاستشراقي في مجال العلوم الإسلامي والتي تمثلت في التشكيك بمصادر العلوم الإسلامية وأصالة الفكر الإسلامي مشيراً إلى بعض الدراسات الاستشراقية التي أثارت الشبهات حول مصدر القرآن الكريم وردت كثيراً من مادته ومواضيعه إلى مصادر يهودية ونصرانية مستخدمة في ذلك مناهج النقد التاريخي والأدبي التي طبقها علماء الغرب من قبل فينقد التوراة والإنجيل.

ويرد المؤلف على هذه المزاعم بالقول أنه إذا كانت هذه الدراسات نقدية أثبتت أن التوراة والإنجيل أعمال أدبية كتبت بأيدي البشر على امتداد مئات السنين فإن الوضع يختلف بالنسبة للقرآن الذي جاء بمسائل عقلية وموضوعية، ولم يتغير نصه منذ أن نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الآن. وهو الكتاب الوحيد الذي تحققت له هذه الصفة وما يثبت أنه وحي سماوي وليس إنساني المصدر كما ادعى بعض المستشرقين.

وفعلت الدراسات الاستشراقية الشيء نفسه مع الأحاديث النبوية من جهة التشكيك في مصدرها وصحة نسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، متجاهلة الجهود الكبيرة التي قام بها المسلمون في سبيل تنقية هذه الأحاديث، في أكبر عملية نقدية في تاريخ الفكر الإنساني تم على أثرها إخضاع الحديث لمراحل من النقد العلمي للتأكد من صحته، ولم ينتظر المسلمون حتى تظهر لهم مدرسة غربية تنقد لهم الحديث.

وامتداداً لمواقف الاستشراق المتميزة والمتجنية على الإسلام، قام المستشرقون بالتشكيك في أصالة الحضارة الإسلامية، فلم يتركوا علماً من العلوم الإسلامية إلاّ وردوه إلى مصادر أجنبية متهمين الحضارة الإسلامية بأنها حضارة ناقلة عن الحضارات السابقة عليها، وذلك في محاولة منهم لإنكار فضلها على حضارة الغرب. لكن المؤلف يعود في النهاية فيوضح بعض الجوانب الإيجابية في الاستشراق، ويتمثل ذلك في الاهتمام بالتراث الإسلامي، تحقيقاً ونشراً وفهرسة. كما أن هناك عدداً من المستشرقين اتسمت نظرتهم إلى الإسلام بموضوعية وساهموا بكتاباتهم في تصحيح صورته في الغرب وتفنيد شبهات ومزاعم زملائهم، بل إن بعضهم اعتنق الإسلام فعلاً مثل ليوبولد فايس ( محمد أسد) اتيان دينييه، ووليام فيكتور وفانسان مونتان وولتر كنج وروجيه غارودي وموريس بوكاي وغيرهم من المستشرقين المنصفين.

ويختتم المؤلف بالتشديد الإسلامي من الاستشراق يجب أن يتحدد في ضوء سلبيات الاستشراق وإيجابياته، بمعنى أن المواجهة الفكرية للاستشراق يجب أن تركز على السلبيات وتستفيد من الإيجابيات، لهذا نضمن للمواجهة موضوعيتها وبعدها عن التعامل العاطفي والعشوائي مع الظاهرة الاستشراقية.

*: الحياة ، عدد ( 12643) في 10جمادى الآخرة 1418هـ( 11تشرين الأول (أكتوبر( 1997م

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية