المدينة
المنوّرة … طيبة … طابة … دار الإيمان
ما
أعذب الأسماء وما أجمل المسمّى مدينة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم منها كانت
الانطلاقة الكبرى لهذا النور الوهاج لدين الله وخاتمة الرسالات … فيها نشأت أول
دولة للإسلام ومنها انطلقت جيوش الفتح الإسلامية لتحطم الطواغيت وتهدم عرشي كسرى
وقيصر … منها أعيدت للبشر كرامته بعد قرون من الاستعباد والذل … عبودية للحكام
وعبودية للشهوات والأهواء عبودية لأوثان وأصنام لا تملك لنفسها شيئاً فكيف تملك
شيئاً لمن عبدها .
ما
أعظمك أيتها المدينة … الخير فيك متصل مهما تغيرت الظروف والأزمان …والإيمان
إليكِ سيأرز كما تأرز الحية إلى جحرها بل "يوشك أن لا يكون إيمان إلاّ بكِ "كما أخبرنا الصادق المصدوق عليه صلوات الله وسلامه.
ولذلك
فمها كتب عنك فلن يفيك حقك أيتها المحبوبة الغالية ولكن ها هو الأديب الدكتور عاصم
حمدان رحمه الله يختار صوراً أدبية من حياة المدينة المنوّرة الاجتماعية والثقافية في القرن
الرابع عشر فيعرضها عرضاً جاء مزيجاً في أسلوبه وطريقته بين أسلوب الرواية في رسم
اللوحات الفنية وعنصر التشويق والوصف الأدبي الراقي وبين التاريخ في رقته وأمانته
… أين كتاب الرواية المسلمين عن المدينة المنوّرة … ما بالنا نسينا أن نحتفل بمثل
هذا النوع من الكتابة الأدبية الذي يجمع بين الأدب وبين التاريخ … أعجب كيف كتب عن
أحياء في مدن إسلامية أخرى روايات أصبحت مشهورة مهما كان اتجاهها ومضمونها ولم
يكتب عن المدينة سوى هذا العمل ومقالات الأخ هشام الخريصي.
لاشك
أن الدكتور عاصم رحمه الله اقتصر في هذه الصور على جزء صغير مما يعرف ومما يستحق الحديث عنه
لحرصه على الإيجاز الذي تتطلبه الكتابة الصحفية، وإنني إذ أغبطه على هذه المعرفة
العميقة بمجتمع المدينة الذي تحدث عنه بصورة تدعونا نحن أبناء المدينة إلى
الافتخار بالانتساب إلى هذا المجتمع الحبيب، فهو إذا وصف كان صادقاً في وصفه وإذا
امتدح لم يبالغ في مدحه وابتعد عمداً عن جوانب النقص عملاً بالحديث الشريف اذكروا
محاسن موتاكم كما ذكر أن أي مجتمع بشري لا يخلو من العيوب … كذلك حرص على عدم
إيذاء أبناء مدينة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بذكر العيوب؛ فما أحكمه وأعقله …
وحتى
يعاود الأخ الدكتور عاصم إبداعه الأدبي الجميل في صور جديدة فإنني أود أن أقدم
إشارات موجزة إلى بعض الصور التي تستحق الحديث عنها وتجليتها وهي لا شك لم تغب عن
الدكتور ولكن حجم الكتاب والمقالات دعته إلى تركها مؤقتاً .
المدينة
المنوّرة واحة من أجمل الواحات في العالم، وما زلت أذكر صور الحديقة التي كانت تقع
أمام مسجد المناخة؛ فقد ظلت زمناً طويلاً موضوعاً لبطاقات الأعياد كما إن المناخة
التي تبدأ بعد مسجد الغمامة بقليل حتى باب الشامي تقريباً كان فيها شجرة ربما كان
عمرها يزيد عن المئة عام، فليت الأخ عاصم يقف قليلاً عند الحديقة وعند المناخة
ولقاء الحجاج من جميع أنحاء العالم تحت هذه الشجرة أو قريباً منها يحدثنا عن أشجار
المناخة وعن أسباب التسمية وذكرياتها .
ومن
الصور التي يمكن تناولها إطعام الطعام وهذا الأمر وإن كان شائعاً في البلاد
الإسلامية لكنه في المدينة له مزايا فريدة؛ فقد عاشت امرأة في واجهة حوش منصور (وأذكر أن اسمها سلمى) وكانت تصنع اللبن ويبعث إليها الناس أبناءهم ومعهم الأواني لتُملأ باللبن فتخرج
قدور اللبن من ثلاجتها التي تعمل بالكاز واللبن لديها على درجات مختلفة من الحموضة
فتقوم بعملية خلط كأنها في معمل كيميائي حتى يصل اللبن إلى درجة مناسبة من الحموضة
…
وحبذا
لو وقف الدكتور عاصم عند حلقات العلم بالحرم النبوي الشريف كم كانت مزدهرة بالعلماء
الذين تعود أصولهم إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي، كيف كانوا أسرة واحدة يقدمون
علماً على أعلى مستوى يبتغون وجه الله عزّ وجلّ ويحيون سنّة سيدنا رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم في تعليم العلم .
ولا
بد من وقفة مع الأوقاف أنواعها وأصنافها المواقفين والموقوف عليهم، ولعلها تكون
دعوة إلى إعادة هذه المؤسسة الإسلامية العظيمة فلم تكن مجرد صدقات جارية بل كانت
ذات تأثير اجتماعي خطير … لم يكن المجتمع في زمن الأوقاف إلى قروض ربوية أو تقسيط
جائر أو قرضاً بمنَّة من بشر … أين نحن من الأوقاف .
ومن
الصور الاجتماعية التي عرفتها شخصياً أن أحد أهل المدينة اشترى قطعة أرض صغيرة فما
كان من أصحاب الأراضي الملاصقة لأرضه إلاّ أن عرضوا عليه أن يتوسع بشراء أراضٍ
منهم ولم يبالغوا في السعر ولم يطالبوا بالدفع مباشرة وقد بدأ من قطعة من أربعة
مخازن (مقياس للمساحة خاص بالمدينة مساحته 42م2 ) إلى اثني عشر مخزناً .
والحج
له صوره الأدبية فقد كانت نسبة طيبة من الحجاج لا تستأجر بيوتاً ولا تشتري طعاماً
بل كانت تجد الضيافة والكرم من أبناء المدينة المنوّرة؛ ففي أيام شبابي الباكر لا
أذكر مرور موسم حج دون أن نتصل بحجاج ممن أتوا ضيوفاً عند والدي أو عند عمي عصام
رحمها الله. ولم يكن هذا كل ما يفعله أهل المدينة بل كانوا يصطحبون ضيوفهم في
بقية رحلة الحج إلى مكة المكرمة وبقية المشاعر وهذا يخفف كثيراً عن ضيوف الرحمن.
الكتاب
جميل ورائع جداً وقد استمتعت كثيراً بقراءته، وللدكتور عاصم أسلوب أدبي خاص يمس
شغاف القلوب لدرجة أنه يستثير الدمع على الجمالات التي ذهبت ولم يبق لها أثر .
أزعجني
شيء واحد هو الأخطاء الطباعية …هل يمكن التخلص من هذه الأخطاء في طباعتنا العربية
يوماً ما؟! أين أجهزة الكمبيوتر عن هذه الأخطاء.
وثانياً
فإننا إذا لم نهتم بمثل هذا الكتاب وندفع فيه ما يستحق حتى عشرين ريالاً، فما
الكتب التي تستحق؟ إنّ مثل هذا الكتاب لا بد أن يطبع ثانية وثالثة …
تعليقات
إرسال تعليق