التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بين الشورى والديمقراطية

 ([1])

      لا أحب أن أبدأ مقالتي بمقولة مستشرق ذلك أن أقوال بعضهم ليس مما يسر أبداً وإن كانت تصور أحياناً واقعنا بمنظارهم لأنهم شاركوا في صنعه، والمقولة التي سأوردها هي لبرنارد لويس المستشرق البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية التي يصف فيها برلمان القاهرة في العهد الملكي وهي "أن برلمان القاهرة قد استورد في علبة وركّب وأصبح جاهزاً للاستعمال حتى دون ورقة التعليمات التي تأتي مع الأجهزة ذاتية التركيب.ولم يلب هذا البرلمان حاجات أو مطالب الشعب المصري ولم يكن مدعوماً من رأي عام قوي."

    منذ صدور هذه المقولة وحتى اليوم والغربيون مستشرقون وغير مستشرقين لازالوا يكثرون من الحديث عن الديمقراطية، وهم يعلمون أن تطور هذه الديمقراطية نشأ لمواجهة أوضاعهم واحتياجاتهم وسواء أرضوا بها أم كرهوها فذلك شأنهم. أما أن يروها أعظم نظام سياسي توصل إليه البشر فمسألة تحتاج أن نناقشهم فيها. فهم حين يناشدون الدول ممارسة الديموقراطية أو يدعونها لذلك ثم يصرون عليها أن تمارسها ثم بعد ذلك هم يصنفون الدول-على الأقل نظرياً-التي يتعاملون معها حسبما تمارس من هذه اللعبة حتى إذا خرجت إحدى الدول من اللاديممقراطية إليها أخرجوها من تصنيف ووضعوها في تصنيف آخر ما طلعوا به علينا أن الدول التي أخذت بالديمقراطية الغربية تصبح الدول الأكثر رعاية ومن العجيب أن هذا المستشرق الذي تحدث عن الديمقراطية المعلبة يدرك خطأ وخطر فرض القيم الغربية على الأمم الأخرى قائلاً:" بالطبع ليس من الحكمة وبالتالي لا يعيننا في علاقاتنا بهذه الأمم" ليزيد الأمر وضوحاً حين يضرب المثال بمقولة قيصر عن بريتانوس في أحدى مسرحيات برنارد شو "أنه بربري" ويعتقد بريتانوس أن تقاليد قبيلته وجزيرته عادات جيدة وأنها قوانين الطبيعة"، ومع هذا فإن هذا المستشرق نفسه يقول في بحث له بعنوان "الإسلام والشيوعية" "حول موقفي السياسي- دعني أقول- إنني أعتقد أن الديمقراطية التي يمارسها الغرب برغم كل عيوبها ما تزال أكثر صور الحكومات عدلاً مما أنتجه البشر حتى الآن".

     ولا أجد مبرراً لهذا التناقض إلا أن الإنسان ابن بيئته ومعتقده فهو يرى العالم من خلالهما ومهما حاول أن يتواضع أو أن يكون موضوعياً لا بد لقناعاته أن تظهر واضحة جلية.

وإذا انتقلنا من هذا الزمن البعيد نسبيا."1963"(1383) إلى الوضع الراهن نجد أن أزمة الخليج قد فجّرت قرائح الكتاب والصحافيين والسياسيين والأكاديميين الغربيين للحديث عن لنظام المثالي ألا هو الديمقراطية الغربية وكيف سيفرضونها على دول المنطقة. فظهرت كتاباتهم في وسائل إعلامهم المختلفة، وهنا يحسن أن أعتذر بأن متابعتي لهذه الوسائل يقيّده عدة عوامل منها توفر هذه الوسائل وثانيا الوقت الذي تستغرقه هذه المتابعة هو أكثر مما يستطيع فرد أن يسيطر عليه.

     روت جريدة الواشنطن بوست في عددها الصادر يوم 19 فبراير 1991 عن بعض الكويتيين الذين لم يخرجوا من الكويت مطالبتهم بدور في تسيير دفة الحكم في فترة ما بعد الحرب. ونقلت الصحيفة عن بعض الخبراء قولهم أن الحكم لا بد وأن يشمل تأسيس شكل من أشكال الحكم الديمقراطي.

     وكتبت جريدة واشنطن تايمز يوم 26 فبراير 1991 أن على أمريكا أن تقيم نظاماً ديمقراطياً في الكويت بعد تحريرها وفق مبادئ الغرب وأنظمته" وتحدث جريدة الجارديان البريطانية عن النظام العالمي الجديد الذي تريد أمريكا أن تقيمه في العالم وذكرت أن الكويت هي المكان الطبيعي للبدء بذلك النظام.

    جميل أن يهتم الغرب بدول العالم الثالث وأنظمة الحكم فيها ويحارب- ولو ظاهرياً-مسألة الاستبداد ولكنا نحن المسلمين لدينا شريعة الله عز وجل المتمثلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتاريخ إسلامي عظيم كان يطبق هذه الشريعة ليجعل منها نموذجاً يمكن أن يقتدى بمنهجها وفكرها السياسي. وفيما يأتي خواطر عن الشورى في الإسلام لعلها تقنع أولئك الذين يركضون خلف كل ما يأتي به الغرب أو أولئك الذين ينتظرون حتى يفرض علينا الغرب ما عنده من مبادئ وأفكار.

      الشورى تبدأ من البيت ذلك أن رب الأسرة إذا ما احترم كل فرد في الأسرة وقدّر كيانه وفكره وعاملهم بالشورى فإننا نكون قد بدأنا الخطوة الأولى نحو الشورى العامة. ولا يقل رب الأسرة أن الصغير لا يستشار، ولا أجد أبلغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه (يا غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك..) الحديث والشورى أصلها الرحمة والإحسان ومن حق الأبناء والزوجة على الأب أن يكون بهم رحيماً ولكم كم جلب رب أسرة على أهله البلاء، والشقاء، لتجبره وغروره وطغيانه.

       ولو انقلنا إلى الإدارة الصغيرة فالمدير الذي يجلس خلف مكتبه يظن أن جميع موظفيه عبيداً له ليس عليهم إلّا طاعته والانقياد لأوامره والتنازل عن ذاتيتهم وآرائهم، بل إنسانيتهم وكرامتهم. فإن هذا المدير لا بد أنه خرج من أسرة لم تعطه قيمته وحقه. أما موظفوه فإنهم سيستمرئون الذل والصغار فلا يعودون يحترمون لأنفسهم رأيا ولا يعرفون لإنسانيتهم وجوداً ولا لكرامتهم معنى فيتزلفون وينافقون. ومن المدير تنطلق إلى من هو أعلى منه حتى تصل إلى قمة الحرم. فحبذا لو ربّينا أبناءنا على الصدق والأمانة واحترام النفس والشجاعة في الرأي حتى إذا دخلوا حياتهم العملية لم يكن ممكنها سلبهم إنسانيتهم وكرامتهم وعقهم وذواتهم.

     وأختم هذا الموضوع بكلمة للشيخ محمد الغزالي (رحمه الله)"الحكومة الإسلامية تنشئها أمة إسلامية، الأخلاق فيها كريمة والتقاليد سليمة والعبادات لها سوق رائجة والرذائل شبح منكور وأثر محقور، والعلاقات الخاصة والعامة يحرسها الشرف والصدق"

      



-[1] المسلمون، 12 ربيع الأول 1412هـ (20 سبتمبر 1991م)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الطبعة: الرابعة. الناشر: دار المعارف بالقاهرة (تاريخ بدون). عدد صفحات الكتاب: 219 صفحة من القطع المتوسط. إعداد: مازن صلاح المطبقاني في 6 ذو القعدة 1407هـ 2 يوليه 1987م بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : يتحدث فيها المؤلف عن معنى التاريخ، وهل هو علم أم فن، ثم يوضح أهمية دراسة التاريخ وبعض صفات المؤرخ وملامح منهج البحث التاريخي. معنى التاريخ: يرى بعض الكتاب أن التاريخ يشمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون بما يحويه من أجرام وكواكب ومنها الأرض، وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ومثال على هذا ما فعله ويلز في كتابه "موجز تاريخ العالم". وهناك رأي آخر وهو أن التاريخ يقتصر على بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض.       وكلمة تاريخ أو تأريخ وتوريخ تعنى في اللغة العربية الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ودقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمن من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله الم...

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

                                      بسم الله الرحمن الرحيم                                  ما أصدق بعض الشعر الجاهلي فهذا الشاعر يصف حال بعض القبائل العربية في الغزو والكر والفر وعشقها للقتال حيث يقول البيت:   وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا. فهم سيقومون بالغزو لا محالة حتى لو كانت الغزوة ضد الأخ القريب. ومنذ أن نزل الاحتلال الأجنبي في ديار المسلمين حتى تحول البعض منّا إلى هذه الصورة البائسة. فتقسمت البلاد وتفسخت إلى أحزاب وفئات متناحرة فأصبح الأخ القريب أشد على أخيه من العدو. بل إن العدو كان يجلس أحياناً ويتفرج على القتال المستحر بين الاخوة وأبناء العمومة وهو في أمان مطمئن إلى أن الحرب التي كانت يجب أن توجه إليه أصبحت بين أبن...

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية

                             يردد الناس دائما الأثر المشهور :(من تعلّمَ لغةَ قوم أمن مكرهم أو أمن شرَّهُم) ويجعلونها مبرراً للدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية أو اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. فهل هم على حق في هذه الدعوة؟ نبدأ أولاً بالحديث عن هذا الأثر هل هو حديث صحيح أو لا أصل له؟ فإن كان لا أصل له فهل يعني هذا أن الإسلام لا يشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟ وإن كان صحيحاً فهل الإسلام يحث ويشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟         لنعرف موقف الإسلام من اللغات الأخرى لا بد أن ندرك أن الإسلام دين عالمي جاء لهداية البشرية جمعاء وهذا ما نصت عليه الآيات الكريمة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سبأ آية 28) وقوله تعالى { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } (الأنبياء آية 107) وجاء في الحديث الشريف (أوتيت خمساً لم يؤتهن نبي من قبلي، وذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). فهل على العالم كـله أن يعرف اللغة العربية؟ وهل يمكن أن نطالب كلَّ...