المدينة المنورة العدد
11406، الخميس 14 محرم 1415هـ(23يونيو 1994م)
*
وجّه إليّ أخي العزيز الدكتور محمّد يعقوب تركستاني سؤالا حول عزوف الشّباب عن الاهتمام
بكتب التّراث. وحين فكّرت في الإجابة تذكرت قصاصة تحمل إجابة لكاتب حداثي؛ هو (كمال
أبو ديب) الّذي يعمل أستاذا للأدب العربي بجامعة لندن حول هذا السؤال. وكان هذا في
فقرة ثقافة وفنّ بهذّه الصّحيفة العدد ١١٣٢٤ الصادر في ٢١ شوال ١٤١٤هـ حيث قال فيه:
" أعتقد أنّ التّراث قائم في حياتنا في وضع متّزن، أُمّا حين يتجاوزِ الأمر ذُلك
ليصبح همّا شاغلا- فإنّ ذلك يمثّل حالة مرضيّة تماما، والخطورة في مثل هدُه الحالة
أنّ التّراث يصبح ألعوبة؛ بمعنى أنّ كلّ ذي مرض يريد أن يبحث له عن شفاء له فيما يسميه
التَّراث، والمشكلة الأساسيّة هي أنّ التّراث ليس متجانسا نحن لا نملك تراثا كاملا
لأنه مليء بالإشكاليّات والمشكلات والتناقضات ...".
فهل نحن حقّا نهتّم بالتّراث الاهتمام الكافي،
أو أن اهتمامنا حقًا متّزِن؛ كما يزعم (أبو ديب)؟ ولكن مالم يوضّحه (أبو ديب) ما يقصده
بالتّراث؟ وكيف توصّل إلىّ أنّ اهتمامنا بالتّراث في وضع متزن؟ ثمّ لماذا تكون العودة
للتّراث حالة مرضية؟
ولعلّ الإجابة عن سؤال الدّكتور التركستاني
تكمن في الأفكار الّتي سيطرت على كثير من أساتذة الجامعات، الذين درسوا في الغرب؛
فامتلأت عقولهم بالشكوك حول التّراث الإسلامي، حتى كانت قمة الشّكّ فيما كتبه (طه حسين)
وأمثاله.
لاشكَ أنّ تراث هُذه الأمّة لا يخلو من مشكلات
وتناقضات؛ لأنّ الّذين انتجوه بشر يخطئون ويصيبون؛ ولكن هل يمكن لأمّة تعيش بالقرآن،
والسّنّة، وسيرة الخلفاء الرّاشدين قرونا أن نعمم على تراثها هذه الأوصاف السّلبيّة،
التي تنفر منه.
لَقد كانت الأمّة الإسلامية؛ کما قال الشیخ
محمّد الغزالي هي العالمِ الأوّل قررن عديدة لا ینازعها في مكانتها أحدٍ، فلابدّ أن
يكون في تراثها صفحات كثيرة مليئة بالكنوز الفكريّة. نعم يعزف الشّباب عن التّراث؛
حينما يتولّى منابر التوجيه أمثال (كمال أبو دب) فقد درست التّأريخ الإسلامي أربع سنوات
لم يطلب أستاذ واحد من الطّلّاب أن يقرأوا صفحة واحدة من (تاربخ الطّبري) أو (ابن كثير)
وحتى السيرة النبويّة لم ندرسها من خلال (سيرة ابن هشام) أو من كتب الحديث؛ بل درسناها
من كتب حديثة لا تصور السيرة إلا من خلال الغزوات، التي لم يزد الحديث فيها عن المواجهة
العسكرية. أما الدّروس والعبر والتشريع الّذي جاء في هذه المغازي فلم يكن له أثرا!
-
وبدأت الدَّراسات العليا، وكانت مادّة علم التأريخ، ولم يطلب الأستاذ قراءة أيّ كتاب
في هذا المجال من كتب التراث؛ بل كان الأهمّ عند الأستاذ ما قاله (هرنشو) و(سبينوزا)
و(ادوارد كار) وغيرهم. كنت أتوقّع أن نقرأ ما قاله (السخاوي) في كتابه الإعلان بالتّوبيخ
لمن ذم التأريخ أو ما کتبه (ابن خلدون) في المقدمة وغيرهما.
-
إنّ أهمّيةً التّراث، وبخاصّة الّذي يمثل الفكر الإسلامي الصحيح، تأتي - أوّلا - من
الفهم العميقِ للإسلام؛ الذي حين تعرّض للتيارات الفكرية الوافدة كان الأقوى نعرف كما
يقول الدكتور يوسف عز الدّين كيف يرفض ما يناقض الإسلام، وأخذ الحكمة أنى وجدها. وله
ميزة أخرى أنه كتب بأقلام تعتزٌ بالإسلام لا تكتب مدافعة أو مبررة، بل كتبت من منطلق
الاعتزاز بالإسلام وقيمه
- وأحبّ أن أقدم فيما يأتي تجربة طريفة قمت بها في أثناء تدريس مادة مدخل إلى النّظم الإسلامية؛ حيث كلّفت الطّلاّب بالعودة إلى مجموعة من كنب التّراث في مجال السياسة والاقتصاد والإدارة والتربية والتعليم، ومن هذه الكتب الأحكام السّلطانيّة للماوردي، وغياث الأمم للجويني، و(الأموال) لأبي عبيد، و(صبح الأعشى) للقلقشندي، والمقدّمة لابن خلدون، وغيرها من كتب التّراث ولم أكلّف الطلاب أكثر من تدوين اسم الكتاب كاملا، ومحقِقه، ومعلومات النّشر، ثمّ تقديم فكرة موجزة عن المؤلّف والكتاب، ونصحت لهم أن يقرأوا مقدمة المحقق، ومقدّمة المؤلّف. وقد وجدت استجابة طيّبة، أرجو أن تليها تجارب أخرى في العودة إلىّ التراث.
أمّا مزاعم (أبو ديب) وأضرابه بأن الاهتمام
الزّائد بالتراث حالة مرضية، لأنّهم يرون أنّ التّراث يفضح كلّ أصحاب الدّعوات الهدّامة
الذين انتصرت عليهم الأمة قديما، وهي - بإذن الله - منتصرة عليهم حديثا، وها هي
معارض الكتب تشهد للكتاب التراثي تفوقه وانحسار الحداثة والحداثيين وهزيمتهم!!
تعليقات
إرسال تعليق