الحسد وعلاجه والعدل بين الأولاد (خطبة جمعة للدكتور عبد العزيز قارئ رحمه الله ) استنساخ مازن مطبقاني ومساعدة الأستاذ همام المديني
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:(إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين *
اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يحل لكم وجه ابيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين *
قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم
فاعلين) في هذه الآيات دروس عظيمة، دروس هامة منها أن أمر الهداية والتوفيق كله
بيد الله تعالى وحده، لا دخل للإنسان في ذلك مهما علا شأنه وعظمت مكانته عند الله
عز وجل. فهذا أبو الأنبياء ابراهيم الخليل عليه السلام عجز عن هداية أبيه آزر مع
شدة حرصه على ذلك، وهذا نوح عليه السلام من قبله مع شدة حرصه على انقاذ ابنه لم
يمكنه انقاذه، وتلقى الأمر الالهي الحازم (إنه ليس من أهلك) بالصبر، والانقياد، والخضوع،
والاستلام. وهذا سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع شدة حرصه على
هداية عمه أبي طالب - وقد كان يحنو عليه، ويذب عنه. ومع ذلك لم تكتب الهداية لعمه،
فالأنبياء عباد الله يسيرون بقدره ويخضعون لحكمته ومشيئته سبحانه وتعالى، ليس لهم
من الأمر شيء. إن وظيفتهم البلاغ وإرشاد الناس إلى دين الله. أما الهداية والتوفيق
فليس لهم منهما شيء. ليس لهم من أمر الهداية والتوفيق شيء. قال تعالى لرسوله محمد
صلى الله عليه وسلم (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم. فإنهم ظالمون)،
وقال تعالى له أيضاً (إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء) هؤلاء أولاد يعقوب
عليه السلام، أولاد نبي كريم، هؤلاء إخوة يوسف، أولاد نبي كريم، أبناء نبي كريم من
سلالة كريمة وبيت كريم ومع ذلك وقع منهم ما وقع، ولم يتمكن أبوهم من منعهم من ذلك،
لم يتمكن يعقوب عليه السلام من منعهم من ذلك مع عظم قدره ومكانته عند الله تعالى .
فليأخذ من هذا درساً كل أب تمرد عليه أولاده. كل أب تمردوا عليه أولاده وفشل في
اصلاحهم وهدايتهم مع بذله الجهد والطاقة وسعيه في ذلك
كما أن على كل أب أن يبذل جهده وسعيه في إرشاد
أبنائه وإصلاحهم وتربيتهم تربية حسنة فإنه مع ذلك يجب أن لا ينسى أن هناك جانباً
لا يملكه. لا يملكه الا الله وحده؟ هذا الجانب هو الهداية والتوفيق. فعلى كل أب أن
يستنزله بالدعاء، أن يلهج لسانه دائماً بالدعاء لأولاده بالهداية والتوفيق لعله
يستنزل ذلك من الرب عز وجل، وكثيراً ما تغفل عن هذا
وليأخذ أيضاً من هذا درساً كل داعية إلى طريق الجنة؛
كل داعية يبذل جهده ويستفرغ وسعه لإرشاد الناس وهدايتهم اليها. ومع ذلك فإنه يرى
أكثر هم معرضين عنها، معرضين عن طريقه الجنة، ويراهم يتهافتون بدلاً منها على طريق
النار فيهتف في قلبه هاتف الشفقة والانكار (يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة
وتدعونني إلى النار)، إن طريقه الجنة محفوفة بالمكاره والا لسلكها كل أحد، وطريق
النار محفوفة بالشهوات والا لما تردى فيها أحد. وليس العجب من الناس إذا أذنبوا،
وإذا أخطأ، وإذا عصوا، ولكن العجب العجاب ممن نشأ في كنف الأنبياء، وشاهد نور النبوة،
وعاشر نور النبوة كيف يذنب، ولكنها سنة الله كما بيّنا، سنة الله في خلقه التي لا
تبديل لها. إن أمر الهداية والتوفيق ليس بيد أحد حتى ولا بيد الأنبياء، بل كله بيد
الله سبحانه وتعالى وحده
ومع أن اخوة يوسف تغلبت عليهم تلك العزيزة
البشرية القاهرة التي غالباً ما تدفع الانسان إلى ارتكاب الاثم، التي غالبا ما
تدفع الناس إلى ارتكاب الذنوب. تلك الغريزة التي دفعت أحد ابني آدم إلى قتل أخيه،
إنها الحسد. فالحسد هتف من أعماق نفوسهم، من أعماق نفوس إخوة يوسف، هتف من أعماق
نفوسهم (ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منّا) مع أن أباهم لم يظلمهم، والأنبياء لا يظلمون،
ولذلك لا نشك أن يعقوب عليه السلام كان في معاملته مع أولاده جميعاً عادلاً منصفاً.
لا شك أبداً أن يعقوب عليه السلام كان يسوى بين يوسف واخوته في الواجبات والحقوق
كما هو الواجب على كل أب. ولكن ليس معنى التسوية بين الأولاد في الواجبات والحقوق
أن تغفل الفروق الطبيعية الجبلية بينهم؛ فواجبات الصغير وحقوقه ومتطلباته. ليست
كواجبات الكبير وحقوقه ومتطلباته. وواجبات الابن وحقوقه ومتطلباته ليست كواجبات
البنت وحقوقها ومتطلباتها. ولكن العدل والإنصاف هو ان يحافظ الأب في هذا المجال
بالميزان فيما بين أولاده فيعتبر في كل واحد منهم حقوقه ومتطلباته الطبيعية. سئل
رجل من العرب: أي ولدك أحب إليك؟ فقال: صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر ومريضهم
حتى يشفى
فالعدل والانصاف المطلوبان
من الأب بين أولاده إنما هو في الظاهر أي فيما يظهره باختياره. أما المحبة أما
محبة القلب وميله فهذا أمز قاهر لا يد لأحد فيه. وقد كان يعقوب عليه السلام في
قرارة قلبه يحب ابنه يوسف أكثر من باقي أبنائه لما رأى فيه من مخابل النبوة، وتفرس
فيه علاماتها، كان يحبه أكثر من باقي إخوته، ويبدو ان علامات هذه المحبة الخاصة
ظهرت لأخوة يوسف على الرغم من حرص يعقوب عليه السلام على العدل والانصاف في
معاملتهم جميعاً. ولكن على حد قول الشاعر
دلائل
الحب لا تخفى على أحد الحامل المسك لا يخلو من العبق
فالأب ليس ملوماً
في فيما لا يملكه من محبة القلب وميله، وانما هو ملوم فيما يفعله باختياره من
أنواع المعاملة والبشاشة والعطية والهبة والرعاية ونحو ذلك. فإنه إذا أظهر تفريقاً
بين أولاده من هذه الأمور فهو لم يظلمهم فحسب وانما هو يدفعهم دفعاً إلى التحاسد
والتباغض وربما إلى التظالم لأن الولد الذي ميّزه على غيره يشعر بعلو منزلته على
باقي إخوته فلربما دفعه ذلك إلى ظلمهم والتسلط عليهم والعدوان، ولم يصدر من يوسف
عليه السلام وهو في كنف أبيه ولم يقع من يعقوب عليه السلام أي تقصير في العدل
والإنصاف بين ولده، ومع ذلك فقد تغلبت تلك الغريزة القاهرة، تلك الغريزة البشرية
الخطيرة ، تغلبت على قلوب إخوة يوسف: غريزة الحسد فيا لها من غريزة قاهرة خطيرة،
ما أعظم سلطانها ، ما أقوى سلطانها وأشد نارها فعلينا جميعاً أن نتنبه إلى هذا
الأمر وأن نعدل وأن ننصف بين أولادنا
(واتقوا
يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم تولى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)
الخطبة
الثانية
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حسد الا في اثنتين؛ رجل آتاه الله القرآن
فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته من الحسد)
أي هو ينفقه في أوجه الخير. صدق رسول الله صلى عليه وسلم. الحسد معناه تمنى زوال
النعمة من الغير سواء تمنى تحويلها إليه أم لا. ولا يلزم فيها أن تتحول من مجرد
شعور في القلب أو خاطر في الذهن إلى فعل وسعي، بل يكفي فيها فعل القلب فإن الحسد
عمل قلبي. أي شعور يطرأ على القلب، خاطر يخطر في الذهن، وشعور يطرأ على القلب
فيسيطر عليه ويتمكن منه، فإذا ما استسلم الانسان له وتمادى فيه فإنه يأثم بذلك.
وأما إذا بادر بالتخلص من ذلك الشعور، وبادر بطرد ذلك الخاطر الخبيث من عقله فإنه
يسلم من الائم. أما إذا استسلم له وتمادى فيه فإنه يأثم وان كان مجرد فعل قلبي
أما إذا حرك هذا الشعور الخبيث حرك جوارح
الانسان إلى العقل والى المكر في سبيل ازالة النعمة من الغير فإن الاثم حينئذ
يضاعف لان الاثم حينئذ يكون على فعل القلب وعلى فعل الجوارح. وأما ما لا يلام عليه
الانسان ولا يؤاخذ فيه أنه إذا رأى نعمة على إنسان أن يتمنى مثلها دون أن يتمنى
زوالها من الغير؛ وهذا ما يسمى بالغبطة أو الاغتباط، وهو المراد بهذا الحديث هنا
بقوله صلى الله عليه وسلم (لا حسد الا في اثنتين) بدليل الرواية الأخرى: (لا
اغتباط الّا في اثنتين)
فإن
الاغتباط يؤدي إلى التنافس في فعل الخير، وهذا أمر مطلوب من الناس. مطلوب منا
جميعاً أن نتنافس في أوجه الخير وفى فعل الخير، وبدون الاغتباط وبدون التنافس في
ذلك فإن أفراد المجتمع يبقون عناصر ميتة مشلولة لا يحركها محرك إلى العمل
والانتاج. فالغبطة والتنافس محرك ايجابي للإنسان، يدفعه إلى العمل والانتاج وفعل
الخير، والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خص شيئين بالذكر وهما: العلم والمال؛
لأنهما عنصران أساسيان من بناء المجتمع، فعلى الجميع أن يتنافسوا في سبيل تحصيل العلم.
ولكن العلم المؤدي إلى العمل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على قول (رجل
آتاه الله القرآن) بل وصفه بالعمل فقال فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وكذلك
المال فإن على الناس أن يتنافسوا فيه، لكن ليس في تحصيله وجمعه وتخزينه فحسب فإن
هذا أمراً ليس إيجابيا، وليس فعلاً منتجاً. وكذاك ليس المراد أن تحصل المال لتنفقه
في أوجه الشر بالبذخ والإسراف فهذا ليس أمراً بناءً في المجتمع، بل هو أمر هدّام.
هو إفساد للمجتمع وموجب لعقوبة الله تعالى قال سبحانه (كلا بل لا تكرمون اليتيم
ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لماً وتحبون المال حبا حماً)
إنما المراد هنا بالمال والتنافس فيه التنافس في جمعه لإنفاقه في أوجه الخير كما
قال صلى اله عليه وسلم (فسلّطة على هلكته في الحق) أي على انفاقه في أوجه الخير فهذا
عنصر بناء ينبغي أن يتنافس فيه الجميع .
تعليقات
إرسال تعليق