التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"حوار" مأساة مجلة ثقافية


"حوار" مأساة مجلة ثقافية

بقلم جهاد فاضل صحيفة الرياض 22 أغسطس 1996م الموافق 8ربيع الآخر 1417م

    مرت ٣٣ سنة على صدور مجلة "حوار" الثقافية اللبنانية التي انتهت نهاية مأساوية. فقد صدر عددها الأول في بيروت عام ١٩٦٢، وتوقفت عن الصدور في ٢١ يونيو ١٩٦٧. نشرت صحيفة "النيويورك تايمز" الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ ٢٧ أبريل ١٩٦٦ خبراً أشارت فيه إلى أن "المنظمة الدولية لحرية الثقافة" تتلقى دعماً من وكالة المخابرات المركزية (CIA)، وأن هذه المنظمة تعمل في مجالات الكاريبي، الإنجليزية، والفرنسية، والعربية. وبعد ضجة واسعة رافقت نشر الخبر، أصدر رئيس تحرير "حوار" الشاعر توفيق صايغ بياناً أعلن فيه توقف المجلة نهائياً عن الصدور.

    كان طموح حوار كبيراً، ولكن التحديات التي واجهتها من النقد العربي كانت كبيرة بدورها. فقد همَّت المجلة باستقطاب نخبة من الكتاب والمفكرين والنقاد العرب، ولكن الشبهات حامت حولها من البداية بأنها مُموَّلة من جهات أجنبية.

    آخر مرة أثيرت فيها قضية حوار كانت في المؤتمر الذي دعا إليه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت عام ١٩٧٢. دار الحديث في إحدى جلسات المؤتمر حول أهمية المجلات الثقافية، وكون اليهود والإنجليز قد تنبهوا مبكراً إلى إنشاء مجلات ثقافية باللغة العربية لأغراض استخباراتية. فقد أصدرت شركة يهودية مصرية في الأربعينيات مجلة ثقافية أطلقت عليها اسم "الكتاب الجديد"، وعهدت برئاسة تحريرها إلى أكبر أديب عربي يومئذٍ وهو طه حسين. كما أصدر الأمريكيون في الخمسينيات والستينيات عدة مجلات ثقافية في لبنان، كان منها مجلة "شعر" ومجلة "حوار"، اللتان عملتا على نشر الأدب الأمريكي وترويج الثقافة الأمريكية، في وقت كانت الأنظمة العربية تغلي بالأفكار القومية والتحرر من الاستعمار.

وقال الأديب المصري الكبير رجاء النقاش في مداخلته بالمؤتمر حول "حوار":

"في أوائل الستينيات كانت تصدر في بيروت مجلة ثقافية معروفة هي مجلة حوار، وكان يرأس تحريرها الأديب الفلسطيني توفيق صايغ. وكان الشك يُحيط بتمويل هذه المجلة، لكن لم يكن هناك دليل قاطع حتى كشفت صحيفة أمريكية جانباً من نشاط المخابرات المركزية الأمريكية، وكان من بين هذا النشاط تمويل عدد من المجلات الثقافية في العالم، ومنها حوار العربية".

      ولعل الوفاء لرئيس تحريرها توفيق صايغ يقتضي أن نقول إنه ربما كان جاهلاً بتورط المنظمة الممولة. فقد ذكر صايغ أنه كان يظن أن العمل مع "المنظمة الدولية لحرية الثقافة" عمل بريء، ولم يكشف أنها ذراع لـ CIA. وعندما تأكد من صحة التهمة، أصدر بياناً في ٢٠ يونيو ١٩٦٦ قال فيه:

"إن هذه التبعية لوكالة المخابرات الأمريكية تدفعني إلى الامتناع عن الكتابة في حوار. باسم علاقتنا الشخصية، أطلب منكم إعادة النظر في موقفكم... فلست أشك لحظة في أنكم ترفضون التعامل مع جهة أجنبية مسيئة".

وأضاف في بيانه:

"هذه التهمة أصابت حوار بمقتل. طيلة السنوات التي تلقت فيها الدعم من المنظمة، لم يخطر ببالي أن أي درهم يأتي من مصدر رسمي أو سري تابع لأي حكومة. وعندما كانت تنتشر شائعات عكس ذلك، كانت المجلة تنفيها نفيًا قاطعًا".

في ٩ يونيو ١٩٦٦، أصدر وزير الإرشاد القومي المصري عبد القادر حاتم قراراً بمنع دخول حوار إلى مصر بعد "تأكد السلطات المصرية من تمويل CIA لهاجريدة الأهرام. وفي ٢٣ يونيو ١٩٦٦، دافع صايغ عن المجلة في العدد ٢٢ من حوار، قائلاً:

"منذ عددها الأول، كانت 'حوار' مجلة للجمهورية العربية المتحدة، مؤمنة بدورها القيادي في الوطن العربي".

وبعد أن نشرت "النيويورك تايمز" تفاصيل التمويل في ٢٤ يوليو ١٩٦٦، هاجمت صحف عربية المجلة في بيروت ودمشق وبغداد والكويت، ومنها مجلتي "الآداب" و"الحوادث". وفي ٢٢ أكتوبر ١٩٦٦، اجتمع صايغ في باريس مع مسؤولي المنظمة الممولة، وأقرّ بصحة التهمة بعد تأكيدها. وأصدر بياناً جاء فيه:

"تأسف الجمعية العمومية للمنظمة لقبول مديرها العام المساعدة المالية من CIA وإخفاء الحقيقة. نستنكر الطريقة التي خدعت بها الوكالة المثقفين العرب، وندرك أن نتيجة هذا العمل تشوه تاريخ النقاش الفكري".

     بعد هذه الأحداث، غادر توفيق صايغ إلى الولايات المتحدة ليدرس في جامعة كاليفورنيا (بيركلي)، وتوفي بعد سنوات قليلة. وكما قال الناقد محمود شريح، فإن الأسئلة حول دوافع تعاون صايغ مع المنظمة المشبوهة تبقى بحاجة إلى إجابات قاطعة: "لماذا يتعاون هذا الأديب الفلسطيني الذي شردته الصهيونية مع جهة تستهدف الثقافة العربية؟ ومن أوصل له هذا التمويل؟ ولماذا قبله بينما رفضه غيره؟".

نائب رئيس الوزراء للإرشاد القومي والسياحة في مصر عبدالقادر حاتم قرارًا يمنع «حوار» من دخول مصر بعد أن تأكدت السلطات المصرية أن المخابرات المركزية الأمريكية تموّل «حوار». (جريدة الأهرام ٩ يونيو ١٩٦٦).

في العدد ٢٢ من «حوار» الذي صدر في ٢٣ يونيو ١٩٦٦، دافع صايغ عن التهمة التي تقول إن مجلّته تُموَّل من الاستخبارات الأمريكية، وأسف لأن «حوار» كانت منذ عددها الأول إلى عددها الحالي مجلة غالية على الجمهورية العربية المتحدة، وأنه يخدمها بكل إخلاص وإيمان، مؤمنة بدورها القيادي في وطننا العربي، وإنها ما زالت تُكرم أبناءها ومفكريها أكثر من سواهم.

وأوضح صايغ تصرّفه تجاه التهمة فقال إنه تلقى من باريس من السكرتير العام للمنظمة تأكيدًا قاطعًا بأن «زعم الصحيفة لا يستند إلى أي أساس من الصحة»، وأن المنظمة لم تتلقَ أي مساعدة مباشرة أو غير مباشرة من أي مصدر سري أمريكي كان أو غير أمريكي.

وعلى ورق كرتون صغير كتب صايغ: «بيسألوني عن كلمتي الأخيرة، والحبل مُعلّق أمام عيني، هل ستكون مثلهم جميعًا، أن تصدقوني، أن ترضوا بمنطقي، ستكون مشكلة. في جنازتي الأخرى، مازحون ومختلفون، لا أستطيع إقناعكم أو أعرف ما التهمة. مش عارف أحارب ولا أحارب، هذا الشيء الذي يبقى يشدني رغم كل شيء إلى الحياة يريدون سحبه من تحت رجلي».

بعد ذلك، نشرت «نيويورك تايمز» في ٢٤ يوليو ١٩٦٦ ثلاث مقالات تتصل بقضية «حوار»: منع «حوار» من دخول مصر، ونفي المنظمة العالمية لتمويل «حوار» من وكالة المخابرات المركزية، ورد توفيق صايغ على قرار منع المجلة. ومر أسبوعان قبل أن ينشر الدكتور لويس عوض مقالة كاملة في «الأهرام» (٥ أغسطس ١٩٦٦) ردًا على مقالات «نيويورك تايمز»، وطالب توفيق صايغ أن يستقيل من رئاسة تحرير «حوار» «لأن الاستمرار فيها يمس الوطنية».

وما هي إلا أسابيع قليلة حتى شاركت صحف ومجلات عديدة في القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وعمان والكويت في الهجوم على «حوار». وكان من أشد المهاجمين عليها مجلّتا «الآداب» و«الحوادث»، فتمكنا من توجيه ضربات موجعة. واتجه صايغ إلى باريس في ٢٢ أكتوبر ١٩٦٦ ليجتمع مع المسؤول في المنظمة وجمال أحمد ونسيمون جارجي للتداول في الموضوع. وقد استقر رأي صايغ في النهاية على إيقاف المجلة وإصدار بيان توضيحي، بعد أن تأكد أن الأنباء التي انتشرت عن مساعدة الوكالة الأمريكية مالياً للمنظمة العالمية هي أنباء صحيحة.

ومما ورد في البيان: «يوم الأربعاء ١٦ مايو ١٩٦٦ ذهبت إلى باريس لإنهاء المعاملات الإدارية المتعلقة بالترتيبات على إثر العدد الرابع عشر منها، بخصوص اجتماع غير عادي عُقد في اليوم السابق أكد فيه مدير المنظمة العالمية أن الأنباء عن مساعدة الوكالة الأمريكية مالياً لها هي أنباء صحيحة. وأعربت الجمعية العمومية في بيانها عن أسفها البالغ لقبول مديرها العام لتلك المساعدة المالية وإخفائه الحقيقة عن جميع زملائه قاطبة. فقد ذكرت الجمعية العمومية في بيانها إنها تستنكر بأقوى ما تستطيعه من تعابير الطريقة التي خدعت بها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الأشخاص المدنيين وأفسدت جهودهم، ووضعت موضع التساؤل، وأردفت أن نتيجة مثل هذا العمل هي تشويه لتاريخ النقاش الفكري».

وأضاف صايغ في بيانه: «أن هذه الخديعة من قبل الوكالة الأمريكية، وهذا التشويه لحرية النقاش الفكري اللذين تحدث عنهما البيان، وأنهما أصابا الأوساط الثقافية في أقطار ومجالات متعددة، فإنهما أصابا مجلة حوار بمقتل. فالحقيقة عندما قبلت المساعدة المالية من المنظمة العالمية لحرية الثقافة، وخلال هذه السنوات جميعها التي عاشتها، لم يدر ببالي للحظة واحدة أن أي درهم يصلها منها مصدره مصدر رسمي، علني أو سري، منبثق عن أي حكومة كانت. وعندما كانت تسري شائعات عن عكس ذلك، كانت المجلة ترد بتأكيدات جازمة قاطعة على أنه لا صحة لتلك الشائعات».

هذه هي أبرز صفحات ملف «حوار»، وبعد إغلاقها غادر رئيس تحريرها توفيق صايغ إلى الولايات المتحدة ليُدرّس في جامعة كاليفورنيا في بركلي سنوات قليلة، وليموت تلك الوفاة الحزينة التي كان سببها، كما يقول النقاد وكثيرون سواه، صدمته في قضية تمويل «حوار» تلك الصدمة التي ملأت قلبه بالحزن والأسى وقضت عليه فيما بعد.

كتاب محمود شريح لا يعرض لدوافع توفيق صايغ في التعاون مع المنظمة العالمية لحرية الثقافة، فلماذا يتعاون هذا الأديب الفلسطيني الذي شردته الصهيونية والإمبريالية الأمريكية من وطنه مع منظمة مشبوهة بأهدافها غير البريئة في الثقافة وفي السياسة؟ ومن هم الأشخاص الذين مهدوا له سبيل تلك الخديعة القاسية التي وقع فيها، ولماذا قبِل هو، في حين أن شقيقه أنيس مثلاً لو عُرضت عليه «حوار» لأفسدها؟ وما هو أثر يوسف الخال ومناخات مجلة «شعر» في هذا القبول؛ تلك أسئلة تحتاج إجابات قاطعة وموضوعية. وإلى أن يحين الجواب عنها لا بد من القبول أن توفيق صايغ راهن وهذا خسارة على وجه أمريكا الذي ظنّه حسناً مقبولاً، فإذا به يكشف أنه وجه قبيح أو مختلف، على الأقل عن الوجه الذي ظنّه. ولكن الرجل ما كان ليراهن مثل هذا الرهان – رغم أنه مجرد شاعر وليست له تجربة فكرية أو سياسية ذات شأن – لو لم تتجمع أسباب وظروف ساعدته على الدخول في هذا الرهان. وإلى أن تحين الإجابة الشافية عن كل ذلك، تبقى قضية «حوار»، ومن قبلها قضية مجلة الكاتب الجديد

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الطبعة: الرابعة. الناشر: دار المعارف بالقاهرة (تاريخ بدون). عدد صفحات الكتاب: 219 صفحة من القطع المتوسط. إعداد: مازن صلاح المطبقاني في 6 ذو القعدة 1407هـ 2 يوليه 1987م بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : يتحدث فيها المؤلف عن معنى التاريخ، وهل هو علم أم فن، ثم يوضح أهمية دراسة التاريخ وبعض صفات المؤرخ وملامح منهج البحث التاريخي. معنى التاريخ: يرى بعض الكتاب أن التاريخ يشمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون بما يحويه من أجرام وكواكب ومنها الأرض، وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ومثال على هذا ما فعله ويلز في كتابه "موجز تاريخ العالم". وهناك رأي آخر وهو أن التاريخ يقتصر على بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض.       وكلمة تاريخ أو تأريخ وتوريخ تعنى في اللغة العربية الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ودقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمن من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله الم...

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

                                      بسم الله الرحمن الرحيم                                  ما أصدق بعض الشعر الجاهلي فهذا الشاعر يصف حال بعض القبائل العربية في الغزو والكر والفر وعشقها للقتال حيث يقول البيت:   وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا. فهم سيقومون بالغزو لا محالة حتى لو كانت الغزوة ضد الأخ القريب. ومنذ أن نزل الاحتلال الأجنبي في ديار المسلمين حتى تحول البعض منّا إلى هذه الصورة البائسة. فتقسمت البلاد وتفسخت إلى أحزاب وفئات متناحرة فأصبح الأخ القريب أشد على أخيه من العدو. بل إن العدو كان يجلس أحياناً ويتفرج على القتال المستحر بين الاخوة وأبناء العمومة وهو في أمان مطمئن إلى أن الحرب التي كانت يجب أن توجه إليه أصبحت بين أبن...

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية

                             يردد الناس دائما الأثر المشهور :(من تعلّمَ لغةَ قوم أمن مكرهم أو أمن شرَّهُم) ويجعلونها مبرراً للدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية أو اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. فهل هم على حق في هذه الدعوة؟ نبدأ أولاً بالحديث عن هذا الأثر هل هو حديث صحيح أو لا أصل له؟ فإن كان لا أصل له فهل يعني هذا أن الإسلام لا يشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟ وإن كان صحيحاً فهل الإسلام يحث ويشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟         لنعرف موقف الإسلام من اللغات الأخرى لا بد أن ندرك أن الإسلام دين عالمي جاء لهداية البشرية جمعاء وهذا ما نصت عليه الآيات الكريمة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سبأ آية 28) وقوله تعالى { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } (الأنبياء آية 107) وجاء في الحديث الشريف (أوتيت خمساً لم يؤتهن نبي من قبلي، وذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). فهل على العالم كـله أن يعرف اللغة العربية؟ وهل يمكن أن نطالب كلَّ...