ابتدعت
وكالات الأنباء العالمية ما يعرف ب (حدث في مثل هذا اليوم)، ثم عندما انتشرت
القنوات الفضائية أصبحت هذه الفقرة من الفقرات التي تقدمها مختلف القنوات الفضائية
ولعل بعضها يضفي على ما يقدم بعض الخصوصية، ولكن يبقى الناتج متأثراً بالأصل
وبأصحاب المادة الأرشيفية. وقد انتقد أكثر من كاتب ارتباط هذا الموضوع بالتواريخ
الميلادية وكأنهم بذلك يريدوننا أن ننسى التواريخ الهجرية.
والأمر
الأهم في برنامج (حدث في مثل هذا اليوم) أنه يركز على أحداث معينة وعلى شخصيات
يرغبون الترويج لها والاهتمام بها. والدليل على أن اهتمامهم بالأمور التي يريدون
وليس الأمور التي تهم العالم العربي الإسلامي أنهم يقدمون أخبار أهل الفن على
أخبار أهل العلم والأدب والفكر فإحدى الإذاعات العربية كانت تتناول في برنامجها (حدث
في مثل هذا اليوم) ذكرى الفنانة فايزة أحمد واستمر البرنامج ما يقارب الربع ساعة
وهم يتحدثون عن هذه المرأة الذي ذهبت إلى ربها وأخذوا يذيعون بعض أغنياتها وكم مرة
تزوجت ومن تزوجت وغير ذلك من الأمور. فهل يذكرون وفاة عالم من العلماء بمثل ما
يذكرون المطربين والممثلين؟ هل يذكرون مثلاً وفاة بعض علماء الأمة ويقرؤون بعض
الصفحات من كتاباتهم؟ كأن يهتموا بالإمام الطبري أو الإمام البخاري أو الترمذي أو
يهتموا بالعلماء المعاصرين كالشيخ عبد الكريم الخطابي أو عبد الحميد بن باديس أو
الإبراهيمي أو الثعالبي أو الإمام الجبرتي الكبير والجبرتي الصغير وغيرهم.
وها
نحن في شهر رمضان المعظم وقد حدث فيه كثير من الأحداث العظيمة التي سيتوقف عندها
المسلمون ليتذكروها وإنني سأبدأ من أول يوم من هذا الشهر بالحديث عن بعض هذه
الأحداث وبعض الدروس المستفادة دون الدخول في التفاصيل التاريخية وأول هذه الأحداث
وأعظمها أثراً في تاريخ هذه الأمة هي غزوة بدر الكبرى التي حدثت في السنّة الثانية
من الهجرة وكانت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان.
كانت
قريش قد اضطرت المسلمين لمغادرة مكة بعد ثلاث عشرة سنة من الدعوة المتواصلة
ومقابلة الإيذاء بالصبر ومزيد من الدعوة، ولكن لم يعد لهم بمكة مقام فكانت الهجرة
واجبه فهاجر المسلمون إلى المدينة، وهنا استولى كفار قريش على أموالهم وممتلكاتهم.
لم يكتف القريشيون بذلك بل راحوا يكيدون للمسلمين حتى بعد أن تركوا ديارهم. ولم
تمض أشهر قليلة على الهجرة حتى بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال السرايا
الاستطلاعية لمعرفة تحركات قريش. وهذا درس عظيم في أن على المسلم أن يكون يقظاً
فلا يؤخذ على حين غرة. ومن الاستعداد لمواجهة العدو معرفة أحواله وأسراره. وهذا ما
يفعله الغرب منذ أن تزعم المدنية المعاصرة بأن بث عيونه وجواسيسه في أنحاء العالم وابتدع
من الوسائل لجمع المعلومات عن الأمم والشعوب الأخرى بحيث أصبحوا كما يقول الدكتور
أبو بكر باقادر (يعرفون التفاصيل وتفاصيل التفاصيل) فهذه أقسام الدراسات العربية
والإسلامية وأقسام الدراسات الإقليمية ومراكز البحوث والدراسات بالإضافة إلى
سفاراتهم وقنصلياتهم توفر لهم من المعلومات ما يمكنهم من ذلك.
ولمّا
كان الرسول صلى الله عليه وسلم على علم بأحوال قريش فقد علم أن لهم قافلة بقيادة
أبي سفيان عائدة من الشام فقرر أن يهاجم تلك القافلة ليستولي على ما فيها، وشاء
الله عز وجل أن تعرف القافلة بتحركات المدينة فيتخذ أبو سفيان (قائد القافلة)
قراراً بالاتجاه نحو الساحل.
وتعلم
قريش بما حدث فتصيب الغطرسة والكبرياء أبا جهل فيصرح بأنه سيشن حملة ضد المسلمين
تستأصل شأفتهم (ولعل الاستئصاليين المعاصرين زعيمهم أبو جهل) ويتوعد وعيده المشهور
حتى بعد أن تتراجع بعض القيادات القرشية عن المواجهة، ولكن أبا جهل كان له رأي آخر
فصرح قائلاً:" والله لن نرجع حتى نرد بدراً فننحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف
علينا القيان، ويعلم العرب بخروجنا هذا فلا يزالون يهابوننا أبداً"
وكان
يوم بدر يوم الفرقان كما سمّاه القرآن الكريم )إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى
الجمعان( (الأنفال 41).
كانت
المواجهة متوقعة بين المسلمين وكفار قريش وما ذاك إلاّ لأن كفار قريش كانوا كما زعم
أبو سفيان يريدون استئصال شأفة المسلمين والقضاء عليهم قضاءً مبرماً، فهم لا يطيقون
أن ينازعهم في السيادة على الجزيرة أحد أو على العرب أحد. ولكن الله يعلم أنه
ليسوا أهلاً لهذه الزعامة والسيادة. ولكن قبل أن نتحدث عن المواجهة بين قريش
والدولة الإسلامية في المدينة لا بد أن نتعرض لبعض الاستعدادات التي تمت في
المدينة لهذه المواجهة الحاسمة.
يتحدث
الأستاذ منير محمد الغضبان في كتابه في السيرة النبوية بأن الاستعداد للمواجهة مع
الكفر سبقها الإعداد العقدي والنفسي والتربوي والحربي في المدينة ومن أبرز ملامح
هذا الإعداد التأكيد على عدد من السمّات لتميز المجتمع المسلم والدولة الإسلامية
وقد لخص الأستاذ منير الغضبان هذه السمات في عدة سمات نذكر بعضها لأهميتها في
واقعنا المعاصر. وأول هذه السمات تقوية الجبهة الداخلية وكان ذلك بالكتاب الذي
كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم وحدد فيه معالم الأمة وتحديد حقوق المواطنة
وواجباتها وإطلاق أول إعلان في التاريخ للتسامح الديني الحقيقي – الذي يزعم الغرب أنه رائده في العصر الحاضر- وبهذه الوثيقة تحدد
عدو الدولة وهو كفار قريش. ثم تلا ذلك عدداً من المعاهدات مع القبائل التي تسكن
بين المدينة ومكة. ويمكن أن نضيف إلى تقوية الجبهة الداخلية أيضاً المؤاخاة بين
المهاجرين والأنصار.
أما
السمة الثانية فهي ما أطلق عليه الأستاذ منير الغضبان (لا خيار من المعركة) وقد
كانت قريش قد شعرت بالهزيمة أن المسلمين استطاعوا أن ينجوا من اضطهادها وأن يؤسسوا
دولة بالمدينة فلجأت إلى زعيم النفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد أورد أبو داود
نص رسالة قريش التي جاء فيها (إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لنسيرن
إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم) وكتبت قريش للمهاجرين (لا يغرنكم
أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم )
ولم
تستطع قريش أن تثير بعض أبناء المدينة ضد بعض لأن الرسول صلى الله عليه وسلم
استطاع أن ينزع فتيل الحمية الجاهلية الوثنية عند من لم يسلم من أهل المدينة
فخاطبهم قائلاً: (لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما
تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم…) ويعلق الأستاذ منير على ذلك بقوله:" لقد ذكّر رسول الله صلى
الله عليه وسلم الوثنيين الذين حملوا السلاح ضد المسلمين أن المسلمين أبناؤهم وإخوانهم،
ولا ضير في ذلك إن كان فيه تأجيل لمعركة ضارية داخلية…"
وحاولت
يهود في هذه الفترة أيضاً إثارة الخلافات والفتن بين الأنصار أنفسهم؛ فقد روى ابن
اسحق ما يأتي: "كان شاس بن قيس شيخاً قد عتا، عظيم الكفر، شديد الطعن على
المسلمين شديد الحسد لهم – رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على
الإسلام فغاظه فأرسل إلى شاب من اليهود ليذكرهم بيوم بعاث وغير ذلك من العداوات
السابقة. وكاد القتال يقع بينهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (يا معشر المسلمين الله الله أ بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله
للإسلام وأكرمكم به وقطع عنكم الجاهلية واستنقذكم بها من الكفر وألف بين قلوبكم …)
وأتوقف
عند سمة مميزة في الأمة الإسلامية قبل غزوة بدر وهو تحويل القبلة إلى الكعبة فقد
تم ذلك بعد سبع عشرة شهراً من الهجرة الشريفة. وقد أدرك يهود هذا التميز فظهر
موقفهم الذي توضحه الآيات الآتية:)سيقول السفهاء من الناس
ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم((البقرة 142) وتلخص الآية الكريمة موقف أهل
الكتاب )ولئن أتيت الذين أوتوا
الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض(
أطلت
في المقدمات لغزوة بدر ولكنها غزوة مهمة جداً في تاريخ الأمة الإسلامية وقد كان كل
ما قبلها من سنوات طويلة في الدعوة والبناء العقدي والنفسي والعسكري والتربوي
والاقتصادي استعداداً لها ولما بعدها. وفي غزوة بدر من الدروس والعبر ما يحتاج إلى
مجلدات وبخاصة في الوضع الذي تعيشه أمتنا في العصر الحاضر.
فالعالم
الإسلامي يواجه اليوم عولمة اقتصادية وفكرية وثقافية واجتماعية وسياسية فكيف
النجاة من هذه العولمة التي تريد فرضها الدول الكبرى أو الشركات المتعددة الجنسيات
التي تكسب من أموال الأمة من تصل حساباته إلى أرقام خيالية لأننا- إلى حد كبير-
أصبحنا نعتمد على منتوجاتها؟ فالفرقان الاسم الذي أطلق على بدر ينبغي أن نستعيده
اليوم فهو الحد الفاصل بين عهد قديم وعهد جديد وقد تناول صاحب الظلال هذه المسألة
فقال إنها: " فرقان بين عهدين في تاريخ الإسلام عهد المصابرة والصبر والتجمع
والانتظار وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع …والإسلام بوصفه
إعلاناً لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته ومطاردة
الطواغيت التي تحارب ذلك …وهو فرقان بين عهدين فالبشرية بمجموعها
قبل النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام".
وقبل
أسبوعين تقريباً كتب الأستاذ محمد نور عوض (المدينة المنورة 15 شعبان 1419)
عن التاتشرية والريجانية وأنها طريق ثالث غير الرأسمالية والاشتراكية والدكتور عوض
يرى أن العالم يقترب من طريق الإسلام دون أن يسميه بهذا الاسم. فهل آن الأوان أن
يقدم علماء الاقتصاد والاجتماع المسلمون للعالم هذه النظرية الثالثة أو هذا المنهج
الثالث الذي فيه سعادة العالم الحقيقية. وقد تناول أيضا الدكتور سامي حبيب مسألة
الفقر وذكر أن حل هذه المعضلة التي تواجه العالم ليس في الرأسمالية ولا في
الاشتراكية ولكنه في الإسلام. (المدينة المنورة 16 شعبان 1419) هل لدى أي
معتقد آخر في العالم (والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع) وفي رواية وهو
يعلمه. هل لدى نظام آخر (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام
في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة)
وكانت
بدر فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة فهذه قريش بكثرتها
الكاثرة ومعهم عوامل النصر الظاهرية بينما عوامل الهزيمة الظاهرية في صف المسلمين
ولكن كانت نتائج المعركة نصراً مؤزراً للقلة المؤمنة " ولتنتصر العقيدة القوة
على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد فتبين للناس أن النصرة للعقيدة الصالحة
القوية لا لمجرد السلاح والعتاد." وهذا مصداق قول الله عز وجل (كم من فئة
قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) (البقرة 249)
وفي
بدر من الدروس الشيء الكثير فمنها مثلاً ما ذكره البخاري في كتاب المغازي عن مقتل
أبي جهل فقد كان في جيش المسلمين بعض الشباب حديثي السن وهما معاذ بن عمرو بن
الجموح ومعاذ بن عفراء وقد كان هذان الشابين حريصين على قتل أبي جهل وكانا لا
يعرفانه فسألا أحد الصحابة عنه فسألهما وما تريدان أن تفعلا؟ فقال أحدهما:"
أُخبرتُ أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق
سوادي سواده حتى يموت الأعجل منّا" وبالرغم من حداثة سنهما فهما يسألان عن
أكبر عدو للإسلام في ذلك الحين. والأمر الثاني أنهما يدركان أنّ تقدمها لقتل عدو الله
يعني أنهما يخاطران بحياتيهما في سبيل الله.
ولنا
أن نتساءل ما اهتمامات شبابنا هذه الأيام؟ هل يمكن أن نقدم لهم هذه النماذج
المضيئة لتكون لهم قدوة ونبراساً. إن الأمة الإسلامية تواجه تحديات كبيرة فنحن
بحاجة للطاقات جميعاً في البناء والتشييد وليس في اللهو واللعب وإضاعة الوقت. إننا
نغضب إن صدرت أفلام تحاول تشويه صورة الإسلام والمسلمين، ولو أردنا أن نصلح صورتنا
حقيقة فعلينا أن نرتفع إلى مستوى التحديات العالمية في المجال العلمي والاقتصادي
والسياسي والاجتماعي. وعندنا ستكون لنا الهيبة بإذن الله كما أصبحت للمسلمين بعد
بدر.
تعليقات
إرسال تعليق