عطاءات
نثرية
كيف إذا قيل لك بعد أن أمضيت في مهنة من
المهن مدة عشر سنوات أو أكثر وحققت فيها نجاحا يشهد به سجلك الوظيفي ويعترف به
القريب والبعيد: إنك مدعو إلى تغيير مهنتك؟ كيف تتقبل مثل هذا الأمر؟ هل مثل هذه
الفكرة خطرت لك ببال، أم تعدها من بنات الخيال؟
قبل عشرين سنة تقريبا كان أحمد طالبا
مبتعثا ليدرس في الولايات المتحدة الأمريكية تخصص الإدارة الصناعية، وما كان حينها
يعرف ما الإدارة الصناعية؟ ولكنه علم أن تغيير التخصص ليس بالأمر الصعب، ولعل من
محاسن نظام الدراسة هناك أن الطالب يدرس في السنتين الأوليين مواد عامة من جميع
التخصصات يطلقون عليها (متطلبات جامعة) وهناك مواد اختيارية أخرى حسب الكلية تعطي
الطالب فرصة إضافية لاختيار التخصص المناسب.
المهم
أن أحمد اختار أن يدرس مادة علم النفس كمادة اختيارية رغم تخرجه في الثانوية في
الفرع العلمي ولم يقرأ قبلها كتاب علم نفس واحد، ولكن التغيير الذي يطرأ على حياة
الطالب عندما ينتقل من إحدى الدول النامية إلى العالم الجديد قد يجعل منه شخصا
آخر، ولتأكيد اهتمامه بهذه المادة اشترك أحمد بمجلة شهرية هي ((علم النفس اليوم))
(Psycology Today)
وكان يقرأ بعض الموضوعات حتى قرأ في يوم من الأيام مقالا أو دراسة بعنوان ((تغيير
المهنة في منتصف العمر)) فتعجب من الأمر حينئذ ولكنه لم يعر الأمر اهتماما كبيرا
فمازال في المرحلة الجامعية ولم يتوصل بعد إلى اختيار مهنة معينة فماله إذن وتغيير
المهنة؟!
عاد أحمد من أمريكا بعد أن أمضى خمس
سنوات درس خلالها كل شيء ولا شيء! درس الكيمياء، والفيزياء، والرياضيات، وعلم
النفس، والجغرافيا، والأدب الإنجليزي. ولكنه توصل في نهاية المدة أن لا فائدة من
الاستمرار ونظرا لغياب الأستاذ الموجه والناصح الأمين فقد وقع أحمد فريسة لصراع فكري
بين طلب الشهادة أو طلب العلم، ودخل سلك العمل الإداري بلا شهادة ولكن تجربة البحث
عن وظيفة أقنعته عمليا بضرورة الحصول على شهادة.
أعطى أحمد وظيفته كل طاقته وفكره فقد كان
الجو العام مشجعا على ذلك، فالعمل في الخطوط الجوية وبالذات في مجال النقل الجوي
مجال واسع لتعلم قضايا كثيرة في القانون الدولي وفي الدبلوماسية وفي الرحلات والاتصال
بشركات الطيران المختلفة. فالوظيفة نفسها جامعة.
لم يشغل أحمد عمله الجديد عن طلب العلم
والشهادة. ففي خلال أربع سنوات حصل على الدرجة الجامعية في الآداب – قسم التاريخ-،
وحرص على الانتقال للعمل معيدا في الجامعة لكنه لم يحصل على الوظيفة لأسباب كثيرة،
فواصل الدراسة منتسبا حتى حصل على درجة الماجستير في المجال نفسه.
وهنا فكر جديا في الانتقال إلى العمل في
الجامعة في وظيفة محاضر ليستطيع مواصلة دراسته نحو الدكتوراه، وكان هذا الانتقال
تغييرا في المهنة فعلا، وأول أوجه التغيير أنه لم يعد مطالبا بالحضور يوميا من
السابعة والنصف صباحا حتى الثالثة والنصف بعد الظهر ، ولكن أصبحت ساعات العمل تشمل
النهار كله . ومازال أحمد يذكر أن أول محاضرة كلف بإلقائها كانت في التاريخ
الإسلامي للمستوى الجامعي الثالث وكانت حول الخلافة الإسلامية، فرجع إلى أكثر من خمسة
مراجع ليفهم الموضوع، وزيادة في الاهتمام اشترى آلة تسجيل ليراجع نفسه بعد
المحاضرة.
ولكن هيبة الأمر أنسته آلة التسجيل
وأنسته كثيرا من المعلومات التي حفظها بل أصبح موضوع المحاضرة في المرتبة الثانية
بعد الحرص على أن يكون طبيعيا أثناء إلقاء المحاضرة، وأن يتكلم بلغة سليمة وأن
يوزع نظراته بين الطلاب، وغير ذلك مما يحتاجه المحاضر ليترك انطباعا جيدا لدى الطلاب،
ومع مرور الأيام بدأ يعتاد الوظيفة الجديدة وإن كانت هيبة الوقوف أمام الطلاب لا تزول
تماما وبخاصة إذا أراد المدرس أن يكون مجيدا في عمله.
وبدأ أحمد ينسجم في عمله الجديد كأنه لم
يخلق إلا لهذا العمل (التدريس والكتابة والتأليف) فما كاد يستقر في عمله الجديد
حتى شرع في إعداد رسالته للماجستير للطباعة. ثم شرع في تأليف آخر وكان بعد صدور
كتابه الأول يخشى أن يكون كما يقولون -بيضة الديك-ولكن لم تمض أشهر حتى أعلن صدور
كتابه الثاني فالثالث والرابع... وهكذا ففي خلال بضع سنوات أصدر سبعة كتب، وحاضر
في النادي الأدبي في مدينته وأجاب دعوات لندوات دولية عقدت في الخارج.
ومن العوامل التي تؤدي إلى تغيير المهنة
في منتصف العمر أن الميول الحقيقية والمواهب تحتاج زمنا لكي تظهر واضحة جلية، أو
قد يجد المرء في وظيفته الحالية مصادمة لميوله ورغباته. أما ما يؤخر تغيير المهنة
لدى الكثيرين منا فهو الخوف من المستقبل ونقص الشجاعة في مواجهة المهنة الجديدة.
وبعد هذه التجربة التي عرضتها هنا أقول:
إن تغيير المهنة في منتصف ليس أمرا سيئا أو أمرا يجب أن نخشى وقوعه، بل إن هذا
التغيير قد فتحا كبيرا يجد الانسان من خلاله نفسه ويطور مواهبه وقدراته، وقد يكون
مجالا لأبواب من الرزق ما كانت لتفتح لولا هذا التغيير .
وخلاصة
القول إن المسلم مطالب بإتقان عمله وقد يصعب أحيانا أن يتقن الانسان عملا لا يحبه.
والمسلم مطالب أيضا أن يبتغي وجه الله عز وجل في كل ما يعمل ويدع حتى في مجال
الوظيفة أو المهنة التي يختارها.
رمضان
1412هـ المجلة العربية ص107
العدد
176مارس ابريل 1992
تعليقات
إرسال تعليق