الشرق
الأوسط العدد ٥٣٩٥٤ السبت ١٩٩٣/٩/٥
يقول
جوان ميرينو البالغ من العمر 33 سنة والذي يعمل مع هيئة الصليب الأحمر الدولية: ((كنت
لأول مرة اقود في شهر مايو من العام الماضي آخر ناقلة تحمل ادوية لمستشفى كوسيفو بعاصمة
البوسنة سراييفو وفوجئت والقافلة بانفجار شديد نتيجة احدى القذائف تنفجر الى جواري،
وأوقفنا السيارات ونزلنا لنكتشف سر هذه القذيفة فاذا بقذيفة ثانية تقع مباشرة بالقرب
من الناقلات، واحتمينا بجدار وتوالى سقوط القذائف وكنا نحصي العدد الذي وصل الى 30
قذيفة دمرت بالكامل السيارات وكل الشحنات والادوية قبل ان نتخطى حدود مدينة سراييفو)).
وبعد هذه الحادثة المفزعة عاد ميرينو الى البوسنة مرتين في مهمات انسانية يقوم بها الصليب الاحمر الدولي ويقول: ((لم اعد اخاف أذ كان الغضب الشديد على ما يتعرض له الناس لا يترك عندي مجالا للخوف. ان الاعتداءات على الابرياء والاستهانة بحقوق الانسان كانت تتير ثائرتي. وقد اضطرت أدارة الصليب الاحمر ان تؤمن على حياتنا والا ترسلنا في مهمات انتحارية ... إن ما نقوم به هو عمل محفوف بالمخاطر وليس فيلما سينمائياً، بل تجارب شديدة الخطورة.
وتدل
الاحصائيات ان عدد القتلى خلال السنة الماضية من العاملين في الصليب الاحمر قد بلغ
15 قتيلا وتم قتلهم اثناء قيامهم بمهمات انسانية اثناء نقلهم مؤناً وأدوية لمناطق تدور
على ارضها الحرب كما فقد الصليب الاحمر لنفس الاسباب تسعة من موظفيه هذا العام ..
ولكن
هيئة الصليب الاحمر عليها واجبات أخرى قررها ميثاق جنيف الدولي الذي تم اعلانه سنة
1949 والمكمل بالبروتوكولات التي صدرت سنة 1977 وهذه الواجبات هي علاج المصابين من
القوات المحاربة بالإضافة الى حماية المدنيين من اهوال الحرب.
ما
حدث في البوسنة والهرسك قد أرق ضمير المسؤولين في هيئة الصليب الاحمر الدولية ودفع
الهيئة الى الدعوة لعقد اجتماع في جنيف بغرض شحن المسؤولين في دول العالم بالمسؤوليات
التي يجب ان يتحملوها بالنسبة لضحايا الحرب.
وانعقد
الاجتماع صباح الاثنين الماضي وحضره ممثلو 140 دولة بالإضافة الى السكرتير العام لهيئة
الامم ومعاونيه ولم يتغيب عن الحضور الا ممثلو الصرب والجبل الاسود لأن الدعوة التي
وجهت لهم ليست للمشاركة، ولكن للمراقبة لما يدور في المؤتمر.
وقال
ايف ساندوز المدير القانوني لهيئة الصليب الاحمر الدولي (ان القوانين موجودة، ولكن
تطبيقها اصبح عسيرا فالمواثيق الدولية تلقي الضوء على حقوق الانسان، ولكن ما يحدث في
الحروب وما يقع الآن في البوسنة والهرسك يطفئ الضوء أذ يخالف كل المواثيق الدولية والوضع
اصبح بالغ التعقيد
وتوالت
الاعتداءات ليس فقط على المدنيين، بل على المعونات التي يحاول الصليب الاحمر توصيلها
الى من هم في اشد الحاجة اليها) ويقول عن الغرض من عقد المؤتمر: (نظرا للتدهور الخطير
لحقوق الانسان والاعتداءات على قوافل الاغاثة رأينا عقد المؤتمر كي تدرك الدول مسؤوليتها
وتسعى الى وضع حد للانتهاكات الخطيرة))، ويقول المدير القانوني: ((ان البعض يعتقد ان
الدعوة لعقد المؤتمر هو عمل ساذج، ولكن الذين يتجاهلون وجود الحرب وانتهاك حقوق الانسان
اصحاب فكر ساذج، اننا لا يمكن ان نقبل الاغتصاب الجماعي للسيدات والفتيات او تعذيب
الاسرى او اجاعة الناس وحرمانهم من الدواء لهذا يجب ان ينعقد المؤتمر وأن تتحمل الدول
مسؤولياتها). كل هذا كلام جميل، ولكن هل سيحمي المؤتمر المسلمين من الجرائم والابادة؟!
العداء
للإسلام قديم.
نجلى العداء في القرن التاسع عشر حيـن اقتسمت الامبراطورية البريطانية والامبراطوريـة الفرنسية الارض العربية التي كانت تكون الجانب المهم من الامبراطورية العثمانية. ورغم الجهود التي بذلت في نهاية القرن التاسـع عشر لمنع الحروب كحل لتسوية الخلافات فان هذه الجهود قد نبذتها الدول التي سعت الى وضع ميثاق لمنع قيام الحروب، اذ قامت الدولة الكبرى التي دعت لعقد الانفاق الدولي الى حشد الجهود لشن حرب هدفها تصفية الإمبراطورية العثمانية التي كانت تمتد الى دول البلقان والجهود لوضع ميثاق يحرم الحروب دعا اليهـا نقولا الثاني قيصر روسيا سنة 1899 واستجابت 26 دولة للدعوة وتم عقد الاجتماع في مدينة لاهاي الهولندية وانتهى الاجتماع الى اعلان مشترك يقـر فض الخلافات بالوساطة. وقبل مرور 12 سنة من اعلان ذلك الميثاق قام الجيش الايطالي سنة 1911 بالزحف على ليبيا لينهي كل وجود للإمبراطورية العثمانية في افريقيا. وهذه الحرب الاستعمارية قامت رغم الميثاق الثاني الذي صدر في مدينة لاهاي سنة 1907 بناء على دعوة وجهتها في هذه المرة الولايات المتحدة الامريكية. وقد نص الميثاق صراحة على ان الخلافات تتم تسويتها بالمفاوضات والتحكيم.
ولم تكتف الدول الاوروبية بالعدوان الإيطالي على ليبيا، بل كان الحقد يملأ القلوب ضد الامبراطورية العثمانية التي استطاعت في وقت من الاوقات ان تستولي على جانب كبير من أوروبا وبنشر الاسلام فيه. في سنة 1912 حشد قيصر روسيا الجيوش وشن حربا انضم اليه فيها متطوعون من الصرب والبلغار واليونان والجبل الاسود بغية القضاء على الامبراطورية العثمانية. واستطاعت جيوش قيصر روسيا والمتطوعون حلفاؤه انهاء وجود الامبراطورية الاسلامية في البلقان، ولكنها لم تستطع القضاء على وجودها الّا أنها استطاعت الحفاظ على اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية.
وفي سنة 1913 اي قبل انتهاء الحرب طلبت مؤسسة امريكية، هي مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، من البارون دي استورنل عضو مجلس الشيوخ الفرنسي والذي حاز سنة 1909 جائزة نوبل للسلام أن يرأس هيئة دولية لجمع كل الحقائق عن تلك الحرب. ضمت اللجنة الدولية شخصيات لها احترامها في المجال الدولي، كان من بينها مدير تحرير مجلة اكنومست البريطانية وسارعت اللجنة الى مباشرة مهمتها ولم تنتظر حتى تنتهي الحرب.
وقامت
اللجنة خلال شهرين بالتجوال في بلغاريا والصرب ومقدونيا واليونان والبانيا حيث اكتشفت
اهوالا تفزع القلب. فقد صدمت اعضاءها اهوال الحرب، فهي لم تكن مجرد حرب بين جيوش، ولكن
كان الهدف للحرب هو الدمار الكامل وحرق المدن. وكانت اعمال الابادة تتم دون اي تحرش
وصاحبتها عمليات نهب على نطاق واسع، كما تعرضت اعداد ضخمة من النساء والاطفال للاغتصاب
الوحشي.
وسجل
اعضاء اللجنة، وكلهم من المعروفين بالبحث عن الحقائق والتزام الشرف في تسجيلها، ان
الاتراك ليسوا هم وحدهم الذين ارتكبوا اعمالا منافية لقواعد الحرب، بل ان ما ارتكبه
الاتراك هو اقل ببون شاسع مما اقترفته جيوش روسبا والصرب والبلغار واليونانيين، فالإبادة
والنهب والدمار والاغتصاب الذي مارسته هذه القوات كان اسلوبها في تلك الحرب. وقامت
مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي بإعادة نشر التقرير الذي وضعته اللجنة منذ 80 سنة تحت
عنوان (تقرير لجنة التحقيق الدولية عن أسباب حرب البلقان والاساليب التي تم اتباعها
في تلك الحرب» ويقع التقرير في 400 صفحة وهو حافل بالجرائم التي كان المسلمون في البلقان
ضحيتها.
وقد يتصور بعض قادة الدول الإسلامية ان المفاوضات التي تتم في جنيف ستنتهي الى تسوية شاملة وتنتهي بذلك الجرائم التي طال عذاب المسلمين من جرائها، ولكن الواقع يقول عكس ذلك. ففي تقرير نشرته جريدة واشنطن بوست يوم الاربعاء الماضي انباء مستقاة من قوات هيئة الأمم الموجودة في البوسنة والهرسك تؤكد انه مهما كانت الاتفاقات التي سيتم التوقيع عليها فان المسلمين سيتعرضون للمزيد من الهجمات والاعتداءات الوحشية. ويقول ضابط بريطاني من قواد قوات هيئة الامم: "ان مثل ذلك الاتفاق لن يحول دون تجدد القتال وفي الوقت الذي تدور فيه مفاوضات جنيف تتحرك قوات الصرب والكروات لتحتل مراكز تمكنها من تحقيق اغراضها)). ومعروف ان الخريطة المقترحة لتقسيم البوسنة والهرسك تقطع اوصال ما تعطيه للمسلمين بحيث تحول المناطق التي ستكون للصرب والكروات من اتصال أجزاء البوسنة الاسلامية.
ويقول تقرير الجريدة الامريكية ان اهم ما يشغل بال قوات هيئة الامم منطقة البوسنة الوسطى خصوصا مدينة جورني فاكوف وكوبري ماكليين الذي تحتشد على جانبيه قوات الكروات من ناحية وقوات المسلمين من ناحية اخرى ذلك ان استيلاء الكروات على هذا الكوبري يقطع السبيل على قوات المسلمين فلا تستطيع آن تصل الى حدود مدينة موستار التي يحاصرها الكروات وفيها 55 الفا من المسلمين. والحقيقة ان الخريطة المقترحة للتقسيم تنزل ظلما فاحشا بالمسلمين. مع ذلك من المتوقع، حتى لو قبله الرئيس علي عزت بيجوفيتش فان هذا لن يحول دون رغبة الصرب في انهاء الوجود الإسلامي في البوسنة والهرسك.
الغل والحقد قديمان ولم يؤثر فيهما مرور عشرات السنين وللأسف تقف بعض الدول الإسلامية موقفا سلبيا رغم انها لو أبدت اهتماما جادا وصريحا لاستطاعت ان تضع حدا للجرائم الرهيبة التي يتعرض لها حتى يومنا هذا المسلمون. سلبية محزنة ونتائجها فظيعة ... والعوض على الله فمؤتمر جنيف ومفاوضات جنيف لن تحمي المسلمين.
تعليقات
إرسال تعليق