April
9, 2011 at 7:48 PM
كان أبي رحمه الله يحفظ كثيراً من الشعر
ويتمثل به في المناسبات بل كان يستخدمه أسلوباً غير مباشر في التربية فهو حين كان
يريد أن يتحدث عن علو الهمة والطموح والآمال الكبار فكان من الأبيات الشعرية التي
سمعتها منه قول المتنبي
يقولون لي ما أنت في كل بلدة وما
تبتغي ما أبتغي جل أن يسمى
وربما سمعت منه قصة الشاب الذي سأله
أبوه من مثلك الأعلى؟ فقال الابن أنت يا أبي، فقال له لا يا بني، عندما كنت في
سنّك كان مثلي الأعلى هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانظر إلى المسافة التي
بيني وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
تذكرت هذا القضية حين جاءني اتصال من
القنصلية الأمريكية في جدة يخبرني فيها المتصل (علي الغضبان) عن مؤتمر يعقد في
الجامعة الأردنية بعنوان (العلاقات العربية الأمريكية نحو مستقبل مشرق) ويحثني
فيها على الحضور وأعطاني اسم رئيس اللجنة المنظمة الدكتور سامي الخصاونة وكيل
الجامعة الأردنية. وتم الاتصال وحصلت على دعوة بعد استغرابهم وتأكيدهم أنني سأكون
على حسابي من حيث تكاليف السفر والإقامة. ولما كانت إمكانات الأساتذة متواضعة في
عالمنا العربي حتى إن بعض الأساتذة في بلدان عربية يعملون سائقي سيارات أجرة،
وبعضهم ربما فتح محلاً لإصلاح الإطارات وسمعت عن دكتور لديه بائعي بليلة على ساحل
جدة وهذا يذكرني ببيت الشعر
تموت
الأسد في الغابات جوعى ولحم الضأن
تأكله الكلاب.
خرجت
من بيتي على الساعة الحادية عشرة مساءً للسفر إلى تبوك (شمال المدينة على بعد
700كم) بالطائرة ووصلت تبوك قريباً من الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وبحثت عن
سيارة أجرة تقلني إلى عمّان ولما كان
الوقت متأخراً فكان من الصعب توفر الركاب وفجأة ظهر شابان يريدان الذهاب إلى
سوريا، فتقدم سائق سوري فأخبرهما أنه سينقلهما إلى عمّان ومنها سيرتب سفرهما إلى
دمشق، ودفعت أجرة مقعدين فوافق السائق، وانطلقت السيارة ووصلنا الحدود الأردنية
قبل الفجر بقليل فتوقفنا للصلاة وتوقف السائق ليمارس عمله في التهريب بشراء
السجائر وكمية من المشروبات الغازية لأنها أرخص في السعودية من الأردن، ويبدو أن
السائقين يمارسون التهريب طوال حياتهم فيعرفهم رجال الجمارك. وعند الحدود السعودية
رفضت الجوازات السماح لأحد الشابين بالسفر دون إذن والده لأنه أقل من واحد وعشرين
عاماً فحاولوا الاتصال بوالده فلم يعثروا له على أثر وأعتقد أنها أسرة مفككة فالأم
لا تعرف أين الأب ولا أحد يدري أين الأب فمنع من السفر واضطر رفيقه البقاء معه
وسافرت وحدي بقية الطريق إلى عمّان فلم أصل عمّان حتى الحادية عشرة قبل الظهر مما
يعني أنني قضيت في مشوار يستغرق في الحالة العادية ساعتين أو ثلاثة أربعة أضعاف
الوقت، وقاتل الله الحاجة. ولو كان في الجامعات مرونة لما احتجت إلى كل ذلك لأذن لي
العميد وصرف لي قيمة التذكرة ومكنني من السفر باحترام.
وحضرت المؤتمر وكانت لي مشاركة فعّالة في
معظم الجلسات، وكان رئيس اللجنة التنظيمية يلاحظ مشاركاتي فكم تمنيت لو أنه اعتذر
عن عدم استضافتهم لي بل كان الأولى أن أكون ضيفاً فإن مشاركتي ومساهمتي كانت أكثر
من معظم الذين حضروا ضيوفاً، ولكن متى كان للإبداع في بلادنا قيمة.
ورجعت من عمّان إلى المدينة المنورة وكان
عليّ أن أسافر بعد ذلك بأسبوع إلى الجزائر لحضور مؤتمر في وهران. وكانت خط سير
الرحلة من جدة إلى تونس ومن تونس إلى الجزائر ثم أركب طائرة إلى وهران. وفي تونس
علمنا أن موظفي المراقبة الجوية مضربون وأن مطار الجزائر مغلق أمام الملاحة الجوية
فكان لا بد أن ننتظر في مطار تونس حتى تستطيع الحكومة الجزائرية تدبر الأمر. فكان
عليّ أن أحاول قضاء الساعات الطوال بما يفيد فبدأت ألاحظ السيّاح الذين أتوا
ليتفرجوا علينا لا ليتفاعلوا معنا فكان في أحد مطاعم المطار سائح وسائحة وكان في
يد كل واحد منهما كتاب يقرأ منه، فتعجبت ألم يجدا سوى هذا الوقت للقراءة؟ أليس
بإمكانهما أن يتحدثا معاً؟ ورأيت من مناظر العربان الذين يرتبطون بنساء أجنبيات
فيسير الواحد إلى جانب امرأة وقد أبرزت كل مفاتنها وكأنها ذبيحة معلقة في متجر
جزار. فأتعجب أين الغيرة والمروءة والشهامة والنخوة؟
ولم نتمكن من السفر حتى قبل منتصف الليل
بقليل. ووصلت الجزائر فكانت أولى الصعوبات انتظار الحقائب وكان هناك رحلة أخرى من
برشلونة وصلت الحقائب ولم يصل الركاب إلى الصالة ورحلة تونس ينتظر الركاب ولم تصل
الحقائب. وبعد انتظار طويل ووصول الحقائب بالقطارة كما يقولون أخذت حقيبتي وتوجهت
إلى باب المطار ثم كان عليّ الانتقال من الصالة الدولية إلى الصالة الداخلية وكانت
رحلتي إلى وهران في صبيحة اليوم التالي ولم لدي أية ترتيبات للبيات في فندق في
العاصمة أو في المطار فمكثت ست ساعات تقريباً جالساً في الصالة الداخلية وكان هناك
العديد من الركاب الذين ينتظرون اليوم التالي ويخافون أن يذهبوا إلى داخل العاصمة
في الليل حيث كانت الأوضاع الأمنية صعبة أو حتى مخيفة. وكان من هؤلاء الركاب مدير
مدرسة ثانوية في تيزو ووزو وكان قادماً من مصر، والجزائريين والمغاربة يحبون مصر
بطريقة خاصة، وإن كان بعض الجزائريين لديهم نظرة سلبية تجاه بعض المعلمين المصريين
الذين درسوا في الجزائر، والمصريون أنواع فمنهم الرائع الذي كما يقال تضعه على
الجرح فيبرأ ومنهم هو الداء الوبيل. ويا ويل الأستاذ حين يكون مصاباً بالطمع
والجشع، وبعض الأساتذة المصريين ساهموا في محاربة هيبة الأستاذ.
وعلى السادسة صباحاً انطلقت رحلتنا إلى
وهران وبعد أن وصلت المطار كنت أظن أني أستطيع أن أركب سيارة أجرة إلى الجامعة
ولكني حاولت الاتصال بالجامعة ولكن جامعة وهران كبيرة وفيها كليات كثيرة ولم أتذكر
أن المؤتمر يعقد في معهد اللغة العربية والحضارة فباءت كل اتصالاتي بالجامعة
بالفشل وهنا قررت أن أركب تاكسي وشاء الله أن أهتدي إلى المكان فلما وصلت مكتب
العميد وقد كنت قد أصبحت بسبب السفر الطويل أشعث أغبر فوضى لا ترتيب ولا نظافة ولا
هندام. ففوجئ الدكتور بكري عبد الكريم الذي ربما تذكر (أن تسمع بالمطبقاني خير من
أن تراه أو المعيدي)
وفي صبيحة يوم المؤتمر كنت في مطعم
الفندق أتناول الفطور فإذ بفتاة سافرة الوجه وشعرها منسدل على ظهرها وترتدي ملابس
غير محتشمة ففكرت في أمرها كيف أنها يمكن أن تكون في هذا الوقت في بيتها ترتدي
ملابس النوم وتعد الإفطار لزوجها وأولادها بدلاً من أن تنتقل هنا في المطعم ينظر
إليها كل من هبّ ودب. يمكن أن تكون ابتسامتها التي أجبرت عليها من حق رجل واحد فإذ
بها تقدم للجميع بلا استثناء، يا لحياتنا التي تغربت قبلنا لبناتنا وزوجاتنا أن
يكون في مثل هذه المواضع. وفي الوقت الذي تعمل فيه هذه الفتاة هناك العشرات أو
المئات من الشباب الذين لا يجدون عملاً وهم الذين كلّفهم الشارع الحكيم بالإنفاق
على الأسرة وعلى الأب والأم وغيرهما إن كانا في حاجة.
ختام:
جمعني مجلس مع الدكتور عبد الله أبو سيف
الجهني من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فذكر لي أربعة أبيات من الشعر كتبت
في القرن الخامس الهجري فكيف أحوالنا اليوم والأبيات هي:
متى تصل العِطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا
(الآبار)
ومن يثن الأصاغر عن مراد وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإن ترفع الوضعاء يوماً على الرفعاء من إحدى البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي فقد طابت منادمة المنايا
تعليقات
إرسال تعليق