هذه هي المرة الثانية التي أزور فيها
كراكوف فالأولى كنت تقريباً أنتوراج entourage ومعناها بحسب القاموس المجاني في
الإنترنت "مجموعة من الحضور يرافقون شخصاً مهماً "وأعتقد أنهم في الغالب
لا مهمة لهم. وكأنهم الكومبارس في السينما وإن كان لبعض الكومبارس عملاً. ومع ذلك
فلم أكن كذلك تماماً حيث قدمت ورقة في مؤتمر المستعربين الأوروبيين الواحد
والعشرين الذي عقد في جامعة كراكوف حول الاهتمام بدارسة الاستشراق والاستغراب في
المملكة العربية السعودية وقد أثار بعض النقاش. وقد أصبحت عادة في رحلاتي أن أزور
بعض المدن أكثر من مرة، وقد تكررت هذه التجربة في هولندا وألمانيا ومصر والأردن
وبيروت وقطر وغيرها (بقي أستراليا)
أعود إلى الغرفة فهي على الرغم من صغرها
ففيها ثلاجة وغلاّية ماء وبعض قراطيس الشاي والقهوة وأحياناً ينسى عمال التنظيف أن
يضعوا تلك الأشياء فأضطر للاتصال بالاستعلامات حتى يأتوا بالشاي. والمشكلة أن من
يأتيك إلى الغرفة في الفندق من الذوق أن تعطيه بخشيشاً وحتى وإن كان يعوض نقصاً في
عمله أو عمل زملائه. ولكن دعني أضيف هؤلاء الناس يتقاضون أجوراً متواضعة (عدا في
اليابان، فهم أثرى مني ومنك في العالم العربي المتدني الأجور، وإن كان اليابان تمر
هذه الأيام بركود اقتصادي، يختلف عن ركودنا بلا شك)
خرجت أبحث عن مقهى فأحياناً نشعر بالطاقة على
الرغم من شدة التعب، وكما يقولون والطير يرقص مذبوحاً من شدة الألم، والمسافر يشعر
بالنشاط على الرغم من جسمه المكدود. وخرجت أتجول على غير هدى ودون خارطة ولا سؤال
حيث ظننت أنني سأهتدي إلى مكان أجلس فيه فأخربش. ولم أستطع ولكني رأيت الغابات
والحدائق العامة تملأ الرحب فقلت يا لهم كيف يعتنون بمدنهم فترى الخضرة في كل مكان
وليس في القصور والمحميات المحمية لعلية القوم، أو يقتطع ما كان حديقة فتصبح متاجر
فتكاد مدننا العربية في غالبها تختنق من الديزل وغيرها من العوادم. كما رأيت عدة
مبان ضخمة قريبة من الفندق من كل الجهات تقريباً. فسرت بعض الوقت حتى وجدت مطعماً
فتناولت طعام الغداء والعشاء، ولم أجد بقالة على الرغم من أنني رأيت أكياس بلاستك
عليها علامة تسكو الإنجليزية. وأشعر في السفر أحياناً (ربما لشدة التعب)
بالاستسلام وقد وجدت متجراً اشتريت منه قارورة ماء كبيرة بأكثر من دولار قليلاً
ولو كانت مياه معدنية لاستحقت الثمن حتى وإن كان المتجر بالقرب من الفندق قد يبالغ
في السعر. وخرجت من المطعم أسير حول
الفندق فقادتني قدماي إلى ساحة يجتمع فيها عدد كبير من الشباب وفي آخرها مسرح
تحتله فرقة ولم تكن قد بدأت إزعاجها أو وصلاتها الغنائية ويوجد حول الساعة أماكن
لشوي اللحم وبيع المشروبات الغازية. وما أن اقتربت من مدخل الساحة حتى دفعني أحدهم
فقلت ماذا تريد فأشارت إلي امرأة أنه لا بد أن يفتشني، فقلت ليفتشني فلا أحمل من
السلاح إلاّ قلمي ولساني. ودخلت ورأيت الشباب البولندي جاء ليستمع للموسيقى
الصاخبة والالتقاء بين الجنسين أو بين الجنس الواحد فعالمهم أصبح يعترف بالعلاقات
المثلية على أنها مشروعة ومن العيب أو الخطأ أن تستهجنها. فأين ملائكة قوم لوط يا
رب لقد أصبح حالهم لا يطاق؟ وبعد قليل بدأت الموسيقى الصاخبة فقلت ليس هذا المكان
مما يهمني، ولو كان الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله لمكث قليلاً ليجري عليهم
دراسة كما فعل مع الظاهرة العجرمية والإليسية والوهبية. وأضافت زوجتي أن النساء
صرن يصفن بعضهن بشبيهة نانسي أو شبيهة إليسا أو شبيهة فلانة وفلاني (ولا تنسوا
روبي وما أدراك..) وهذا الشبه مصدر فخر ومصدر تقليد فكيف بالله تصنع هذه الشبيه إن
جاءها أولاد أو كانت معلّمة؟ فقد أكد أن المسألة ليست عفوية أن تظهر مجموعة من
المغنيات لا يمارسن الغناء ولكن يمارسن الغنج والخلاعة، وقد زارت نانسي عجرم تونس
(في العهد البائد) فاستقبلت استقبال رؤساء الدول وكانت تمشي في الأماكن التي
تزورها وكأنها ملكة متوجة.
جولة
في وسط المدينة القديم أو السوق المركزي
خرجت برفقة الدكتور محمد العطاونة من جامعة بن جوريون بالنقب،
ولا أدري هل هو من العطاونة الذين سمعت قصتهم من والدي رحمه الله أنهم من يطلق
عليهم بنو عطية، وقد أصابتهم الغطرسة والكبرياء حتى إن الواحد منهم ليعترض الرجل
في طريقه ويقول له (قل لي طلق أو صيب) (وطلق يعني يصيبك طلق ناري أو تصاب بمصيبة) فإن
قال أو لم يقل يقوم بضربه، فدارت الأيام ببني عطية حتى أصبح كثير منهم من
المتسولين بل أصبحوا علماً على التسول، فإذا طرق الباب شحاذ أو متسول أو مسكني قيل
على الباب عطيوي تصغيراً لشأنهم، وقال الدكتور محمد إن العطاونة تركوا الأردن فهل
هم بنو عطية نفسهم. ولعلي أسأل إن ذهبت إلى الأردن صيفاً إن شاء الله.
وصلنا سوقاً شعبياً فيه بضائع جيدة ولكن
بأثمنة أقل من الأسواق الأخرى وفي هذا السوق أماكن لبيع اللحوم والدواجن والأجبان
والخضروات والخردوات والملابس. وهذه الدكاكين تشبه محلات أبو ريالين غير أن
بضائعها أجود قليلاً ذلك أن تلك المجتمعات لا تقبل الرخيص جداً الذي لا يصلح
للاستهلاك الآدمي كما تقبل وزارة التجارة في بلادنا.
واصلنا السير إلى السوق الكبير الحديث
(المول، وما أدراك ما المول؟) وكأن كلمة مول دخلت اللغة العربية فهل يرتبها مجمع
اللغة العربية ويشذبها. واسم هذا المجمع التجاري الجاليريا، فكلمة جاليري وجاليريا
كلمات أوروبية وهم يستخدمون كلماتهم ولكن ما بالنا اعوجت ألسنة البعض منا فما أتعس
من يطلق هذه الأسماء في بلادنا فأحد أكبر الأسواق في بلادنا يطلق عليه اسم نهر أوروبي
هو الدانوب، وفي الرياض الجالريا وفيها المارينا، وقد طالما ظهرت أخبار أن وزارة
التجارة ترفض التسميات الأجنبية ولكن هل أصحاب هذه المحلات فوق القانون؟ أظن ذلك.
ومن داخل السوق وصلنا إلى محطة القطار
ووجدنا مكتب تذاكر واحد –ربما لأنه السبت- ولكن بعض المدن محرومة من الخدمات التي
تحصل عليها المدن الأكبر. ووقفنا قليلاً حتى حصلت على تذكرة القطار لليوم التالي
وحصل الدكتور محمد على تذكرة القطار بعد ساعتين ووضع حقيبته الصغيرة (بنطلون واحد
أو اثنين وقميصين) لدى الأمانات بثلاث زوتات ولم يطلب منه أن تكون مغلقة بقفل،
فالأمانة موجودة ولكن في المغرب على سبيل المثال لا يقبلون الحقيبة إلاّ مغلقة ولا
ينقلونها في الحافلة إلاّ بقفل. لم يكن محمد مشجعاً على الشراء والتسوق لأنه يقارن
الأسعار والبضائع بما في فلسطين المحتلة التي يسميها إسرائيل باستمرار وأكره
التسمية ولو قال في بلادنا أو غاد أو عندنا أو في النقب لكان أجمل. ولكنه يبدو
تعود على التسمية بالإضافة إلى إعجابه بالنظام الذي أتى به اليهود.
وعدت أدراجي بعد أن سافر محمد وقد بلغ
الذروة من الإعجاب بشخصي المتواضع وهو على كل حال لم يقابل أشخاصاً كثر من
المملكة. وكنت في طريق العودة أبحث عن السوق الشعبي لأشتري منه بعض الأشياء التي
أعتقد أنها قد لا تتوفر لدينا أو تكون بأسعار متهاودة، أو من جرد عادة الشراء أو
إدمان الشراء. ولكن للحقيقة أن حقيبتي لم تزد على ستة عشر كيلو غراماً ونصف في
العودة مع ما في حقيبة اليد من حلويات تركيا وحلويات تأتينا درجة ثانية أفصل في
الأمر فيما بعد إن شاء الله.
تعليقات
إرسال تعليق