بسم
الله الرحمن الرحيم
تقديم :
يهدف
هذا البحث([1]) إلى
عرض صور من كفاح العلماء المسلمين الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي. ومن خلال هذا
العرض يحاول الباحث الإجابة عن بعض التساؤلات حول موقف العلماء من العمل السياسي ،
وتوضيح مكانة العلماء في قيادة الأمة التي أشار إليها الأستاذ محمد قطب في مقولته
التي جاء فيها:" لقد كان علماء الدين في تاريخ هذه الأمة هم قادتها وموجهيها
، وهم ملجأها كذلك إذا حزبهم أمر وملاذها عند الفزع."([2])
وكما
كان العلماء هم قادة الأمة ومرشديها في أمورها السياسية والاجتماعية والاقتصادية
والفكرية والروحية،كذلك كانوا دعاتها إلى الجهاد كلما حدث على الأمة عدوان
يذكرونها بالله وباليوم الآخر، وبالجنة
وبالنار، وكانوا يشاركون في الجهاد بأنفسهم
أحياناً بل يقودون الجيوش بأنفسهم أحياناً ([3])
ولما
ابتعد العلماء عن الساحة أصبحت القيادة في يد مجموعة من الزعماء العلمانيين الذين
صاغهم الاستعمار والغزو الفكري الذين أخذوا يطالبون بحقوق الجماهير، ويطالبون أن
تكون الأمة مصدر السلطات، وأن يكون للحاكم حدود يلتزم بها ولا يتجاوزها.([4])
وحين أصبحت القيادة في يد هؤلاء فإن من حقنا أن
ندعو العلماء للعودة إلى القيادة بعد أن يستعدوا لها و يبغونها لوجه الله لا لمطمع
دنيوي أو مصلحة شخصية. وسيكون الحديث في
هذا البحث عن ثلاثة علماء هم: الشيخ عبد الحميد بن باديس ([5])،
والشيخ البشير الإبراهيمي ([6])
والشيخ الطيب
العقبي.([7])
نذكر بعضاً من مواقفهم العلمية والقولية مما يساعدنا على فهم موقف العلماء في
الكفاح ضد الاحتلال الفرنسي ومن العمل السياسي بعامة.
لئن
ابتعد العلماء المسلمين من ذوي الاختصاص في العلوم الشرعية عن السياسة في القرن
الأخير، فإن لنا في ماضي هذه الأمة ما يؤكد لنا ممارستهم للسياسة بكل ما تعنيه
هذه الكلمة. ألم يكن الإمام السنوسي رحمه الله يعمل مع تلاميذه-ولا أبالغ إن قلت
النخبة من شعبه-يوماً في مزارع الزاوية وفي يوم ثان يتعلمون صناعة من الصناعات،
وفي يوم ثالث يتدربون على الفروسية والقتال ([8]).
ألَم يؤسس الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله جمعية التربية والتعليم بقسنطينة
ويلحق بها مصنعاً للنسيج، ويثبت في نظامها الأساسي تعليم الصنائع وإرسال بعض
أبنائها إلى المعامل الكبرى للتعلم والتدريب.([9])
وقد
يبدو للبعض أن العلماء قد ابتعدوا عن السياسة والعمل فيها لأن السياسة قد أضحى لها
مفهوم عجيب، لأننا أخذنا هذا المفهوم من اللغات الأوروبية التي تربط السياسة
بالخداع والغش والكذب والمناورة. وننقل هنا ما استشهد به أحمد لطفي من كلام أحد
المفكرين الغربيين:" إن أدب السياسة الدولية هو أدب القرصان، أدب الخداع…فأين
أدب السياسة والسياسيين ،وإلى أي شيء مرده، إلى محكمة الضمير وقد جرى العرف على
أن السياسة لا ضمير لها.([10])ولنلتفت
الآن إلى تعريف لفظ السياسة في اللغة العربية فهي تدل على الرعاية والاهتمام
والمداراة .وقد جاء في لسان العرب أن كلمة سياسة معناها القيام على الشيء بما
يصلحه([11]).
وقد عرفها المقريزي في خططه أنها " القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح
وانتظام الأحوال" ([12])وقال
أبو البقاء: "السياسة استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل
والآجل".([13]).
وأما زعمهم أن السياسة هي فن الغش والكذب فليس في حياة المسلم أي مكان لذلك حتى إن
الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالصدق وحث عليه و حذّر من الكذب في أحاديث كثيرة
منها قوله صلى الله عليه وسلم (وعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر
يهدي إلى الجنة وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإياكم
والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما زال الرجل يكذب
ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابا)([14]).
وقد أصبحت السياسة في عصرنا علماً مستقلاً له
مناهجه وبحوثها المختلفة، وتطورت المفاهيم وتعقدت حتى إن تعرف السياسة أصبح هو
الآخر يعكس هذا التطور والتعقيد، وفي ذلك يقول أحد الباحثين إنّ السياسة أو مفهوم
السياسي بأنه: "مجموعة العلاقات التي تتناول الحكم والسلطة."([15])
ويعرض هذا الباحث لأقوال العلماء الغربيين من أرسطو وماكس فيبر وغيرهما ويضيف
قائلاً:" إن السياسة إنما تتعلق أساساً بالأفكار والمبادئ اللتين تكونان
الجسم (العقدي) الذي يصنع القرارات في داخل الجماعة، وبما يتضمنه من مؤسسات
سياسية رسمية وغير رسمية والتي يناط بها ممارسة المسؤوليات العامة."([16])
ولئن
لم يتطور لدى المسلمين علم بالمعنى المفهوم لدى الغرب اسمه "علم
السياسة" فإن الفقه الإسلامي وهو العلم الذي يشمل السياسة وغيرها يضم في
فروعه ما يسمى (السياسة الشرعية) أو ما يطلق عليه "الأحكام السلطانية"
وهذه تتعلق بالدولة وأجهزتها ومؤسساتها ، ومسؤولية كل جهز وكل مؤسسة، ولا نود أن نطيل
في هذه القضية، فنقول إن من التعاريف الدقيقة لما هو سياسي أو سياسة ما كتبه أحد
الباحثين المسلمين: "إنما السياسة هي الإدارة العامة لشؤون الناس، إما تفضي
إلى عدل أو إلى ظلم ، والقرار السياسي-في محصلته النهائية-هو الذي يحدد طبيعة
السكن الذي نسكنه، وطبيعة الطريق الذي نعبره، وطبيعة الجريدة التي نقرؤها، وطبيعة
المذياع الذي نسمعه، وطبيعة التلفاز الذي نشاهده، وكمية الدراهم التي نحملها في
المحفظة."([17])
فإذا
كان هذا هو تعريف السياسة في اللغة وفي الاصطلاح وكيف أن الإسلام دين يدعو إلى
الصدق والأمانة والتقوى فما موقف العلماء من العمل في السياسة؟ هل كانوا يفهمون
السياسة وهل عملوا في الميدان السياسي .وهل كان يحق لهم أن يعملوا في السياسة؟ هذه
أسئلة كبيرة وخطيرة ولا أزعم أنني وجدت الإجابة عنها جميعاً ولكني سأقف عند بعض
المواقف والأقوال في حياة العلماء لعلنا نجد شيئاً من الإجابة عنها أو بعضها.وفيما
يأتي نبذة من مواقف وأقوال بعض علماء الجزائر لتوضيح مواقفهم من الاحتلال الفرنسي
ومن العلم السياسي.
أولاً :
عبد الحميد بن باديس .
كتب الشيخ عبد الحميد بن باديس في السياسة
كثيراً،وقد عدّها جزءاً مهما من نشاطه الإسلامي، وفيما يأتي بعض هذه الأقوال:
مشاركة العلماء في
السياسة عند ابن باديس:
لا
شك أن نشاط ابن باديس السياسي أثار استنكار الحكومة الفرنسية وإدارتها الاستعمارية
في الجزائر، بالإضافة إلى بعض الجزائريين الذين تأثروا بالفكر الفرنسي ،فكتب ابن
باديس يرد على هذا الاعتراض قائلاً: "ثم ما هذا العيب الذي يعاب به العلماء
المسلمون إذا شاركوا في السياسة، فهل خلت المجالس النيابية الكبرى والصغرى من رجال
الديانات الأخرى؟ وهل كانت الأكاديمية الفرنسية خالية من آثار الوزير القسيس
رشليو؟ أيجوز الشيء ويحسن إذا كان هناك ويحرم ويقبح إذا كان من هنا؟ كلا لا عيب
ولا ملامة، وإنما لكل امرئ ما اختار ويمدح ويذم على حسب سلوكه في اختياره."([18])
ويقول
ابن باديس حول واجب العلماء في المجتمع:" وهكذا فالإسلام لا يحجر على العلماء
التدخل في أي شأن من شؤون العامة-كما يزعم البعض في هذه البلاد بل هم أولى من
غيرهم بذلك، وهم رعاة الأمة المسؤولون، وليس لغيرهم أن يستهجن فعلهم أو يلومهم
إذا هم قاموا بما يجب عليهم نحو أمتهم ، وليست مهمة العالِم في الإسلام قاصرة على
التدريس والإرشاد فقط-وبعد فهل كان العلماء في كل أمة وفي كل عصر إلا قادة الفكر
والسياسة والدين؟"([19])
وهنا
نود أن نشير إلى التشابه الكبير بين ما قاله ابن باديس وما كتبه الأستاذ محمد قطب، وإن كان هناك اختلاف فهو أن الأستاذ محمد قطب يحاول أن يبحث عن جذور المشكلة
التي أدت إلى إقصاء العلماء عن ميدان القيادة الفكرية والسياسية، وابن باديس يحارب
من أجل أن يؤكد هذه المكانة، وقد تسنمها رحمه الله بكل جدارة، فكان زعيماً وقائداً وعالِماً.
ويواصل
ابن باديس تأكيد مكانة العلماء السياسية ، فلم تكن السياسة في نظره حراماً على
العلماء وحقاً واجباً على غيرهم. فحين دعي للمشاركة في حفل علمي في تونس سنة خمس
وخمسين وثلاثمئة وألف للهجرة (سنة سبع وثلاثين وتسعمئة وألف للميلاد) وطُلب إليه
أن يتحدث عن أحوال الجزائر العلمية والثقافية ،أبى أن يتحدث عن العلم والثقافة
وحدهما، وتحدث في السياسة ليترك لنا الدرس الذي لم يتعلم في حينه. ولكن الأمة
تتعلمه تدريجياً . فما ذا قال ابن باديس؟ "وكلامنا اليوم عن العلم والسياسة
معاً، وقد يرى بعضهم أن هذا الباب صعب الدخول لأنهم تعودوا من العلماء الاقتصار
على العلم والابتعاد عن مسالك السياسة مع أنه لابد لنا من الجمع بين السياسة
والعلم ، ولا ينهض العلم إلاّ إذا نهضت السياسة بجد."([20])
ولعلنا
ندرك العلاقة بين العلم والسياسة لو عدنا إلى التاريخ الإسلامي المجيد يوم جعل
الرسول صلى الله عليه وسلم فدية أسرى بدر تعلمي أطفال المسلمين القراءة والكتابة.([21])
ويوم قال النبي صلى الله عليه وسلم (طلب العلم فريضة على كل مسلم)([22]).
ويزدهر العلم في ظل الدولة الإسلامية حينما كان الخلفاء يشجعون العلم ، ويمكننا أن
ندرك ذلك بطلب هارون الرشيد رحمه الله من أبي يوسف أن يكتب له كتاباً في الخراج.([23]) أما في عصرنا الحاضر فإن الدول المتقدمة تهتم
بالعلم والعلماء حتى رأينا كيف تقدم الجامعات الأوروبية والأمريكية الدراسات
والبحوث لرؤساء تلك الدول لتكون مرشداً لهم في سياستهم ،وكم عالم سياسي،وكم سياسي
عالم.([24])
أليس
حديث ابن باديس هذا سبق عصره ، وإن لم يكن سبقاً بالمعنى الإسلامي ، فقد عرف
تاريخنا قادة علماء. ولو تركنا عهد الراشدين رضوان الله تعالى عليهم واتجهنا إلى
الدولة الأموية لوجدنا عبد الملك بن مروان الذي يعد من الفقهاء، وكذلك كان عمر بن
عبد العزيز، وحتى في أواخر عهد الدولة العثمانية فخليفتها العظيم السلطان عبد
الحميد الثاني وقبله محمد الفاتح ما كانا إلاّ عالمين قائدين. ولكن لمّا أصبح العلم مطية للسياسة فقد العلم
هيبته وسطوته.
[1]-
قدم هذا الموضوع في الندوة الدولية التي دعا إليها المجلس الشعبي البلدي بمدينة
قسنطينة في الجزائر بعنوان (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأثرها في الحياة
السياسية والثقافية في الجزائر) في الفترة من 10إلى12 رمضان 1409 الموافق 16-18
أبريل 1989م.
[5]
- عبد الحميد بن باديس هو عبد الحميد بن محمد بن المصطفى بن مكي بن باديس، ولد
بقسنطينة في 11 ربيع الثاني 1307 الموافق 4 ديسمبر 1889، من عائلة عريقة في الحسب
والنسب، تلقى تعليمه الأولي في قسنطينة على أيدي الشيخ محمد الماداسي حيث حفظ
القرآن الكريم. وتلقى اللغة العربية والفقه على الشيخ حمدان الونيس ثم توجه إلى
الزيتونة وهو في الثالثة عشرة من عمره حتى نال شهادة التطويع. عاد إلى الجزائر
وبدأ التدريس في الجامع الكبير ثم الجامع الأخضر ومسجد سيدي قموش. شارك في الكتابة
بجريدة النجاح ثم لمّا وجدها لا تتحمل نشر فكره أنشأ جريدة المنتقد عام1925. انتخب
رئيساً لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين عند تأسيسها سنة 1349هـ (1931م) وظل
رئيساً لها حتى وفاته في 9 ربيع الأول 1359هـ الموافق 16 أبريل 1940
[6]
- الشيخ البشير الإبراهيمي ولد في أولاد سيدي إبراهيم شرق الجزائر عام 1889م
(1307) تلقى تعليمه في بلده على يد والده وعمه ،ثم هاجر مع والديه إلى المدينة
المنورة عام 1329هـ(1911م) وفي المدينة المنورة أكمل تعليمه . غادر المدينة
المنورة إلى سوريا عام 1334(1916) حيث ازداد علما،كما بدأ في إلقاء الدروس
العلمية في الجامع الأموي. عاد إلى الجزائر عام 1920م،وبدأ حركته العلمية .عندما
تأسست جمعية العلماء كان نائبها في الغرب الجزائري ومقره تلمسان.تولى رئاسة
الجمعية بعد وفاة ابن باديس وظل رئيساً لها حتى انضمت إلى جبهة التحرير الوطني،
وكان ممثل الجبهة في المشرق، وعاد إلى الجزائر بعد استعادة الاستقلال، توفي عام
1386هـ( 1966م)
[7]
- الطيب العقبي:هو الطيب بن محمد بن إبراهيم العقبي ولد في بلدة سيدي عقبة في شوال 1307( 1890) هاجر مع أسرته إلى المدينة
المنورة وهو ابن خمس أو ست سنوات ،تلقى تعليمه في الحرم النبوي الشريف حتى أصبح
معلّماً فيه .نفاه الأتراك لاتهامه بتأييد القومية العربية ،عينه الشريف حسين بعد
عودته من المنفى محرراً في جريدة القبلة .عاد إلى الجزائر عام 1327هـ(1920) ليعمل
في مجال الإصلاح سواءً بالخطابة أو الكتابة .أسس جريدة صدى الصحراء وجريدة
الإصلاح ، وكان من الأعضاء المؤسسين
لجمعية العلماء المسلمين واختير ليكون ممثلها في العاصمة.
[10]
-أحمد لطفي السيد .قصة حياتي ،ص 200 نقلاً عن ألدوس هسكلي ، وللتوسع في هذه
النقطة انظر ميكيافيللي .الأمير والمطارحات السياسية وغيرها.
[13]
- أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوى .الكليات :معجم في المصطلحات والفروق
اللغوية. نقلاً عن سعدي أبو حبيب .دراسة في منهاج الإسلام السياسي .(بيروت:1406-1985)ص
440.
[20]
-ابن باديس .البصائر. العدد 71 في 9 ربيع الآخر 1356هـ (18يونيه 1937م)
نقلاً عن الزهرة في 21و22 ربيع الأول 1356هـ
[23]
-أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم .الخراج.ص3 ،وفيه يقول أبو يوسف:" إن
أمير المؤمنين أيده الله سألني أن أضع له كتاباً جامعاً يعمل به في جباية
الخراج..وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته والصلاح لأمرهم."
[24]
-انظر بحثا للباحث بعنوان :الغرب في مواجهة الإسلام: معالم ووثائق جديدة،(المدينة
المنورة 1410)وكتابه الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي :دراسة
تطبيقية على كتابات برنارد لويس.( الرياض 1416)
تعليقات
إرسال تعليق