تقديم بقلم طارق منينة 19صفر 1438 هجرية-السبت 19 نوفمبر 2016 م.




يلاحظ أي قارئ لكتابات د. مازن مطبقاني ود. ادوارد سعيد أن لديهما قاسماً مشتركاً وهماً متقارباً في تتبع تأثير مقولات وقوالب الثقافة ودورها الامتيازي في السياسات الغربية الحديثة ، والتي تفرض أوهامها ، في حرية تامة، على العالم ، للقيام بحكم شعوب أو التأثير عليها، وإنتاجها لأشكال متنوعة من السيطرة ومن الاستجابات إليها ،  لاسيما وأنهما قد عاشا في أكثر من بلد غربي ، فمارسا الحياة فيه وصنعا علاقات وعاشا مشاهدات يومية، وقرآ الصحف والمجلات، واطلعا على الدراسات وزارا مراكز البحوث، ودرسا في الجامعات ، وقابلا فلاسفة وأساتذة ، وانتخبا وترجما ، ما دفعهما لإنتاج أعظم أعمالهما عن الاستشراق عامة، والاستشراق الأمريكي خاصة،  وثقافة ما بعد فكفكة الاستعمار ، في عالم الرواية والأفلام والإعلام ، وتعرفا على مدى تأثير ذلك على الشرق والغرب، وصناعة الثقافات المسيطرة أو إبراز صناعها وتقديمهم للداخل والخارج على أنهم "اللاعبون الجدد".
 وعلى الرغم من اختلاف منهجية الدكتور مازن في محورها الإسلامي الذي لم يتأثر بالفكر المادي الغربي عن منهجية سعيد في انسانويته التي كثيراً ما شكا هو من واقعها المر واستعماريتها ، ورموزها وأبطالها، بل وبعض أصولها المعرفية والمادية (الإمبريالية) والاستعمارية ، إلا أننا نرى تقابلاً كبيراً في نتائج الدراسة  والخبرة بالغرب ، ونماذج الدراسة والترجمة ، الرصد والمراقبة، ذلك أنها منهجية ميدانية واستقصائية، اهتمت بأنماط التلاعب بالبني والصور  داخل الرؤية المركزية الغربية ، والتي لها (أو كان لها) ابعادها في العلاقات والتعاملات مع المستعمرات أو الدول والشعوب أو الأفراد وعملية الإخضاع ككل، ما جعلهما ينتجا أعظم أعمالهما التي تحتاج البناء عليها ، ومن ثم تأسيس حقيقي للاستغراب وعالمه المادي والحضاري.
 فكما بذل سعيد أوسع جهده في كشف تناول الفكر الغربي، ومن ثم الإعلام الغربي، لقضية الشرق عموماً والمسلمين خصوصاً، أو القضايا المتعلقة بهما، كما في كتابه(الاستشراق)، و(تغطية الإسلام)، و(الثقافة والإمبريالية)، وغيرهما من الكتب ، وراح يدرس التاريخ المركزي الغربي وربطه بحوادث اليوم  وسياساته، ولا نتكلم هنا عن رؤيته الإنسانوية وإنما عن عملية فحصه للوعي الغربي ورؤيته للعالم، فقد بذل الدكتور مازن قصارى جهده وثمرة شبابه في تتبع الأعمال الاستشراقية  في الأوساط والنشاطات الأكاديمية ، في الغرب،  وكذلك تتبع الإعلام والمؤتمرات والندوات ، والتقارير الحكومية، والدراسات المهيمنة في مراكز الدراسات العربية والإسلامية ومعاهد البحث العلمي وأقسام دراسات الشرق الأوسط ،  وترجمة ما تيسر له من ذلك،  وكتب مقالات غير مؤجلة لتسجيل الوقائع المكتوبة والمنشورة في زمنها الطازج! ، فكان من ثمرات إنتاجه في ذلك بحثه "من قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب"، و(فكر برنارد لويس في بحثه "منهج المستشرق برنارد لويس في دراسة الفكر السياسي الإسلامي"، وكتابه (بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر) و (الغرب في مواجهة الاسلام معالم ووثائق جديدة) وغيرها من الكتب والمقالات، (ومنها مقالات كتابه هذا) ، وهي تدور داخل رؤية إنسانية إسلامية كونية ، لا تبخس الآخر حقه، ولا تهضم حق أمتنا ولا مصادر طاقتها التي استضاء بها الغرب وانطلق بمشاعلها.
إننا قد لا نجد عند غير هذين المفكرين، ذلك التقصي الشديد والتتبع الوثيق، ومراقبة بحثية علمية للإعلام الغربي والمؤتمرات الغربية عن الإسلام والمسلمين، إلا عند نظرائهما في الهم والوعي، وهم قلة حتى الآن، إنها همة تلازم الروح الوثابة التي يحكي د. مازن نبضاتها وحركتها البعيدة وظلالها التاريخية الوليدة بقوله: "حرصت على طلب تفاصيل المواد التي تُدْرس في أقسام الدراسات العربية الإسلامية أو مراكز دراسات الشرق الأوسط أو أقسام الدراسات الشرق أوسطية في بعض الجامعات الأمريكية. وكان من هذه الجامعات جامعة جورجتاون، وجامعة انديانا، وجامعة نيويورك، ومعهد الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز بواشنطن"، كانت هذه خريطة العمل عند الدكتور مازن كما أخبر عنها في كتابه قضايا الدراسات العربية الإسلامية في الغرب...وهو الكتاب الذي بذل فيه مجهوداً واضحاً يعتبر أنموذجاً في الترجمة والتحقيق، والربط بين "المركز " في الغرب و"المؤثرات" في الشرق والتفاعل بينهما ومن ثم إحكام السيطرة والنفوذ.
لذلك ، فإن كل مقالة للدكتور مازن، في الكتاب الذي بين أيدينا ، تمثل ثروة علمية وبحثية يحتاجها الطلاب في مجالي الاستشراق والاستغراب ، ففيها  من ثراء التتبع والمراقبة العلمية (التسجيل التاريخي) ، والفحص النقدي ، والدراسة الميدانية ، والترجمة والحضور الذاتي في الغرب المدروس ما يجعل الباحث يطمئن إلى تقدمية ذلك الإنتاج، وبراعة الروح المقاتلة والمغامرة ، التي بلغت قوة بلاغتها العلمية والسياسية في دعوته للمؤسسات والحكومات، والجامعات والأكاديميات:" أن يتم دراسة الغرب في أقسام علم الاجتماع والتاريخ واللغة وعلم النفس والاتصال" ، ولم يفت الدكتور مازن أن يشير أن الاستشراق انتقل:" من الوضع القديم إلى وضع أصبح فيه يتناول العالم الإسلامي من جميع الجوانب ويستخدم مناهج البحث الخاصة بالعلوم المختلفة كالعلوم الاجتماعية وعلوم الاتصال وعلوم اللغة وغيرها." (انظر مقالة: الاستشراق ومكانته بين المذاهب الفكرية المعاصرة). "ولا بد أن يصحب دراسة الغرب حركة ترجمة واسعة لما أصدر بعض عقلاء الغرب وحكمائه منذ إريك فروم في القرن الماضي إلى فوكوياما المعاصر إلى جون هيور وغيرهم"، لذلك دعا إلى تكوين عدد من الباحثين الراغبين في المعرفة والبحث عنها في مظانها في مجال نشاط الاستشراق القديم والحديث.
بل إنه خطا خطوة تقدمية وعملية في آن، فدعا حفظه الله إلى إنشاء مجال الدراسات الإقليمية لدراسة الشعوب جميعا، والغرب خصوصاً، وانشاء برامج لتخريج متخصصين في لغات الشعوب، كمدخل لدراسة كل شيء عن الشعوب وثقافتها وتقاليدها وحياتها من كافة جوانبها حتى الكنائس والفرق من الداخل!، وأن يصب كل هذا في مفهوم التعارف الإسلامي والشهادة القيمية على الناس لعل في ذلك مزيد من الإنجاز الحضاري المفيد للعالم كما فعلت أمتنا قديماً.
ولا شك أن إنتاج الدكتور مازن غطى بمشروعه الواسع هذا على دوائر غربية كثيرة، معاكسة لمشروعنا، بل ومشاكسة له، وطاردة له، بدءاً من برنارد لويس ومن وراءه ومن بعده، حتى تلاعبات العلمانيين العرب (اللاعبون الجدد) المتأثرون بأمثال برنارد لويس ومكسيم رودنسون.
هل عليّ هنا أن أُذكر وأُدلل على كلامي بالنص التالي من كلامه:" أما قصة هنتنجتون وبرنارد لويس فالأول تلميذ الثاني فقد كتب لويس كتابه (العرب في التاريخ) عام 1957، وتحدث في أحد فصوله عن الإسلام والغرب. وذكر فكرة الصراع بين الحضارات في فصل بعنوان (تأثير الغرب) وهذا ما قاله في الصفحة 177:" إن الإسلام اليوم يقف وجهاً لوجه مع حضارة غريبة تتحدى كثيراً من قيمه الجوهرية وتستميل بإغراء كبير كثيراً من أتباعه…. والتحدي الذي تقدمه الحضارة الغربية أنها الحضارة الغالبة وليست الحضارة المغلوبة التي واجهها المسلمون في بداية ظهور الإسلام." وقد قال بهذا الـرأي بصراحة في كتابة (الإسلام والغرب) (النسخة الإنجليزية) (1963) في الصفحة 135:"سيكون فهـمنا أفضل للوضع (بين الإسلام والغرب) إذا نظرنا إلى حالات عدم الرضى في الشرق الأوسط بأنها ليست صراعاً بين دول أو قوميات ولكن على أنها صراع بين حضارات."
        وقد عرفت فيما بعد أن كلاهما أو من نقل عن الآخر إنما استقى هذا الفكرة من السكرتير الأدبي لجمعية الشبّان المسيحيين قال بها في عام 1926 م في كتاب بعنوان "مسار الإسلام الفتي: دراسة في صدام الحضارات" Young Islam on Trek: A Study in the Clash of Civilizationبقلم باسيل ماثيوز Basil Mathews كما جاء في كتاب ريتشارد بوليت في كتابه (دفاعاً عن مقولة الحضارة الإسلامية-المسيحية) وريتشارد كان رئيس معهد دراسات الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية المشهورة كولمبيا وقد قابلته في مكتبه عام 1995م" من مقاله :من أين جاءت فكرة صدام الحضارات والأصل الإسلامي النصراني للحضارة الغربية.
إن للدكتور مازن الفضل الأكبر، والنصيب الأوفر في افتتاح مادة (الاستغراب)، والتحريض المستمر على القيام بذلك، كما أنه شجع الباحثين على ولوج هذا الطريق، كما أنه لم ينكر جهود غيره من العلماء ولا حتى المناقضين لمنهجه ومقومات رؤيته (الذين سيذكر كثير منهم في بحوثه ومقالاته).
ونظرا للتحولات العميقة في بنية الاستشراق لتأثره بمناهج البحث العلمانية والمادية، فإن لصلة موضوع العلمانية بالاستشراق في عمل الدكتور مازن مساحة كبيرة.
فقد أشار الدكتور مازن إلى أن العلمانية، وهي تؤثر بتحولاتها ومؤثراتها وضغوطها على الذهنية الدينية الغربية، أثرت تأثيراً هائلاً في المستشرقين "فتحول كثير منهم من مستشرقين يهود ونصارى إلى مستشرقين ملحدين وعلمانيين فسقط هدف الدفاع عن اليهودية والنصرانية ليظهر هدف جديد هو نشر الفكر العلماني في الشرق من خلال إبعاد المسلمين عن دينهم من غير إدخالهم في دين آخر. وهناك صعوبة في تحديد المستشرق العلماني، لان هويته غير محددة وبخاصة لاتساع العلمانية وتغطيتها لكل الفكر الغربي اللاديني". (من مقاله: أزمة الاستشراق تحت عنوان" انتصار العلمانية")
"فبالإضافة إلى الاستشراق الديني الممثل في استشراق اليهود والنصارى يوجد استشراق مذهبي فكري ينطلق من مذهب معين أو أيديولوجية معينة ويدخل تحت هذا التصنيف المدرسة الشيوعية في الاستشراق، ولها نقطة انطلاق مختلفة -تماماً- عن المدرستين السابقتين... وقد فسرت الأديان من هذا المنطلق وعملت الشيوعية على فرض رؤيتها المادية الاقتصادية على شعوبها أولاً والشعوب الخاضعة لها ثانياً وكانت ترغب في تحويل العالم كله إلى الشيوعية. وانعكست هذه الأيديولوجية على مدرسة الاستشراق الشيوعي، وأصبحت هي الوسيلة الدعائية لتوصيل الأفكار الشيوعية إلى الشعوب الأخرى. وتخصص عدد كبير من مستشرقي هذه المدرسة في الإسلام والشعوب الإسلامية كمجتمعات"(تحت عنوان الظاهرة الاستشراقيةكما أنه نوه في مقاله (أزمة الاستشراق) على: "غياب المستشرق "التقليدي" وظهور "الخبير"، " وشرح "عملية التحول" في نفس المقال. ولذلك فرده على المفكر اللبناني "علي حرب" في زعمه بنهاية الاستشراق، إنما هو رد واع بالقضية من جوانبها، والتلاعبات التي تُخاض فيها، والتحولات الفكرية والسياسية في الغرب نفسه وموضاته وفرضياته وتوثباته!، والذي بلغ مرحلة السيولة في ما بعد الحداثة، وهو ما يجب أن يلتفت له الباحث في دراسة الغرب والعلمانية :" ان الاستشراق التقليدي الذي كان يهيمن على مجالات الدراسات العربية والإسلامية قد اختفى إلى حد كبير- ونقول ذلك بسبب وجود بعض الباحثين الغربيين المعاصرين الذين يخوضون في كل ما يخص الإسلام والمسلمين- وأصبحت دراسة العالم الإسلامي تتم بالتنسيق بين قسم دراسة الشرق الأدنى او الأوسط وبين الأقسام المختلفة . بل أصبح دور هذه الأقسام او المراكز كما يطلق عليها في بعض الجامعات هو دور المنسق بين مختلف التخصصات. وفي جامعة كاليفورنيا فرع بيركلي تتم دراسة العالم الإسلامي في ثمانية عشر قسماً. وقد لاحظت في جامعة برنستون رسائل علمية للماجستير والدكتوراه تتم بالتنسيق بين قسم الاستشراق وبين قسم الاجتماع او قسم الانثروبولوجي او الاقتصاد وهكذا "من مقاله بعنوان: أزمة الاستشراق"
لذلك لم يكن هجوم الدكتور مازن على اللبناني "علي حرب" من فراغ، فحرب هذا أوحى بخبث أن الاستشراق قد ولى، وأنه " لقد استنفد دوره "، وأن العلماني العربي أصبح لا يستقي معلوماته من الدوائر الاستشراقية، مع أن علي حرب هو نفسه الذي يصف بعض إخوانه العلمانيين بالمستشرقين، من ذلك وصفه لمحمد أركون بذلك مثلاً! ومعلوم أن أركون بنى تطبيقاته على انتاج الاستشراق القديم والمعاصر (بروكلمان، كلود كاهين، هنري كوربا، ماسنيون، بلاشير) بل ان أركون وصفهم بأنهم: "معلمون كبار من أمثال دوسلان، دوغوج، سنوك هرغروبخ، نولدكة، بروكلمان، ماسينيون، مارسيه.. الخ» تاريخية الفكر العربي الإسلامي لمحمد أركون ص 54، 55.
ومعلوم أن الجامعات الغربية نفسها يتم فيها تدريس كتابات هؤلاء المستشرقين كما بين الدكتور مازن في مبحث "مكانة دراسة الاستشراق في العصر الحاضر" من بحث د. مازن (الاستشراق ومكانته بين المذاهب الفكرية المعاصرة)
لقد وصل تأثير الاستشراق وما بعده على العلمانيين العرب بصورة ملحوظة، يقول د. مازن مطبقاني :" ومن بين الذين تأثروا بالاستشراق مجموعة علماء انتموا إما إلى المدرسة الشيوعية- محمود أمين عالم، ورفعت السعيد، وعبد العظيم رمضان في مصر ومحمود إسماعيل (مصر) ورفعت المحجوبي، وعبد القادر الزغل(تونس) - حينما انتشرت  الشيوعية في بعض البلاد العربية الإسلامية، وبدأوا يطبقون المناهج الشيوعية والعلمانية في دراسة الإسلام ومجتمعاته"، وكذلك " الذين هاجروا إلى أوروبا وأمريكا واشتغلوا بالدارسات الإسلامية في جامعاتها ومؤسساتها التعليمية. ومن الأمثلة على هؤلاء فيليب حتّي وفؤاد عجمي، وصادق جلال العظم، وعبد القادر الزغل، ومحمد سعيد العشماوي، ونوال السعداوي، ونصر حامد أبو زيد، وسلمان رشدي، وعزيز العظمة، وبسام الطيبي وغيرهم كثير"(مقال: الظاهرة الاستشراقية).
وقال:" حتى إن زكي نجيب محمود في محاضرة له في النادي الأدبي في جدة قبل ثلاثين عاماً زعم ان البشر ينقسمون إلى ثلاثة أصناف: الأول الأوروبيون يتميزون باستخدام العقل والمنطق فاليونان هي مهـد التفكير المنطقي. والقسم الثاني هم العرب وغيرهم الذين تغلب عليهم العاطفة، والقسم الثالث وهم العجم وجنوب شرق آسيا الذين يغلب عليهم الفن والتأمل. وقد ردّ عليه الدكتور كمال عيسى أستـاذ الثـقافة الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز برد رائع أوضح له التفكير المنطقي والمنهج العلمي في جدال القرآن الكريم مع المشركين وغيرهم، وكذلك في اللغة العربية"(مقال الغرب والتفكير المنطقي)
ويكشف د. مازن حقيقة أن الغرب يقوم دوماً باستضافة هؤلاء، ومن الطريف أن الجامعات الغربية بدأت تخطب ود الشيوعيين السابقين وتفتح لهم الأبواب للمحاضرة وحضور الندوات والمؤتمرات في الغرب"(مقال الظاهرة الاستشراقية)، ويقول حفظه الله:" وقد استضافت الجامعات الأمريكية والأوروبية العشرات أو المئات من الباحثين العرب والمسلمين وقدمت المناصب وفرص البحث لأمثال صادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد وعزيز العظمة، وفؤاد عجمي، وفضلو الرحمن، وغيرهم كثير، كما دعت البعض للعمل أساتذة زائرين في الجامعات الغربية؟"
ويقول "فها هو نجيب محفوظ ينال جائزة نوبل لأنه ثبت تبنيه للفكر الغربي، كما أنه كتب في بعض رواياته يتجنى على الحركات الإسلامية في مصر وعلى العقيدة الإسلامية"، و" محمد شكري صاحب كتاب (الخبز الحافي)"،".. نوال السعداوي وعبد الرحمن منيف ومحمد شكري وفاطمة مرنيسي وغيرهم".
فليس ما أثار حفيظة علي حرب على كتاب (مقدمة في علم الاستغراب) لحسن حنفي  هو موضوع الاستشراق نفسه وانما الدعوة لدراسة الغرب ومناهجه القاصرة ، فما أزعجه كما قال د. مازن ، هو أن حنفي  (العلماني أصلاً ) ذهب إلى أنه لابد من دراسة الغرب ، ليكون المدروس بدل الدارس، فكان أولى بحنفي ، عند علي حرب ، أن لا يخطو تلك الخطوة في اتجاه دراسة الغرب والمفكرين الغربيين ، فمعركة العلمانية العربية ليست مع الغرب!، ولا مهمة العلمانيين هي دراسة الفكر الغربي ، وتتبع مصادر تحولاته النفسية والفكرية والاستعمارية ، والمدهش أن علي حرب نفسه صنع كتاباً يرد فيه على منهجية بيير بورديو الفرنسي ، وجارودي أيضاً، لكن الغرض من اعتراضه على ما يبدو هو عدم فتح المجال لتمكين الإسلام من دراسة مصادر الفكر الغربي ونظرته للعالم وللثروة والمعرفة ومن ثم استعادة الأصول التي صنعت بها الأمة حضارتها الزاهية في التاريخ.
وكأن حرب يطلب من حنفي أن يستمر في تفريغ الإسلام من مضمونه وأن يبعد عن كشف التناقض-الذي وقع فيه حنفي بالمناسبة! - في الفكر الغربي، فالمهمة هي التغريب لا الاستغراب! يسأل حرب:" أين تكمن مهمة المفكر العربي؟ وما مهمته؟ بسؤال آخر: هل المهمة أن نقوم بمحاصرة المفكرين الغربيين وأسرهم لتجميعهم في "طوابير" واستعراضهم ،ومن ثم فرزهم إلى مجموعات، ووضع كل مجموعة في "زنزانة" محكمة الإغلاق." ويرد عليه الدكتور مازن فيقول:" كيف لعلي حرب أن يزعم أن هذا العلم ولد ميتاً. ألم يعلم أن المسلمين في عصور ازدهارهم اهتموا بعقائد الأمم الأخرى وأسسوا علم الملل والنحل. وكتب في ذلك ابن حزم والبغدادي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم كثير. ألم يقرأ ما كتبه أسامة بن منقذ في كتابة رسالة الاعتبار التي تعد نموذجاً رائعاً في دراسة الآخر"، وقال:" نجد لمحات من دراسة الغرب في كتاب أسامة بن منقذ الاعتبار الذي تناول فيه جوانب من حياة الصليبيين فوصف طباعهم وأخلاقهم وتحدث عن مزاياهم وعيوبهم. ومن أطرف ما ذكره في هذا الكتاب مسألة العلاقة بين الرجل والمرأة وضعف الغَيْرة من الرجال على النساء بل لعلها تكون معدومة أحياناً. "، وأضاف:" إننا ننطلق في أهمية دراسة الغرب من القرآن الكريم الذي عرض لنا عقائد الأمم الأخرى وبخاصة أهل الكتاب من اليهود والنصارى وعقائد المشركين العرب وانعكاس هذه العقائد على السلوك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. إن المسلم من أجل أن يدرك عظمة العقيدة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرف الانحرافات التي حدثت في عقائد الأمم الأخرى والانحرافات السلوكية المنبثقة عن هذه العقائد. وكيف يولد " ميتاً " علم ينطلق من هذا الأساس"، ويقول حفظه الله:" أن نستغرب –ويقصد دراسة الغرب! -ليس المقصود به أن نفقد شخصيتنا وهويتنا وذاتيتنا ونذوب في الآخر (الغرب) كما أطلق على دعوات طه حسين ومن على شاكلته مثل لطفي السيد وقاسم أمين وغيرهم في العصر الحاضر مثل طائفة العلمانيين أو الليبراليين الذين ولوا وجوهم شطر الغرب إما لجهلهم بالإسلام عقيدة وشريعة ونظاماً في الاقتصاد والسياسة والاجتماع أو عرفوا الإسلام ولكن إعجابهم وانبهارهم بالغرب أفقدهم تلك المعرفة.  إن الاستغراب أن نعرف الأمم الغربية (أوروبا الشرقية والغربية) والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبقية دول القارتين الأمريكيتين. أن نعرف هذه الشعوب معرفة دقيقة بأن ندرس قضاياها السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية والاجتماعية. ولن تتحقق هذه المعرفة دون أن نبدأ بإنشاء أقسام وكليات للدراسات الأوروبية والأمريكية"، ويقول:" لأننا أمة الشهادة وكيف يمكننا أن نشهد على الأمم الأخرى ونحن لا نعرفها. ولا ينبغي أن نكتفي بالمعرفة النظرية (كمن يتعلم السباحة بالقراءة) فلا بد أن ندخل إلى المجتمعات الغربية ونعرفها حق المعرفة بل لا بد أن نصل إلى المشاركة معهم في دراسة مشكلاتهم الحياتية المختلفة ويكون لنا رأي في قضاياهم الفكرية والفلسفية ونعرض وجهات نظرنا مدعومة بخلفياتنا الشرعية المبنية على الكتاب والسن".
ومما يدور في هذا السياق الخطير والدقيق معاً ، هو ما ذكره الدكتور مازن في كتابه(الغرب من الداخل)، حيث قال:" فقد كتب هاشم صـالح -تلميذ محمد أركون- منتقداً الدعوة إلى "علم الاستغراب" بدعوى أننا ما زلنا غير قادرين على الوصول إلى ما وصل إليه الغرب من تقدم في العلوم ومناهج البحث، بل إنه استهزأ بمشروع حسن حنفي في دراسة الغرب (الاستغراب) بقولـه "كيـف يمكن لهذا ’العلم‘ الغريب الشكل أن ينهض على أسس قويمة إذا كنّا عاجزين حتى الآن عن استيعاب الثورات اللاهوتية والابستمولوجية والفلسفية للفكر الغربي، وإذا كنّا عاجزين عن إحداث مثلها في ساحة الفكر العربي؟ وكيف يمكن لنا أن نقف موقف الند من الغرب إذا كنّا لا نملك أبسط المقومات حتى مشروع الترجمة لم نقم به كما ينبغي."
ومعلوم أن هاشم صالح وأركون وتلاميذهما يقومون جميعا بتبيئة الفكر الغربي المادي والاستشراقي، بل يقومون بدور المستشرق الدارس للعالم الإسلامي وعقيدته وشريعته والقرآن وعلومه، ويحاضرون في جامعات الغرب ووزارات خارجيتها أو ملاحقها، لتحديث الإسلام بحسب الرؤية الغربية الأحدث، بل يعلنون نقدهم للقرآن علنا، ويلقونه في الأساطير الحلوة، والخيال الرطب!!
كتابنا هذا لا يظهر فقط خبرة الدكتور مازن بالاستشراق أو علم الاستغراب، وإنما يظهر خبرته بالتوجهات العلمانية وشخوصها في بلاد العرب والمسلمين.

فقد أورد الدكتور مازن أيضاً في كتابه هذا كلاماً لعلمانيين عرب، غير "علي حرب"، وعلى سبيل المثال كلام لفؤاد زكريا (انظر مقالة: الاستشراق ومكانته بين المذاهب الفكرية المعاصرة)، وتكلم عن طه حسين، ولطفي السيد (في مقال: متى ينشأ علم الاستغراب؟)، ولا أريد أن أُطيل هنا في عالم الأسماء، فليرجع القارئ بنفسه للمقالات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية