التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المشيئة والقدر في صدر الإسلام تأليف وليام مونتجمري وات W.Montogemry Watt ترجمة د. مازن بن صلاح مطبقاني مراجعة الدكتور علي النملة


    من المعروف عموماً أن أحد الفروق الملفتة للنظر بين النصرانية والإسلام أن النصرانية تلح على حرية الإرادة عند الإنسان بينما يعلم الإسلام الجبر. ومع ذلك فقليل من التأمل يظهر لنا بأن المسألة ليست بهذه البساطة. فقد اعتقد سينت بول Saint Paul بالقضاء والقدر بمعنى من معانيه، كما قام أتباع أغسطين Augustine وكالفنCalvin بالتوسع في ذلك الجانب من تعاليمهما. ومع ذلك فإن عقيدة الإرادة الحرة (أو المشيئة الحرة) في الصورة التي رسمها بلاقيوسPalgius تعد هرطقة في نظر النصرانية المحافظة. والدراسات الآتية توضح لنا قدراً مساوياً من التنوع في الإسلام.
        إن الموقف الذي تتبناه هذه الدراسة يمكن تلخيصه بأبلغ إيجاز بكلمات اللاهوتي الإنجليكاني المعتمد:
        "تقدم لنا الكتب المقدسة حقيقتين عظيمتين أولاهما السيادة المطلقة لله p.Rom.9,20ff)) وثانيهما مسؤولية الإنسان ولا تستطيع عقولنا القبول بهما، وبقدر ما نستطيع الإذعان والقبول بهما على الإطلاق فما ذلك إلاّ بسبب العمل الصالح والحياة الأخلاقية الفعالة."
        وكلا هاتين الحقيقتين العظيمتين موجود في الإسلام إلاّ أن التوازن في صالح الأولى ولهذا السبب بالذات فإن النصرانية بمواقفها المتعاطفة مع الهرطقة البلاجية ربما تتعلم شيئاً من الإسلام.
أولاً القرآن والحديث
       
يقال بأنه من الممكن تتبع تطور هذه القضية محل البحث في القرآن الكريم، ولكن الأجزاء المتأخرة منه أكثر تحديداً. وسيكون تأسيس هذا الجهد شاقاً، ولكن تأثير ذلك على نتائج دراستنا الحالية سيكون قليلاً لذلك فإن تناول القرآن الكريم كوحدة واحدة يبدو أمراً كافياً. فغالباً نجد فيه التعبير عن هاتين الحقيقتين.
حاكمية الله المطلقة في القرآن
        يتحدث القرآن عن الله (عز وجل) على أنه رب العالمين القادر وخالق كل شيء وبالتالي القوي الذي له الحكم الأعلى في كل ما يحدث فلا يستطيع البشر أن يفعلوا شيئاً إلّا بمشيئته على الأقل بمعنى بإذنه.
        (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير (الشورى 49)
     (إن هذه تذكره فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً.) (الإنسان 29-30)
      (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون (يونس 99-100)
      ومما يشغل الرسول [صلى الله عليه وسلم] حقيقة أن كثيراً ممن استمعوا إلى إنذاراته لم يهتموا بها أو لم يؤمنوا بالله، وهناك مقاطع كثيرة في القرآن ترجع إيمان الإنسان كلياً لفضل الله وهدايته بينما يعود الكفر لإضلاله لهم وتخليه عنهم (من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)
     وأحياناً يرجع كفر الإنسان لعدم قدرته على الرؤية والسمع والقبول وهذا بالتالي نتيجة عمل الله على التغطية على أبصارهم وختم أو قفل قلوبهم (وأما الذين كفروا فسواءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم.) (البقرة آية 6)
     إن تفوق الإرادة الإلهي في كل الأحداث الدنيوية يعبر عنها بقوة في القرآن ومع ذلك فإن الحقيقة الأخرى من الحقيقتين العظيمتين تهمل بأي حال من الأحوال.
مسؤولية الإنسان في القرآن)
     إن أفضل برهان على أن الاعتقاد بمسؤولية الإنسان نحو أعماله جزء أساس من رسالة القرآن لا يوجد في أي نص معين، ولكن مفهوم اليوم الآخر كله واضح جداً في الإنذارات الأولى. وقد وزعت الجوائز والعقوبات على الناس وفقاً لمبادئ العدل وهذا يوحي بأن البشر هم حقاً مسؤولون عن أعمالهم. فإنذارات محمد [صلى الله عليه وسلم] ودعواته للتوبة توحي أيضاً بأن مستمعيه لديهم القدرة على الاستجابة وفي حالة واحدة نجد الذين وصفوا بالصم للنذير على أنه ليس ذنبهم يعترفون فيما بعد بمسؤولياتهم عن أعمالهم (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن ياويلنا إنّا كنّا ظالمين) (الأنبياء 46) والآيات الآتية توضح التعاليم حول يوم القيامة:
        (وقل الحق من ربكم فمن شاء فيلؤمن ومن شاء فليكفر إنّا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً أولئك لهم جنت عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاُ) (الكهف آية 31)             
(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (الأنبياء آية 47)
(فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلاّ ما كنتم تعملون) (يسن 54)
ومما يستحق الإشارة أن العديد من الآيات التي تتحدث عن هداية أو إضلال الله لبعض الناس إن ما يفعله الله يبدو أنه نتيجة (ثواب أو عقاب) لسلوك الناس السابق. ويؤكد القرآن على عدل الله في كل ما يفعله بالبشر.
        (قل أمر ربي بالقسط، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليه الضلالة، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون.) (الأعراف 29-30)
        (وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين) (البقرة 26)
        (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله ون شيء لمّا جاءهم أمر ربك وما زادهم غير تتبيب) (هود 101)
        (وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى) (طه 82)
         إن هذه الاقتباسات كافية لإظهار أن جابي الحقيقة المتكاملتين بالرغم من صعوبة قبولهما عقلياً ممثلان في القرآن. وقبل أن نواصل مناقشة القرآن سيكون من المفيد أن ننظر في بعض الأحاديث الشائعة في هذا الموضوع.

الأحاديث التي يستشهد بها عموماً لتأييد القضاء والقدر.
        لم يقصد من الأحاديث الآتية أن تغطي جميع جوانب الميدان بصورة شاملة وسيتم ذكر بعضها الآخر فيما بعد. ولكن الاختيار الحالي-أعتقد ويمكن الادعاء-بأنه يعطي مثالاً صادقاً للأحاديث والمفاهيم الأكثر تأثيراً في الفكر الإسلامي.
        (كتب الله أقدار الخلق قبل خمسين ألف سنة من خلق السموات والأرض)
        عن عبادة بن الصامت [رضي الله عنه] قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، قال ربي ماذا أكتب؟ فأجاب اكتب مصير كل شيء حتى قيام الساعة) ويقول عبادة يا بني سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول (من مات لم يؤمن بهذا فليس منّي)
        عندما يكون عمر الجنين اثنين وأربعين يوماً في الرحم يرسل الله ملَكاً يشكله ويخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه، وبعد ذلك يسأل الملك: يا رب هل سيكون ذكراً أو أنثى؟ عند ذلك يأمر الله (عز وجل) ما يشاء أن يكون فيكتب الملك ذلك. وهنا يسأل الملك ماذا يكون أجله (يعني تاريخ وفاته) عند ذلك يقول الله ما يشاء فيكتب الملك وبعد ذلك يذهب الملك وفي يده اللفافة التي فيها، ولن يزيد أو ينقص من الإرادة الإلهية.
-      قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن فلاناً وفلاناً من أهل النار ولم يصدق بذلك بعض الصحابة حيث رأوا الرجل في أقسى المعارك مثخناً بالجراح، ولكنه لم يتحمل الألم في النهاية فأخذ شفرة وقتل نفسه)
-      وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يدخل الجنة إلاّ مؤمن)
-      قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ليس بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيبدأ بعمل أهل النار فيدخلها، وكذلك فإن أحدكم قد يعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينها وبينه ذراع فيبدأ في عمل أهل الجنة التي سيدخلها)
-      قال ابن الديلمي (زرت أٌبي بين كعب وقلت له قد ثارت شكوك في نفسي حول القضاء والقدر وربما تزول لو أخبرتني بحديث في هذا الموضوع، فأجاب لو أراد الله أن يعاقب أهل سماواته وأرضه فإنه عند ذلك لن يكون من العدل. ولو أنفقت في سبيل الله مثل أحد فلن يقبل ما لم تؤمن بإرادة الله وتعترف بأنه ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار... عند ذلك ذهبت إلى زيد بن ثابت الذي أخبرني بحديث مشابه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-      اتهم موسى آدم بصفته أبونا على أنه سبب طردنا من الجنة فأجاب آدم بأنه لم ينل النعمة التي نالها موسى فكيف يلومه على ما سبق أن قدّره الله قبل أن يخلق وهكذا تغلب آدم.()
التغاير بين القرآن والحديث:
    عندما نقارن هذه الأحاديث مع الاقتباسات القرآنية السابقة حول حاكمية الله المطلقة نجد تعارضاً واضحاً لافتاً للانتباه. فالقرآن يهتم بتأكيد سيطرة الله العليا على العالم من لحظة لأخرى بينما تتناول الأحاديث ما أمر الله به في الماضي سواء كان ذلك قبل خمسين ألف سنة من خلق العالم أو عندما يكون كل إنسان جنيناً في الرحم. وبالتالي فالقرآن ينظر لله على أنه شخصي ومريد في الحاضر. ومع أن الأحاديث تتحدث عن الله فهي تميل إلى النظر إلى حياة الإنسان على أنه تحت سيطرة مباشرة ليست سيطرة الله بل قوى غير شخصية (دون ذكر الله على الإطلاق) "ما أصابك لم يكن ليخطئك)
    وليس التناقض بالتأكيد مطلقاً تماماً كما تشير الاقتباسات التي أوردناها فثمة آثار عديدة في القرآن للقضاء والقدر بالمعنى المحدد أي تقرير الأمور قبل حدوثها من قبل الله بصورة منفصلة عن سيطرته الحالية عليها، فهناك مفهوم أجل الإنسان في الحياة.
(هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً، وأجل مسمىً عنده ثم أنتم تمترون) (الأنعام 2)
(ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعلمون) (المنافقون11)
ولكن عند السماح كلياً لمثل هذه الأمثلة وغيرها من أفكار القضاء والقدر في القرآن، وبسبب التكرر الممكن لمفهوم سيطرة الله الحاضرة على العالم في الحديث فإن التغاير بين الاثنين حول هذه النقطة يظل ملفتاً للانتباه. فالقرآن أساساً وغالباً يهتم فقط بحاكمية الله في الحاضر-في الاقتباسين الأخيرين حتى عندما تقرر الأصل فهو مازال فاعلاً، والحديث يقر بعض الفعل لله في الماضي، ولكنه مهتم أكثر بالقوى الخارجية التي تسيطر على مصير الإنسان في الحاضر.
        ولذلك فمن الصعب إنكار أن هذه المفاهيم الموجودة في السنّة وشائعة في فكر المسلمين ليست تطوراً لأي شيء في القرآن ولكنه يجب أن تكون قد دخلت الإسلام بطريقة أخرى. والاقتراح الواضح بأن لها ارتباطاً مع الجبرية التي كانت شائعة بين العرب قبل حياة محمد [صلى الله عليه وسلم] وأثنائها ولكنه اقتراح يحتاج إلى فحص دقيق.
القرآن ونظرة العرب قبل الإسلام:
         لقد توصل أحد الباحثين في عقيدة الجبر لدى الشعراء العرب إلى الاستنتاج الذي مفاده بأن جذور هذه العقيدة موجودة في مفهوم الوقت(الزمن) ف (دهر) يمكن أن نعني كما يقول:
        " ومع ذلك فغالباً ما يكون التفكير فيه باستمرار على أنه يمثل قوى معينة، ونادراً ما ينظر إليه على أنه الزمن فقط، فلا ينظر للوقت نفسه. ولكن غالباً وبدون استثناء يجسد على أنه مسبب للخير وأيضاً للحظ السيئ على أنه مسيطر على وجود الإنسان ويفعل هذا بطريقة تجعل من الممكن لهم أن يهربوا مما هو مخبأ لهم. أليس هذا هو القدر؟"(10)
وكتب باحث آخر:
        " كان من الشائع تخيل الوقت المجرد على أنه السبب في كل الحوادث الدنيوية وبخاصة كل المآسي الأرضية...ويمثل الوقت على أنه الذي يأتي بكل الحظ السيئ ومسبب التغيرات الدائمة، كأنه ساخر ومستهلك ومطلق السهام التي لا تخطئ أبداً أهدافها، ويلقي الحجارة وغير ذلك. وفي مثل هذه الحالات فنحن غالباً مضطرون أن نربط الوقت بالقدر وهو ليس صحيحاً تماماً حيث إن الوقت يُفهم على أنه العنصر الذي يحدد وليس على أنه عنصر تتحكم فيه قوة أخرى تحدده."(11)
        وقد وصف جولدزيهر في الفصل الأول من كتابه "دراسات محمدية" أن مثال البدوي في أواسط الجزيرة هو المروءة أو الرجولة ويقول: "الفخر والاعتزاز بشجاعته العالية وبسالة رفقائه لا يخطر له أن يكون شاكراً لقوى عليا بنجاحاته مع أن لا يستبعد كلياً الاعتراف بهيمنتها. إنما يثير في نفسه الأفكار المتجهمة فكرة حتمية الموت نتيجة لتجاربه اليومية التي لا يستطيع أن يبدها عن ذهنه، تلك الأفكار المتجهمة عن المنايا أو المنون يعني قوى المصير الذي يعمل بلا نظر وبدون وعي بهدفها، ومع ذلك هي قادرة حتماً على إنهاء كل ما يخططه الأحياء."(12)
        كان محمد [صلى الله عليه وسلم] معارضاً بقوة لهذه النظرة كلها تجاه الحياة في النظرة أو الممارسة. ويصف القرآن نظرة الذين يقولون (وما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر) (الجاثية 24) بأنها نظرة زائفة وعلى غير أساس ويجعل محتوى هذه القطة الأمر واضحاً بأن الهجوم ليس موجهاً ببساطة لنظرية تأثير الوقت ولكن طريقة الحياة كلها المبنية على إنكار يوم الحساب والحياة الأخرى. إنها بالفعل مثال آخر للمقولة القديمة." دعنا نأكل ونشرب ونكن سعداء لأننا سنموت غداً " ويؤكد القرآن بأن الإنسان لذي يعمل السيئات ويتخذه إلهه هواه سوف يعامل معاملة مختلفة عن الناس الصالحين.
        وعلى نقيض مفهوم المروءة وصف جولدزيهر موقف محمد [صلى الله عليه وسلم] على أنه دين، وربما يتفق مع معاصريه في تقدريهم للصدق، ولكنه يعارضهم في ممارستهم حيث مقابلة الشر بالشر، فقد دعا محمد [صلى الله عليه وسلم] إلى العفو ووضع حدوداً على تعاطي الخمر والزنا وقرر صلوات عدوها منافية للرجولة وتعمقت المعارضة في السلوك اليومي العادي.
        لم يكن مفهوم القرآن حول سمو الله ليخلو بالطبع من نتائج عملية. ولكن كان ذلك في الاتجاه الذي ينشئ إحساساً حقيقياً بالمخلوقية والاعتماد على الله والثقة به. ولكنها لا يمكن أن تقود إلى الجمود حيث إن الله هو الحق والذي أمر عبيده ليؤدوا أعمالاً متعددة وحكم عليهم بما فعلوا. وما يوصف وصفاً مناسباً بأنه موقف جبري –باستخدام قدة الله (أو المصير) كعذر للتملص من الواجبات العادية هو بوضوح أمر مذموم. وهناك وصف لأولئك الذين عندما أمروا أن يساعدوا الفقراء والمحتاجين قالوا:" أَ نُطعٍم من لو يشاء الله أطعمه) وبين بحساب مثل هؤلاء الخاطئين.
استنتاجات
        قد يصبح ممكناً في يوم من الأيام أن نوسع الشرح للنظرة حول عرب ما قبل الإسلام، ولكن في هذه اللحظة ليس كافياً أن نؤسس ارتباطاً مباشراً بين ذلك والمفهوم الوارد في السنّة. وما يمكن تأكيده، مع ذلك، أن الاتجاه المهيمن في السنّة أكثر شبهاً بجبرية ما قبل الإسلام أكثر منه مع الإيمان القرآني في حاكمية إله فعال وحي؛ وهذا التشابه واضح جداً بالنسبة للصفة اللاشخصية للقوى المسيطرة على مصير ا لإنسان.
         إن الافتراض الذي اقترحه لشرح هذه الحقيقة هو أن الموقف الجبري لمعاصري محمد [صلى الله عليه وسلم] استمر في أعماق قلوبهم أمداً طويلاً بعد دخولهم رسمياً في الإسلام، وظهر التعبير عنه فعلياً في السنّة. حيث إن تحولهم كان غالباً في الأساس شأنا خارجياً واسمياً، ولم يكن مستغرباً على الإطلاق. وهذا يعني أن السنة (الحديث)هو مزيج من كل الأفكار الإسلامية وما قبل الإسلام.
        ويؤيد هذا الافتراض أدلة من مصادر مختلفة. فقد وجدت محاولة للمماثلة بين الله والدهر(14) وقد تمت الإشارة من قبل بأن القوى الخارجية بارزة في السنّة(الحديث) حتى إنها تصل أحياناً إلى درجة عدم ذكر الله. ويُظهر فحص الأحاديث بالنسبة لموقفهم من الممارسة العملية في الحياة درجات مختلفة للتقارب مع الاتجاه الجبري بالتوقف عن العمل عندما يكون الدافع لذلك هو ميولهم الفردية.
        إن قصة الخلاف بين آدم وموسى [عليهما السلام] مثلاً، مسألة جبرية تماماً. فلا يمكن أن يكون الإنسان مسؤولاً عن أعماله، فمفهوم الأوامر السماوية تشجع مثل هذا الاستنتاج وكذلك الجملة التي تقول " إن ما أصابك لم يكن ليخطئك" ولكن هذا الميل إلى الجبرية قد خُفف عندما ينظر إلى الأوامر على أنها عمل ليس ناتجاً عن قلم خارجي بل عن إله عدل. وكذلك فالعبارة التي تقول ما أصابك لم يكن ليخطئك مع أنها لا شخصية في شكلها إلاّ أنه من الممكن إعطاؤها مغزى إسلامياً وتعود إلى مشيئة الله كما حدث بالفعل في إحدى عقائد المسلمين.
        إن الأحاديث التي وردت حول الأشياء التي كتبها المَلَك لكل جنين في الرحم أمر مختلف قليلاً (في روايات أخرى لم يذكر الله على أنه الذي أمر، وهناك إضافات مثل حياة الإنسان وعمله وهل سيكون سعيداً أو شقياً) وفي هذه الحالة لا يكون كل ما يعمله الإنسان مقدراً سوى تاريخ وفاته ومحصلة أو التأثير العام لنشاطاته. ومن الممكن أن هذه الجبرية لمخففة كان هي نظرة العربي العادي، وربما لم يكن عنده شك في مقدرته أن يخطط من يوم ليوم وينفذ هذه الخطط، ومع ذلك فقد كان يشعر بأنه سواء كانت خططه ناجحة أو لا وسواء كانت لسعادته أم لشقائه فإنها كانت مقدرة من جهة غامضة بصرف النظر تماماً عن رغباته. إن المحصلة النهائية للمفهوم هو تثبيط كل الجهود والسعي على أنه لا فائدة منه مادام أنه مهما فعل الإنسان فالنتيجة واحدة (ومرة أخرى وما يمكن أصلاً أن ينسب إلى هذه الحياة – السعادة والشقاء-يمكن إعطاؤه تفسيراً إسلامياً ويفهم على أنه الجنة أو النار.
        يبدو الحديث الذي ورد عن المحارب الذي انتحر أو الرجل الذي سبق عليه الكتاب محاولة لدمج القديم والجديد. ولم يقدم للمفهوم الإسلامي حول الحكم إلاّ كلاماً يجازي الإنسان بناء على آخر أعماله. ولكن هذه مُقدّرة عليه وفقاً لكتابه، وهكذا فالاتجاه الغالب جبري. وثمة مجموعة من الأحاديث المهمة التي تعالج هذه الصعوبة حيث إن وضع الإنسان النهائي قد حُدد فما أهمية عمل الخير؟
        " قال رجل يا رسول هل تعرف أهل الجنة من أهل النار. فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] (نعم) فقال الرجل: ولماذا يعمل الناس؟ فقال الرسول [صلى الله عليه وسلم] كل يعمل لما خُلق له أو لما سُخر له)
        عندئذ قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليس من روح لم يحدد الله مكانها في الجنة أو النار، واتخذ القرار حول السعادة أو الشقاء، وعند ذلك قال رجل: يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا ونترك العمل؟ فأجاب محمد [صلى الله عليه وسلم] (أيما رجل كان من أهل السعادة سيعمل بعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاء فسيعمل بعمل أهل الشقاء، وعندها قال (اعملوا أعمالك فكل ميسر فأهل السعادة ميسرون للعمل بعمل أهل السعادة، وأهل الشقاء ميسرون للعمل بعمل أهل الشقاء. وتلا [صلى الله عليه وسلم [( وأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى فسنيسره للعسرى)
        قال النبي [صلى الله عليه وسلم] (ليس من أحد لم يكتب مقعده في النار أو الجنة، فقال أحدهم: ألا نتكل (يعني لا نعمل شيئاً، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم] لا تفعل ذلك فكل مسخر، وتلا قوله تعالى (وأما من أعطى واتقى ...) الآية.
ويظهر في هذه الأحاديث محاولات للربط بين النظرية الجبرية والاعتقاد بمسؤولية الإنسان في الممارسة، ولكنه غير مقنع دائماً. ومما يستحق الملاحظة في الحديث الثاني الآيات القرآنية التي تجعل عمل الله تالياً لعمل الإنسان وتفسر بمعنى القضاء والقدر.
والأحاديث بالطبع أقل تجانساً من القرآن، فهناك حالات يكون الله بالفعل هو الذي يقرر ما يحدث للإنسان وليس أي قدر خارجي، وحيثما يكون الموقف العملي بالتالي ثقة دينية حقة بالله القوي الرحيم وإذعان صبور لإرادته.
وجاء رسول إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] برسالة من إحدى بناته بأن ابنها يوشك أن يموت، فأرسل النبي [صلى الله عليه وسلم] رسالة بأن لله ما أخذ ولله ما أعطى ولكل أجل كتاب، وأمرها بالصبر والتحمل"
وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: قال إن الله أرسله عقوبة لمن يشاء ورحمة للمؤمنين، فأيما عبد لله كان في مكان وبقي هناك صابراً مؤمناً بأنه لن يصيبه إلاّ ما كتب الله له يكن له أجر الشهيد. (16)
إن تأكيد فنسك Wensinck بأن "السنة لم تحتفظ بأي حديث يدعو إلى الحرية الحتمية صحيح أساساً، ولكنه بالتأكيد كاسح جداً، لقد كنا نهتم على الأقل بالمحاولات الأولية للاعتراف بالمسؤولية البشرية، وانظر أيضا إلى مثل هذا القول للرسول[صلى الله عليه وسلم] (لا يوجد خليفة إلاّ وله بطانتان إحداهما تأمره وتدعوه للخير والأخرى تدعوه إلى الشر، والمعصوم هو الذي يعصمه الله)(17) والقصد من هذا القوم (كما في المفاهيم كأمثال نعمة الله في القرآن هو بلا شك لتطمين البشر بأنهم ليسوا ممنوعين عن عمل الأعمال الصالحة بأي مصير متعذر اجتنابه ولكن على العكس هناك قوى الكون تساعدهم وبالتالي فإن سعيهم الأخلاقي لن يذهب سدى.
وإذا أخذنا هذا الدليل على أنه تأسيس للافتراض الذي ذكر آنفا فيتبع ذلك أن السنة تعطينا صورة للصراع بين أخلاقيات القرآن الفعالية والمفاهيم الجبرية المفروسة بعمق في الروح العربية، وفي المقام الثاني بين المفهوم القرآني لله صاحب المشيئة الفعالة والأخلاق الجبرية للرجولة وعدم العمل. ولا يمكننا إلاّ أن نتأثر بالأثر العنيف لرسالة محمد [صلى الله عليه وسلم] وروحه على جيله والأجيال التي تلته ومع ذلك لم يكن كافياً لطرد الأفكار المستقرة بقوة والموجودة سابقاً. إن الاعتقاد بالله القوي العادل في دار الإسلام قد كان في حرب مع الاعتقاد بالمصير الخارجي ومع حظوظ متعددة واستمرت المعركة حتى يومنا هذا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الطبعة: الرابعة. الناشر: دار المعارف بالقاهرة (تاريخ بدون). عدد صفحات الكتاب: 219 صفحة من القطع المتوسط. إعداد: مازن صلاح المطبقاني في 6 ذو القعدة 1407هـ 2 يوليه 1987م بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : يتحدث فيها المؤلف عن معنى التاريخ، وهل هو علم أم فن، ثم يوضح أهمية دراسة التاريخ وبعض صفات المؤرخ وملامح منهج البحث التاريخي. معنى التاريخ: يرى بعض الكتاب أن التاريخ يشمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون بما يحويه من أجرام وكواكب ومنها الأرض، وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ومثال على هذا ما فعله ويلز في كتابه "موجز تاريخ العالم". وهناك رأي آخر وهو أن التاريخ يقتصر على بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض.       وكلمة تاريخ أو تأريخ وتوريخ تعنى في اللغة العربية الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ودقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمن من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله الم...

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

                                      بسم الله الرحمن الرحيم                                  ما أصدق بعض الشعر الجاهلي فهذا الشاعر يصف حال بعض القبائل العربية في الغزو والكر والفر وعشقها للقتال حيث يقول البيت:   وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا. فهم سيقومون بالغزو لا محالة حتى لو كانت الغزوة ضد الأخ القريب. ومنذ أن نزل الاحتلال الأجنبي في ديار المسلمين حتى تحول البعض منّا إلى هذه الصورة البائسة. فتقسمت البلاد وتفسخت إلى أحزاب وفئات متناحرة فأصبح الأخ القريب أشد على أخيه من العدو. بل إن العدو كان يجلس أحياناً ويتفرج على القتال المستحر بين الاخوة وأبناء العمومة وهو في أمان مطمئن إلى أن الحرب التي كانت يجب أن توجه إليه أصبحت بين أبن...

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية

                             يردد الناس دائما الأثر المشهور :(من تعلّمَ لغةَ قوم أمن مكرهم أو أمن شرَّهُم) ويجعلونها مبرراً للدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية أو اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. فهل هم على حق في هذه الدعوة؟ نبدأ أولاً بالحديث عن هذا الأثر هل هو حديث صحيح أو لا أصل له؟ فإن كان لا أصل له فهل يعني هذا أن الإسلام لا يشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟ وإن كان صحيحاً فهل الإسلام يحث ويشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟         لنعرف موقف الإسلام من اللغات الأخرى لا بد أن ندرك أن الإسلام دين عالمي جاء لهداية البشرية جمعاء وهذا ما نصت عليه الآيات الكريمة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سبأ آية 28) وقوله تعالى { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } (الأنبياء آية 107) وجاء في الحديث الشريف (أوتيت خمساً لم يؤتهن نبي من قبلي، وذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). فهل على العالم كـله أن يعرف اللغة العربية؟ وهل يمكن أن نطالب كلَّ...