بين يدي الآن بحث عن (ابن باديس)، عن معالي الأستاذ
الدكتور/ مازن المطبقاني ، ونظرًا لما فيه من جوانب علمية غزيرة، فقد آثرت أن أتكلم
عن أحد هذه الجوانب التي تطرق لها البحث في حياة (ابن باديس)، وأقسم الفائدة منه على
عدة مقالات، يبدأ البحث بالحديث عن مصطلح النخبة.
فمن
هؤلاء النخبة ؟! يثبت لديه المصطلح، من خلال بحث قدمه مستشرق هولندي اسمه (يون يانسن)
في المؤتمر العالمي الأول للإسلام والقرن الواحد والعشرين، وكان بعنوان "فشل البديل
الليبرالي"، وتعجب أستاذنا الدكتور مازن من إطلاق مثل هذه التسمية" النخبة"
على بعض الليبراليين، الذين لا يمثلون النخبة الحقيقية في بلادنا، ولكنه فطن أنهم صناعة
الاستدمار، وهم الذين رباهم وتعهدهم في مدارسه، حتى فقدوا هويتهم، ولغتهم وربما دينهم؛
ولذا كانت البداية قوية استطاع أن يدرك فيها المخطط الاستدماري الاستشراقي الذي يعد
رجاله ويدعمهم؛ لتصدر المشاهد الثقافية، والفكرية، والتعليمية، ويمنحهم كل الدعم -
رغم أنهم ليسوا النخبة الحقيقية في بلادنا - وهنا يبدأ الفساد والإقصاء، ويتصدر المشهد
رجال هم صناعة غربية، ويقصى عنه كل باحث جاد يخدم الوطن بإخلاص وصدق، الأسبوع الماضي
قرأت على صفحة معالي الأستاذ الدكتور (منذر عياشي) كلمات عن (طه حسين )، وكيف صار عميدًا
للأدب؟! وارتفع نجمه - رغم تفوق العقاد عنه - بعمقه وفكره، ولماذا ظل له هذا الامتداد؟!
رغم الكثير من الجمل والألفاظ التي كانت كفيلة؛ لهدم كيانه العلمي، ذكر دكتورنا بعضا
منها على صفحته، والأمر يتعلق بامتداد ثقافي للاستدمار، والاستشراق الغربي، وخدمة المصالح
التي دربوا على تنفيذها، وبقيت كلماته؛ لأنها تخدم مصالحه، وكما ذكرت في مقال سابق
نحن لا نحارب كل المستشرقين، ولا كل الفكر الحديث، لكن من حقنا أن نكشف العسل المسموم،
ونستبعده من طعامنا، ونقرب العسل النقي؛ لأولادنا، وللأجيال القادمة، وهذه أمانة الكلمة
التي سنحاسب عليها، وأعود لبحث أستاذنا عن (ابن باديس)، حيث يذكر لنا موقفه الذكي في
التعامل مع هذه النخبة، فلم يناصبهم العداء بل عدهم إخوانه، وأبناءه ، وحرص على الاتصال
بهم، وحضور بعض مناسباتهم، ويجمع كل أطياف المجتمع في المؤتمرات، ويكتب في صحفهم بأسماء
مستعارة، وكما ذكرت في مقال سابق هذا ما يجب أن يكون في التعامل؛ لأن أكثر هؤلاء علماء
مغربون عن فكرنا، لا يستحقون منا العداء بل الشفقة واللين.
واسمحوا لي أن أربط بين الحديث السابق، وما نحن
بصدده... بعدة تساؤلات، مخاطبًا بها (أهل الفكر والثقافة والتعليم) في وطننا العربي......
-
لماذا تتجمع الثروة في أيدي "النخبة"، ويعيش صفوة الفكر في ضنك العيش؟!
- هل يفر المال من العلم والعلماء ؟!
- هل العلماء (أغبياء)؛ ففطنوا لكل شيء إلا قيمة المال
وقوته؟!
-
هل كلما ازددنا علما ازددنا فقرًا ؟!
-
هل نحن - المثقفين والعلماء - زاهدون بحق في المال والثروة ؟!
إن أغلبنا يعاني، ويعاني؛ لكسب قوت يومه، ويعاني؛
ليكفي نفقات بيته، وأولاده، ويعاني؛ ليجد الوقت حتى يتفرغ؛ ليكتب كتابًا أو ينشره،
وأقسم بالله أنني أعرف من باع حلي زوجه؛ لينشر كتابًا، ومكث سنوات ما استطاع أن يجمع
ربع ما أنفقه، فهل سألتم أنفسكم عن السبب الرئيس خلف كل ذلك؟!
إنه الاستدمار الثقافي والتعليمي لبلادنا، الذي
لم يزل قابعًا يدير دفة أمورنا، هل ظننتم حقًا- أن الاستدمار تخلى لنا عما احتله من
أراضينا ورحل عنها؟! لقد ترك فينا، ومن بيننا أذنابه تدير دفة الأمور، فما كان يضحي
لأجله بالمال، والجهد والأرواح، بات يأخذه دون عناء، يحضره له أتباع مخلصون، ويقدمونه
له شهيًا في آنية متنوعة الأشكال.
ألستم معي أن العلماء والمثقفين هم صفوة المجتمع
العقلي والفكري ؟! أليسوا هم الثروة التي يجب على المجتمع أن يحرص عليها، ويقدم لها
كل الدعم؛ لتتفرغ للبحث والعلم؟! أليس كذلك؟! ولكن الاستعمار دربنا على غير ذلك، فعاش
هؤلاء أشد الناس حرمانًا ومعاناة.
جلس معي
ذات يوم أحد الأقارب، ممن يجيدون جمع المال، مفتخرًا، ومتباهيًا بماله، وقال: إنني
أستطيع أن أصنع بمالي ما لم يستطع أن يحققه لك علمك الذي عشت تحصله، وما فائدة علمك
إذا كنت تحيا هذه الحياة الزهيدة ؟! ما فائدة علمك إذا لم يترجم إلى مال يحقق لك الراحة
والرفاهية ؟! وانصرف عني، وقد جعلني أظن للحظات أنني غبي، وأن حياتي ضاعت هباءً، في
طلب العلم، وأنني أصدر علمي لمن لا يستحقون، فهل (كل عالم أو مثقف أو مفكر)، كان حقًا
غبيًا أن أنفق عمره طلبًا للعلم ؟! أم كانوا عاجزين ؟! أو ربما كانوا زاهدين في الحياة ؟!
ومن منا لا يطلب؛ لنفسه حياة كريمة، كان يجب
على العلم أن يمنحنا إياها، إن كان الأمر طبيعيًا في بلادنا، فالطبيعي أن يصل العالم
الصادق لأعلى المناصب، وينير الطريق للناس، ولكن في بلادنا قد يصل المنافق، والفهلوي،
وفارغ العقل، وربما السارق، وحتمًا المغني والراقصة والممثل واللاعب وغيرهم، الكثير
من غير أهل العلم، وأنا لا أعيب أحدًا، أو أتهم المجتمع، بل أصف واقعًا مريرًا، وبالطبع
بينهم من أجبر على التشكل في إطار الحياة التي فرضت عليه، ولكن السؤال، من الذي فرض
علينا هذا ؟! هل هذا تدرج طبيعي، وترتيب منطقي للأمور؟! أم أنه تخطيط استدماري، أفسد
التعليم في بلادنا؟! حتى صار استثمارًا ممنهجًا، إن من يحاول أن يصرف أذهاننا عن المؤامرات
التي تُحاك لنا لهو العدو الحقيقي، وقد يقول قائل: ما فائدة مثل هذه المقالات؟! فإنها
لن تغير واقع التعليم والعلم في بلادنا، ولن تعطي العلماء حقهم، وتعيد لهم كرامتهم،
ولن تردع الرأسمالية المسيطرة على مقاليد الأمور، ولن تثني الاستدمار عن مخططاته...
لكني أجيبه أن التحرر الثقافي، والفكري هو أول خطوات الوعي والإصلاح، وإن العلماء ورجال
التعليم جانبهم الصواب يوم أن استمعوا لهذه الصيحات المحبطة، وتخلوا عن دورهم، وكان
يجب عليهم أن يتوقفوا، ويعودوا لإخوانهم في الوطن؛ ليعلموهم، ويعرفوهم قيمة العلم والعلماء،
لكنهم تركوهم ورحلوا منعزلين بعلمهم، قابعين بين كتبهم، وكان على أبناء التعليم أن
يفطنوا لقوة وقيمة دورهم، فانشغلوا بمناهج حددها لهم الرأسماليون، والانتفاعيون، عن
مناهج استوجبتها الأوطان، ولم يشغلهم القيام بواجبهم الحق والصادق في تخريج الأجيال
الواعية، كان على من يكتبون في الصحف من المثقفين أن يدركوا دورهم في نشر الوعى وخدمة
الأجيال، وإن كل من أحبط، وتخلى عن دوره ترك هذا الموقع ليد التغريب تديره، وتخلى عن
الأجيال القادمة، تركهم للغرب يتحكم في مصائرهم ، أ رأيت إن تخليت عن الحياة فهل تقف
عجلتها؟! أم أنك تتخلى عن دورك لغيرك يقوم به، هذا ما حدث، وإن من مخططات الاستشراق
أن تزرع فينا من يثبطنا، ويوهمنا بمحبتهم إيانا، وبأن الغرب يحبون الشرق، ويرغبون في
مساعدته، ويريدون لنا السلام والتعايش السلمي، يرسلون الخبراء، ويخصصون النفقات، ويعقدون
الاتفاقات التعليمية، لقد وقعت أغلب الدول العربية على اتفاقات غربية ممنهجة للتعليم
في بلادنا، فهل توقفنا لنسأل أنفسنا ولو للحظة واحدة، أليس التعليم أمرا داخليا ؟!
أليس التعليم شأنا يخصنا؟! لم يخططوا له نيابة عنا، وينفقون عليه كل هذه النفقات؟!
لا أظن أنه حب فينا، ثم يأتيك من يخبرك أنك تتهم الغرب بالمؤامرة، ويخبرك أنك لست في
حساباتهم، وأنك لا تشغلهم، حتى تأمنهم، وتلقي لهم بزمام أمرك، لا لا لا يا عزيزي سأظل
مستيقظًا، وسأظل أصرخ في أبناء الوطن، أن يستيقظوا من غفلتهم، وحتى وإن لم يشكل صوتي
قيمة، فلن أتخلى عن دوري، فالله سيكتب لي أجري.
إن الاستثمار الغربي في التعليم داخل البلاد
العربية يفوق كل التوقعات، وانتشار المدارس الأجنبية له أهداف تترجم لحجم المؤامرات،
ومهما طغي طوفان الفساد فلن يدفعنا هذا للتخلي عن دورنا في حربه.
إن
هؤلاء الذين ينتقدون وعينا؛ رغبة في إعادة تشكيله، وتوجيهه وجهة خاصة لهم _ لاشك_ وجهة
خاصة، هي في الأصل وجهة رأسمالية، تتعلق بالقوى الرأسمالية التي نشرت الفساد في بلادنا
في كل جوانبه عوضًا عن الاستدمار، وبديلا عن الاحتلال للأراضي، حتى صار أمرنا بأيديهم،
بعد أن كبلونا بالديون، والاتفاقيات، وبعد أن ملكوا أمرنا وقرارنا، هذا أمر حقيقي،
وفساد ظاهر بين بيانا واضحًا، ولكنه لا يعني بحال من الأحوال أن الاستدمار، والاستشراق
قد تخلى عن دوره الأول في حروبه الفكرية والثقافية بل أثبت لكم حجم ما ينفق على التعليم،
ويوجه لصالح دول العالم الشرقي، إن الفساد كله جملة واحدة ، لا تنفك عراها، وتتعدد
أذرعه كالأخطبوط، وتمتد خيوطه العنكبوتية؛ لتصنع شرانق حريرية الملمس ناعمة الجدران؛
لتحيط بنا، فتشل الحركة، وتكتم الأنفاس؛ وتخنق الحياة، وهؤلاء دربوا على توريط الدول،
راجع ذلك في كتاب الاغتيال الاقتصادي للأمم – ترجمة مصطفى الطناني ود. عاطف
معتمد/ صادر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب)، وهو يمثل اعترافات (جون بيركنز) خبير
اقتصادي دولي، حيث يشرح بالتفصيل طريقة تدريبه، واختياره، ودوره الذي قام به طيلة حياته
في توريط الدول، واستغلال الشعوب، وفق مخطط أمريكي مدروس، إنهم يمتلكون فكرًا، وثقافة،
وعقلًا، وحيلًا يسقطون بها الدول، وليس الأفراد.
وأخيرًا
...كل الدعوات للمتغربين من علمائنا العرب، بالهداية للطريق الصحيح، والتفكير بإخلاص،
فيما هو أنفع للناس، وللأوطان، وللأديان، وقبل كل ذلك أحب، وأقرب عند الله، نبتغي به
الوسيلة إلى الله، ونرجو رضاه، ونفوز بمغفرته، وجنته (إن شاء الله).
ويبقى
الحديث عن (ابن باديس)، مستمرًا ( إن شاء الله ).
تعليقات
إرسال تعليق