الجزء الثاني من مقدمة الأستاذ طارق منينة

الجزء الثاني من مقدمة الأستاذ طارق منينة


في مشروع الدكتور حفظه الله لدراسة الغرب راح يتحرر من صور التبعية (حتى التي لم يُرد ادوارد سعيد نفسه أن يتحرر منها (أقصد الفكر المادي نفسه) التي وقع فيها كل من دعا الى الاستغراب من العلمانيين العرب، خصوصاً ، الذين أصبحت لهم مشاريع تغريبية واضحة، مثل حسن حنفي أو حتى قسطنطين زريق ، الذي قال:" إن الحضور الأمريكي في الذهن العربي ليس في مجمله صحيحاً وكافياً لأنه ليس وليداً لدينا من معرفة صادقة وموثوق بها ومن علم حي متنام" في جريدة  الحياة، عدد 12134، 28 ذو الحجة1416 (16 مايو 1996) من كتاب الغرب من الداخل للدكتور مازن.
ومعلوم أن حسن حنفي نفسه ، وإن دعا إلى دراسة الغرب، فإنه قدم للناس مشروعه على أنه نقد لتراثنا وعقيدتنا ، فاستغرابه في الحقيقة تغريب وتبعية للفكر المادي ومشروعه الاستعماري الثقافي والمعرفي، وقد ذكر هو نفسه أن موسوعته (من العقيدة إلى الثورة) هي: عمله (العلماني) على جبهة من ثلاث جبهات للثورة على العقيدة ، وهو العمل الذي قام به تحت وصف "في التراث والتجديد"، كما ذكر هو نفسه ، في مقدمة كتابه(مقدمة في الاستغراب) (لاحظ أنه الكتاب الذي دعانا فيه أن نكون الدارس لا المدروس!) ، ففي المقدمة هذه قال أنه أقام مشروعه هذا على ثلاث جبهات:" يتكون مشروع " التراث والتجديد " من جبهات ثلاث: موقفنا من التراث القديم، موقفنا من التراث الغربي، موقفنا من الواقع...العام الماضي 1988م آثرت اصدار هذا البيان النظري للجبهة الثانية " موقفنا من التراث الغربي" أو " مقدمة في علم الاستغراب" دون انتظار لباقي أجزاء الجبهة الأولى "مقدمة في علم الاستغراب ص 9.
ولذلك ففي عملية استغرابنا يجب أن نتأمل في المشاريع المقدمة، ونسأل أنفسنا هل أصحاب الدعوات يخدمون في النهاية الفكرة التغريبية أو مسار العلمنة، هل ينشطون لدعم المركز الغربي بالأفكار والمقترحات، وصور الهدم...؟ أم أن هناك دعوة من داخل حصوننا المهددة، تحاول أن تعيد للأمة مجدها العريق في دراستها للأمم والمناهج والعلوم والأخلاق وغير ذلك مما يفيد في إصلاح العمران البشري ككل، بعد التعارف ومن ثم التشارك والتراحم، والإفادة والاستفادة؟
 لذلك كان مشروع الدكتور مازن هو "المشروع"، أو يمكن وصفه ب "البيان النظري"، على الرغم من أنه تجاوز موضوع البيان والاستبيان، وقدم عدة دراسات أصيلة، على محاور مختلفة، منها دراسة نموذجية لفكر المستشرق برنارد لويس، في أكثر من كتاب، وهي دراسة لجانب من الفكر له صلة بالاستعمار والسيطرة، كما أنه قام بدراسة الغرب من الداخل.
حاول الدكتور مازن أن يرد الأمور إلى نصابها، في موضوعنا الغائر هذا ، فقال:" أصدر الدكتور حسن حنفي من جامعة القاهرة عام 1412 (1991) كتابا بعنوان مدخل الى علم الاستغراب وقد تحدث عنه الكاتب اليومي بجريدة الشرق الاوسط عبد الله باجبير وكأن الدكتور حنفي هو أول من فكر في هذا المشروع على الرغم من أن الدكتور السيد محمد الشاهد قد كتب إمّا في مرآة الجامعة أو المسلمون قبل حسن حنفي بسنوات، ولا شك ان معرفة الاستاذين بالغرب قادتهما الى التفكير في هذا المشروع المهم"(مقاله بعنوان: ((الاستغراب)) بين السيد الشاهد وحسن حنفي)،
اللفتة المهمة في نفس المقال أن الدكتور مازن نبهنا إلى أنه لم يسبقنا علماني إلى ذلك بل كانوا هم أعظم المتأثرين بالغرب استشراقا وعلمنة، " وأحمد الله عز وجل ان وفق كاتب هذه السطور الى تقديم اشارات موجزة في بعض ما كتبت حول هذا الموضوع"
ومعلوم أن استغراب حسن حنفي انطلق من مشروع اليسار الإسلامي (وهي تسمية لمشروع ملغم مفخخ)،  وكتابه الصادر في السبعينات (اليسار الإسلامي)، يتضمن الكلام الماركسي الطبقي عن المستضعفين والمستكبرين، الذي خلطه بمفاهيم إسلامية ، وهو مشروع يعتمد ، على التراث الغربي كما على التراث الإسلامي (هنا يختار حنفي فكر الفرق والزنادقة!) ،  وكأنه يريد دراسة الغرب لاستخدام المناسب منه لتغيير ديننا " واستخدام فكر أصحاب الأفكار الأسطورية لمزيد من هدم العقيدة،  وهو حينما يذهب للغرب فإنما ليبحث عن الأداة المناسبة لهدم ديننا وتراثنا الحقيقي، يقول: "الموقف من الغرب أيضاً هو في أحد معانيه رد التراث الغربي إلى بيئته المحلية وظروفه التاريخية التي نشأ منها، ومعرفة أي مرحلة أكثر اتفاقاً، وأجلب نفعا لنا في المرحلة الحالية، التي نمر بها، وأيها أبعد عنا وأشد ضرراً. فالواقع حاضر في قلب الحضارة: منه تنشأ فكراً وإليه تعود أثرا. ولا يمكن فهم التراثين المحلي والغربي إلا بفهم الواقع الحالي أولاً والذي على أساسه سيتم بناء الأول واختيار الثاني (دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية، ص42.
        وقد ذكر أن الثورة الفرنسية هي اللحظة التاريخية عند الغير التي يجب استلهامها، ومن ذلك جرأة العقل على نقد التراث، حتى تخف حدة " المقدسات"" وإعادة النظر في المسلمات، (دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية ص75)، ولذلك مدح ملاحدة العرب للقرن التاسع عشر، الذين بدأوا في: "نقل نتائج العلم الطبيعي وفروضه وامتداده في الحياة الإنسانية كما فعل شبلي شميل-فرح انطون، نقولا حداد، يعقوب صروف. ودراسة المجتمعات على نحو علمي، ماركسي وليبرالي، (دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية ص76)، فهو يريد تنظيراً علمانياً في عملية الاستغراب! :" الفيلسوف هو صاحب الموقف الحضاري الذي يأخذ موقفاً من التراث القديم ويأخذ موقفا نقدياً من الموروث حتى يزحزح الغطاء النظري القديم من أجل تنظير آخر" دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية ص49. وفي نفس الكتاب قال:" والموقف من التراث الغربي هو في نفس الوقت تحرير الذهن من النقل وافساح المجال للإبداع الذاتي... الفلسفة مشروع قومي حضاري..."  وهو لا يفتأ يدعو إلى تجديد التراث  وتحديثه وتفسيره بالمنهجية المادية الغربية :" فالتحديث هي محاولة تغيير المجتمعات على يد " المحدثين" الذين هم في واقع الأمر ضحية التغريب في وعيهم الثقافي والوطني"( دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية ص69) فالرجل متأورب في كثير من جوانب فلسفاته المتعددة ، وهو يريد أن يحدث تغييرا  من داخل تخمونا للنظر إلى العالم من خلال ما ينقله ويتمثله  وينتخبه من مقولات الغرب ونظرياته ، واعادة صياغة الإسلام على نحو عقلاني مادي(غربي النشأة) ثم يطبقه علينا وعلى مقومات أمتنا وديننا،  وهو يدعو للتغيير بلا قفز .وهو الذي قال عن المتأوروبين أنهم كانوا نافذة لمصر على العالم ص69)
أما دعوته لتحجيم الغرب فقد قال فيه بما يناقض تطبيقاته هو نفسه بذلك الفكر على عقائدنا ومسلماتنا. ففوق أنه يقلب الألوهية في الإسلام إلى شعور إنساني بالعجز يجب أن يرد الكمال للإنسان وينزعه من الله كما هي فلسفة الاغتراب الديني عند فيورباخ الألماني (انظر من العقيدة إلى الثورة لحسن حنفي، ج2 ص44،60،377،447،588، وج1 ص20-21،78،127، وقد عرضت كافة هذه النصوص في كتابي" أقطاب العلمانية ج1، طبعة دار الدعوة.
فهو يدعو إلى" الاشتراكية العربية "، التي أدرجها في " إبداع الثورة الوطنية "دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية ص83)، " عدم رفض الفكر الطبيعي المادي اتجاه  لم يرفض الفكر الطبيعي المادي ، فقد كان جزء من التراث الذاتي عن أصحاب الطبائع عند المعتزلة" (دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية ص84) وقال أن جبهة وطنية يجب أن تنصهر فيها الليبرالية والشيوعية والاتجاه العلمي الماركسي، وهذا الاتجاه الأخير  " بدأ ابتداء من ثقافة الغير،  سواء عن طريق التحديث من الخارج بالترويج للفكر العلمي الغربي أو التحديث من الداخل بتأصيل بعض التيارات الغربية في تراثنا الذاتي" دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية ص84. ، وهو التيار الذي حكم في " جبهات وطنية عريضة(سوريا والعراق) أو في أطراف العالم العربي(اليمن الديمقراطي)،  ب: سيادة الماركسية " الغربية" (دراسات فلسفية ص85) لكنه قال ان من سلبيات هذا التيار أنه لم يتخلص من تراث الماركسية الغربية، ولم يقم بصناعة ماركسيات عربية ذاتية تستمد تراثها من تراث الفرق المعارضة داخل عالمنا الإسلامي(الزنج-القرامطة- المعتزلة)، مع تصميمها على القوالب الغربية الذهنية وسط :" شعوب أمية تستشهد بآيات الله وأقوال الرسول وبالأمثال العامية والحكم والأمثال"!! دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية ص85.
ويعتبر حنفي أن الإصلاح الديني المنشود تطور وتحول إلى السلفية على يد رشيد رضا ثم الإخوان وبذلك فإن السلفية:" فقدت مفهوم التقدم والتاريخ وعادت إلى الوراء إلى أيام الإسلام الأول. فالسلفية إذن نقل للحظة الحاضرة إلى الماضي لنقص في القدرة على تحليل الواقع وعلى حصر عوامله واستقصاء ومحركاته...وفي الماركسية يتم تجاوز الحاضر أيضاً إلى المستقبل "(دراسات فلسفية ص88) أي أنهما بحسب قوله يتنكران للحظة الحاضرة، وهو يدعو للاشتراكية العلمية:" ولا يمكن الانتقال من الخرافة إلى العلم دون المرور بالمراحل المتوسطة من عقلانية وتنوير...وقد تأتي أجيال قادمة للانتقال من النهضة إلى الثورة" دراسات فلسفية، حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية ص88.
مع أنه نبهنا إلى:" البناء الشعوري الواحد كمصدر لكل المذاهب والتيارات والاتجاهات الفكرية"(الفكر الغربي المعاصر ص 14)
فحنفي وإخوانه تبنوا الفكر الغربي ونظرياته مرجعاً، مع أنه هو نفسه من قال عن الفكر الغربي الذي تبناه:" هو فكر بيئي محض، نشأ في ظروف معينة ، هي تاريخ الغرب، وهو صدى لهذه الظروف"(الفكر الغربي المعاصر ص 13)، ويعترف حنفي :" لذلك كان خطأنا نحن الكتاب غير الأوروبيين ، الذين ترجموا مؤلفاتهم وشرحوها وعرضوها، بل وانتسبوا إليها، واعتنقوها باعتبار الحضارة الأوروبية  حضارة عامة للناس جميعا، ولم نر نوعيتها، أو رأيناها وتغافلنا عنها، رغبة منا في الحصول على الجديد بأي ثمن ، وفي فترة لم نكن فيها على وعي كاف بتراثنا القديم، أو كان هذا الوعي محصوراً في فئة معينة من المصلحين والإحيائيين"(الفكر الغربي المعاصر لحنفي ص 13)  بل هو نفسه من قال إننا يجب أن نستمر فيما بدأه رواد التنوير (الذين قاموا به على الطريقة الغربية)، فيقول في نفس الكتاب الذي تكلم فيه عن أنه :" من واجبنا إذن إنشاء علم جديد في مقابل الاستشراق، باعتبار أن الاستشراق هو دراسة للحضارة الاسلامية من باحثين ينتمون إلى حضارة اخرى، ولهم بناء شعوري مخالف لبناء الحضارة التي يدرسونها "(الفكر الغربي المعاصر لحنفي ص12) ، يقول:" فمع أن التنوير لدينا بدأ منذ مائة عام أيضاً إلا اننا لم نحصل بعد على نتائجه ، لأنه نسبياً معزولاً محدوداً في فئة معينة من المثقفين"(الفكر الغربي المعاصر ص 20)،  وأننا ظلمنا العلمانيين (الفكر الغربي المعاصر ص25)،  بل أعلن في نفس الكتاب أنه يريد " القضاء على الموروث القديم" وأن فكر مونتاني (1533-1592):" قد يكون أنفع لنا من الشك عند ديكارت"(الفكر الغربي المعاصر ص 23)، وأنه يجب" تعرية الواقع من كل غطاء فكري أو عقائدي"(الفكر الغربي المعاصر ص 30.
ذلك كله جعل العلمانيين أنفسهم يندهشون من عالم التناقضات الذي يحتويه فكر حنفي، وهذا ولله الحمد ليس عندنا في نموذجنا أو مثالنا في الدعوة إلى علم الاستغراب.
لقد أطلت في تقديمي لكتاب الدكتور مازن لكني أرى أن أُقدم شهادتي لعمل الدكتور الأصيل، وبيان مقاربته أو مفارقته للمشاريع الحداثية الأخرى، لعل طلاب العلم في أوطاننا يتوجهون وجهتنا الأصيلة، التي أصلها الدكتور مازن ومن قبله ومن بعده من العلماء.

نسأل الله أن يوفقه إلى المزيد من الإنتاج العلمي في مجالي الاستشراق والاستغراب، وانشاء المؤسسات المطلوبة، وأن ننتفع بعلمه وينتفع بمنهجه وتوجيهاته الطلبة في كل بلاد الدنيا وبالله التوفيق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية