التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عن أمّي رحمها الله ورحم أبي وأموات المسلمين

هذه خواطر كتبتها في تلك الليلة بعد أن شهدت اللحظات الأخيرة من حياة أمي وهي في غرفة العناية المركزة وقد ربطت كل الأجهزة الممكنة لمساعدتها في مواجهة الآلام وفشل الأعضاء التي ناءت بالسنين الطوال حيث إن والدتي رحمها الله عاشت ما يزيد على تسعين سنة، وكانت واعية حافظة مرحة محبة للخير حتى آخر أيامها. وقد أكرمني الله أن أزورها يوم الخميس الماضي -قبل وفاتها- وأجلس معها ، ثم جاءني الخبر بدخولها المستشفى يوم الأحد فعدت إلى المدينة يوم الاثنين بالسيارة بعد أن أخفقت في الحصول على مقعد في الطائرة سواء السعودية أو غيرها، فتساءلت قل لي بربك لمن الطائرات؟ من المحظوظ الذي يعرف كيف الحصول على مقاعدها.
وإليكم تلك الخواطر:
أين أمي لن أراك بعد اليوم،
لن يكون هناك من أناديه (يمّا) على الطريقة الأردنية الكركية فلم أتخل عنها،
من أقول له بعد اليوم: قوِّك، شلونك، ما يغبر لونك؟
ومن سأكون حبيب قلبه بعد اليوم؟
ومن سيبتسم لي مثل ابتسامتك بعد اليوم؟ لقد كنت مجال تندر اخواني واخوتي (مازن حبيب القلب، وتضيف إحداهن حبيب القلب مازولا)
أمي رحمك الله وغفر لك وأسكنك فسيح جناته.
رحلت بهدوء وسكينة.
ومن الذي سيدعو لي بعد اليوم؟ تلك الدعوات التي لا يعرفها إلاّ هي: الله يعطيك حتى يرضيك"، "الله يعطيك في الدنيا والآخرة"
كم كنت أتعجب من أين تعلمت أمي هذه الدعوات، ولكنها الفطرة السليمة النقية والنفس الصافية والحب الخالص
ومع ذلك أتساءل هل كنت عنّي راضية؟ هل استطعت أن أنال رضاك يا أمي؟
أزعم أنني حاولت وأعرف أنني مهما حاولت فلن أبلغ كما قال عمر بن الخطاب لذلك الرجل زفرة من زفرات الولادة أو طلقة، نعم وكل ما فعلت لا يساوي دموعك حين كنت أمرض صغيراً أو عندما أصبت بالحمى الشوكية.
عجيب أمرك يا أمي كنت أسمع دعاءك (اللهم اجعل يومي قبل يومهم، وتضيف لا تذوقني حسرتهم)، أي لا أريد أن أتحمل حسرتهم.
كنّا نقف بجوار سريرك في المستشفى نرقب الأجهزة التي أوصلوها لتساعد قلبك أن ينبض والجهاز الآخر ليوصل الهواء إلى الرئتين اللتين فشلتا في العمل، وأجهزة أخرى لتقيس الضغط والنبض. وأنابيب تمتد من كل اتجاه.
كنّا نرقب عيونك مفتوحة ثم عيونك مغلقة أو مغمضة، حتى إذا دنت الوفاة لم تحتاجين إلى من يغمض لك عينيك فقد كانتا مغمضتين أي لم تكوني تتابعين الروح أو تتشبثين بالدنيا، لقد خرجت الروح دون أن نشعر.
قاتل الله الأجهزة..... كانت عيوننا محدقة بالأجهزة ينخفض النبض، ينخفض الضغط يتناقص تدريجياً حتى أصبح خطاً مستقيماً على درجة الصفر، أسرع إلينا الأطباء يقولون تعالوا إنها اللحظات الأخيرة التي يعرفونها ولا نعرفها نادونا بطريقة ميكانيكية آلية، كأنه جهاز من الأجهزة قد تعطل وليس إنساناً يفارق الحياة ويفارق أهله وأحبابه بلا رجعة وداع لا لقاء بعده.
يا للموت كم له من هيبة ورهبة، كنت أخفض رأسي لا أنظر إلى أمي خوفاً من أن أرى ما يخيفني وأن أرى نزع الروح الذي أقرأ عنه في تفسير والنازعات غرقاً والناشطات نشطا، وكأني والله أعلم كانت أقرب إلى الثانية، كنت أمسك بيدك وبعد قليل تتحرك يدك وكأنك تقولين: أنا ويدي وكلي لم أعد ملكاً لكم إنني من عالم آخر.
وتنخفض الأرقام ويعلن الأطباء أن أجهزتهم لا تنفع ولا تقدم ولا تؤخر فيحثونا على ذكر الشهادتين أمامها، وتحرك أمي شفتيها ولا ندري ما تقول نتخيل أنها تردد أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، تمنيت لو كنت أستطيع أن أقولها نيابة عنها فيقبلك ملك الملوك، ولكن، لماذا أفكر كثيراً فأنت تقدمين على أرحم الراحمين، إنك تقدمين على من وسعت رحمته كل شيء.
أنت ضيفة الكريم، ومن أكرم من الخالق سبحانه وتعالى، وهل يطلب من الكريم أن يكرم ضيفه، ولكننا نأمل ونطمع أن تكونين أهلاً لكرمه ولطفه ليشملنا بلطفه بعد أن حققنا أوامره سبحانه وتعالى بالإحسان إلى والدينا في الدنيا والدعاء لهما،
(وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً)
أمي، يمّا نداء لن أستطيع التلفظ به بعد اليوم،
لن أراك لأبتسم لك أو لأضحك معك، لن أستطيع أن اخترع شيئاً لتضحكي،
ها أنت يا أمي قد ذهبت وأنا قد أعطيت اثنتين وستين سنة اختبار مستمر أو أقل قليلاً بعد أن أصبحت مكلفاً، ماذا كانت درجاتي في ذلك الامتحان؟ أشعر أحياناً أنني كنت ناجحاً وأحياناً كثيرة تمنيت أن أستطيع أن أفعل أكثر لأمي، ولكنها كانت رحمها الله كريمة تغدق عليّ من رضاها وحبها فلا تجد فرصة حتى تعلن حبها لي ورضاها عنّي ويعلم الله أنني كنت مقصراً ولكنها كانت كريمة كريمة
والآن فقط سأعرف إن كنت ناجحاً أو فاشلاً، فكما قال عليه الصلاة والسلام (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) فهل أجد البر من أبنائي، هل يكرمهم الله عز وجل بالبر بي وبوالدتهم؟

هذا ما كتبته في اليومين بعد وفاة أمي ولها في نفسي ذكريات وذكريات وفي حياتي معها دروس ودروس أتركها لمقالة أخرى إن شاء الله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الطبعة: الرابعة. الناشر: دار المعارف بالقاهرة (تاريخ بدون). عدد صفحات الكتاب: 219 صفحة من القطع المتوسط. إعداد: مازن صلاح المطبقاني في 6 ذو القعدة 1407هـ 2 يوليه 1987م بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : يتحدث فيها المؤلف عن معنى التاريخ، وهل هو علم أم فن، ثم يوضح أهمية دراسة التاريخ وبعض صفات المؤرخ وملامح منهج البحث التاريخي. معنى التاريخ: يرى بعض الكتاب أن التاريخ يشمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون بما يحويه من أجرام وكواكب ومنها الأرض، وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ومثال على هذا ما فعله ويلز في كتابه "موجز تاريخ العالم". وهناك رأي آخر وهو أن التاريخ يقتصر على بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض.       وكلمة تاريخ أو تأريخ وتوريخ تعنى في اللغة العربية الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ودقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمن من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله الم...

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

                                      بسم الله الرحمن الرحيم                                  ما أصدق بعض الشعر الجاهلي فهذا الشاعر يصف حال بعض القبائل العربية في الغزو والكر والفر وعشقها للقتال حيث يقول البيت:   وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا. فهم سيقومون بالغزو لا محالة حتى لو كانت الغزوة ضد الأخ القريب. ومنذ أن نزل الاحتلال الأجنبي في ديار المسلمين حتى تحول البعض منّا إلى هذه الصورة البائسة. فتقسمت البلاد وتفسخت إلى أحزاب وفئات متناحرة فأصبح الأخ القريب أشد على أخيه من العدو. بل إن العدو كان يجلس أحياناً ويتفرج على القتال المستحر بين الاخوة وأبناء العمومة وهو في أمان مطمئن إلى أن الحرب التي كانت يجب أن توجه إليه أصبحت بين أبن...

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية

                             يردد الناس دائما الأثر المشهور :(من تعلّمَ لغةَ قوم أمن مكرهم أو أمن شرَّهُم) ويجعلونها مبرراً للدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية أو اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. فهل هم على حق في هذه الدعوة؟ نبدأ أولاً بالحديث عن هذا الأثر هل هو حديث صحيح أو لا أصل له؟ فإن كان لا أصل له فهل يعني هذا أن الإسلام لا يشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟ وإن كان صحيحاً فهل الإسلام يحث ويشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟         لنعرف موقف الإسلام من اللغات الأخرى لا بد أن ندرك أن الإسلام دين عالمي جاء لهداية البشرية جمعاء وهذا ما نصت عليه الآيات الكريمة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سبأ آية 28) وقوله تعالى { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } (الأنبياء آية 107) وجاء في الحديث الشريف (أوتيت خمساً لم يؤتهن نبي من قبلي، وذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). فهل على العالم كـله أن يعرف اللغة العربية؟ وهل يمكن أن نطالب كلَّ...