ذكريات ومذكرات





ولد الدكتور مازن مطبقاني في الكرك بالأردن يوم الأربعاء الثالث من جمادى الآخرة 1369 الموافق 22مارس 1950، ووالده الشيخ صلاح حامد المطبقاني الذي هاجر إلى الأردن مع جده حامد أحمد المطبقاني في أثناء الحرب العالمية الأولى حينما اضطر والي المدينة المنورة العثماني فخر الدين أهل المدينة إلى تركها نظراً لحاجة الجيش العثماني إلى المؤن التي كانت في المدينة. وجَدُّ الدكتور مازن ممن تلقوا العلم في المسجد النبوي الشريف بالإضافة إلى إتقانه مهنة العطارة حتى كان يلقب في الأردن بالعطار. ولكنه بجانب العمل في العطارة كان إمام وخطيب أحد المساجد في مدينة الكرك. وعرف الشيخ حامد بالصلاح والورع والتقوى والطيبة.
أما والده فقد تلقى العلم في المدارس الأردنية حتى المرحلة الابتدائية ولكن هذه المرحلة في ذلك الزمن كانت قوية جداً وتعادل الثانوية في هذا الزمن بل ربما كانت أفضل حيث أشرف على تعليمهم كبار العلماء في الأردن. وقد عرف والده بحديثه الشيق في شتى المجالات كما عرف بقدراته اللغوية وإن لم يكتب بنفسه لكنه كان إذا أملى على أحد أبنائه موضوعاً في الإنشاء حصل الابن على أعلى الدرجات. وقد عُرف بقدراته على الحفظ حيث كان يحفظ الكثير من الشعر الفصيح والشعر الشعبي وكذلك القصص والمعلومات العامة. ودليل على قدرته على الحفظ أن أستاذ الجغرافيا طلب منهم أن يقرأوا درساً حول دوران الأرض حول الشمس فحفظ صلاح الأرقام بدقة فقال له أنا لم أطلب منكم أن تحفظوا ولكن أن تفهموا. فقال له صلاح إنني لم أتعمد الحفظ. وعندها قال الأستاذ سأجري لك اختبار في الحفظ سأكتب لك ثلاثة أبيات وعليك أن تقرأها مرة واحدة وكان من تلك الأبيات:
إذا كنت ربّا للقلوص فلا تدع        رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها واردفه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقب
       وقد عمل الشيخ صلاح في شركة المشاريع العامة بالمدينة المنورة بعد عودته إليه من الأردن عام 1382هـ، ثم في شركة الكهرباء في إدارة خدمات المشتركين حتى أصبح ممثل الشركة لدى الإمارة وفي الدوائر الحكومية الأخرى ورئيساً لهذا القسم لسنوات عديدة.
      كان مازن هو المولود الثالث لوالديه حيث له أختان أكبر منه سنّاً بالإضافة إلى أن له ثلاثة إخوة وستة أخوات ولدوا بعده. ولذلك لقي مازن الكثير من الدلال لأنه الابن البكر لوالده كما كان يتميز في صغره بالهدوء والطاعة لوالديه والتفوق في دراسته مما جعله محبوباً عند والديه. وكان والده يردد المثل البدوي (عليك بحر الإبل وهاديَ الصبيان)
تلقى مازن تعليمه الأولي في مدارس الكرك حيث أنهى دراسة المرحلة الابتدائية في الأردن ولكن جاءت عودته مع والده إلى المدينة المنورة قبل اختبارات نهاية السنة فاضطر إلى دخول اختبارات الدور الثاني للحصول على الشهادة الابتدائية. ونظراً للاختلاف في المناهج وبخاصة فيما يتعلق بحفظ القرآن الكريم والأحاديث الشريفة فقد عكف مازن خلال الإجازة الصيفية على حفظ المقرر الذي كان جزء عمّ وعشرين حديثاً من الأربعين النووية
        التحق بعد ذلك بمتوسطة عمر بن الخطاب عام 1362وكانت تسمى المتوسطة الثانية حيث لم يكن في المدينة سوى ثلاث مدارس متوسطة للبنين وفي عام 1365 أنهى المرحلة المتوسطة وحصل على الشهادة التي كان يطلق عليها الكفاءة والتحق بثانوية طيبة (الثانوية الوحيدة في المدينة المنورة) وتخرج فيها عام 1388هجرية وكان عدد الخريجين في المملكة العربية السعودية ألف وخمسمائة طالب فقط، وكان ترتيبه التاسع والتسعون.
       حصل على بعثة لدراسة الإدارة الصناعية في الولايات المتحدة الأمريكية فذهب إلى هناك والتحق ببرنامج اللغة الإنجليزية ثم التحق بجامعة بورتلاند Portland State Universityحيث درس فصلاً واحداً ثم التحق بكلية أوريجن المتوسطة في مدينة بندBend, Oregon حيث درس سنة دراسية كاملة التحق فيها بالمتطلبات الجامعية العامة في الرياضيات وعلمي النفس والجغرافيا وغير ذلك من المواد. وانتقل بعد ذلك إلى جامعة ولاية أريزونا الحكوميةArizona State University بمدينة تمبيTempe (وهي قريبة من مدينة فينكس Phoenix) ولكن لم يستطع مازن أن يعرف المجال الذي يريد أن يتخصص فيها فأخذ يدرس العديد من المواد في تخصصات مختلفة وبخاصة في مجال اللغة الإنجليزية وآدابها. ولكنه بعد خمس سنوات فضل العودة إلى المملكة حتى يبدأ حياته العملية.
        وكانت صدمته كبيرة أن وجد أن ما حصل عليه من دراسة في الولايات المتحدة لا قيمة له إذا لم يكن يحمل شهادة ما. وهنا قبل أن يعمل في وظيفة مساعد إداري في الخطوط السعودية. وفي أثناء إجراء الفحص الطبي قال له موظف الأشعة:" إن الذين يفشلون في الولايات المتحدة يأتون للعمل في الخطوط السعودية" فحزت في نفسه وقرر أن يلتحق بجامعة الملك عبد العزيز بجدة –قسم الانتساب. وكان الفروع المفتوحة حينذاك علم الاجتماع والإدارة والاقتصاد والتاريخ. فاختار مجال التاريخ. واستطاع الحصول على الدرجة في ثلاثة سنوات ونصف حيث قبلت الجامعة بعض الساعات التي درسها في الولايات المتحدة. وفي السنة الأخيرة أو النصف سنة الأخيرة قرر التحول إلى الانتظام حتى يتمكن من التقدم لوظيفة معيد ليكمل الدراسات العليا ولكن لم يحصل على الوظيفة ولكنه تقدم بعد الحصول على البكالوريوس لبرنامج الماجستير في الجامعة.
      وكانت تلك الدفعة الأولى من الطلاب ولذلك لم يكن الأمر سهلاً مما اضطره إلى الحصول على الدرجة في سبع سنوات تقريباً. وكانت رسالة الماجستير حول جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية فسافر إلى الجزائر خمس مرات في أثناء إعداد البحث كما زار فرنسا مرتين وحصل على بعض المادة العلمية من بريطانيا ومن الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت معاناته مع المشرف كبيرة حيث إن المشرف أمره بإعادة كتابة فصول الرسالة أكثر من خمس مرات وكان هذا التعنت رغبة من المشرف في ابتزاز الطالب مادياً وقد ثبت هذا من عدة حوادث أنه أرسله إلى القاهرة لجمع المادة العلمية وطلب منه أن يوصل بعض الأشياء إلى أهله هناك وكان الكيس فارغاً تقريباً فكان هذا الاختبار الأول أن الطالب كان ينبغي أن يملأ الكيس. وفي إحدى المرات أصر عليه أن يصحبه إلى المدينة واشترى له التذكرة وأخذها ولم يسافر فقام الأستاذ بإعادة التذكرة وأخذ ثمنها وغير ذلك من الحوادث التي تدل على جشع الأستاذ واستغلاله وطمعه واسمه (محمد عبد الرحمن برج)
      وتمت مناقشة البحث في صفر عام 1406 بجامعة الملك عبد العزيز بجدة. فجاءت رسالته في ثلاثمائة صفحة وقد طبعت بعد مناقشتها وإجازتها في كتاب عام 1408.وكان أحد المناقشين الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله (رحمه الله) أب التاريخ الجزائري الحديث. وقد أشاد بالرسالة والجهد الذي بذل فيها وأن مازن تفوق حتى على الجزائريين أنفسهم في تحصيل المادة العلمية الوثائقية حول الرسالة حتى إنه كتب لها مقدمة رائعة حينما تحولت إلى كتاب ونشرت عن دار القلم بدمشق.
      ما أن حصل مازن مطبقاني على درجة الماجستير حتى تقدم إلى قسم الاستشراق بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة (كلية الدعوة حالياً) التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. فقُبِل محاضراً بالمعهد ونقل خدماته من الخطوط السعودية التي عمل فيها أكثر من اثنتي عشرة سنة. وبدأ بالإعداد لبحث الدكتوراه في الاستشراق وكانت بعنوان (منهج المستشرق برنارد لويس في دراسة الجوانب الفكرية في التاريخ الإسلامي).
     تقدم مازن بخطة بحث حول الاستشراق الفرنسي بعنوان (أثر الاستشراق الفرنسي في الصراع الفكري في المغرب العربي بين الحربين العالميتين) ولكن الموضوع لم يرق عميد المعهد حينذاك الدكتور عبد الله الرحيلي. وقد قدّم مازن موضوعه في ندوة عامة في المعهد حضره كل منسوبي قسم الاستشراق وبعض الأساتذة من أقسام أخرى. وحوّل الموضوع إلى لجنة لدراسة الموضوع وبعد شهر قدمت اللجنة مرئياتها وحاول مازن أن يأخذ بالممكن من هذه المرئيات. وواصل كفاحه للحصول على الموافقة على الموضوع حتى وصل إلى مجلس المعهد في رمضان عام 1409وناقشه المجلس مناقشة مطولة ولم يبق سوى تحديد اسم المشرف. ولكن نظراً لغياب مدير المعهد حينذاك (وربما لتوجيهات سرية) لم يذكر الموضوع في محضر الجلسة) وأنيطت مسألة اختيار المشرف بالمدير. وكان من المقرر أن يتم ابتعاث الطالب (المحاضر) لدراسة اللغة الفرنسية في فرنسا وجمع المادة العلمية.
      وتدخل أحد الأقارب فذكر لمدير المعهد أن مازن لا ينبغي أن يسافر إلى فرنسا لحاجة والديه له لكبر سنهما. فما كان من الشيخ صلاح إلاّ أن زار المعهد وذكر للمدير أنه ليس بحاجة لولده وأنه ما كان ليقف في طريق تعلم ولده. وهنا ذكر له مدير المعهد إصرار مازن على البحث في موضوع معين رغم أن المصلحة ليست في هذا الاختيار فما كان من الشيخ صلاح إلاّ أن قال له هذا أمر داخلي تتفاهم فيه مع مازن. وهنا قال مدير المعهد إن مازن يتهمني بالدكتاتورية والتسلط فقال له:" يا دكتور عبد الله أنت رئيس ومازن مرؤوس وما كان للرئيس أن يحقد على مرؤوسه والشاعر يقول:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب              ولا ينال العلا من طبعه الغضب. فوجم الشيخ الدكتور ساكتاً.
    ومن هنا أو قبله بدأ الصراع الذي تطور إلى تأليف لجنة من الكلية للتحقيق مع مازن فيما ينسب إليه من اتهامات أبسطها أنه يريد أن يهدم المعهد وإلاّ فإن قائمة الاتهامات تحتوي :
        الكذب والكبرياء ونكران الجميل ولعل من الممكن أن الرحيلي قال في مازن ما لم يقله مالك في الخمر. ولما كان المطلوب المثول أمام لجنة دون أن يكون هناك لائحة اتهام فقد رفض مازن في المرة الأولى وأخيراً مثل أمام اللجنة وكان بعض الأعضاء قد جاءوا ولديهم حكم جاهز وهو الطرد والإبعاد. وشاء الله أن يكون في اللجنة من يخاف الله فخالفوهم الأمر.
وجاءت لجنة من الرياض مكونة من الشيخ الدكتور عبد الله بن عرفة والشيخ الدكتور محمد العجلان أو عبد الله العجلان (أصبح مديراً للجامعة فيما بعد) وبعد جلسات طويلة توصلت اللجنة إلى كثير من الحقائق حول موضوع مازن وحول موضوعات أخرى حيث كان الشيخ محمد صالح أبو زيد قد تقدم بشكوى إلى مدير الجامعة بأن الرحيلي ظلمه وأراد أن يعطيه دبلوماً بدلاً من الماجستير. المهم إن اللجنة توصلت إلى بعض التوصيات أو الحكم ولكن الجامعة نظراً لإصرارها على أن لا يعكر صفو المعهد شيء وأن الذي يعاند ويرفض الظلم يكون مصيره أن يعاقب فقرروا نقل مازن إلى الرياض. وجاء الخطاب وكان المطلوب الانتقال خلال يومين كأن المنقول طرد ينقل بهذه السرعة لا رجل له أولاد وأسره. المهم نفد مازن النقل واستمر في الرياض سنة وكان الأمر أن موضوع الدكتوراه ينقل إلى قسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة ووافق مجلس قسم الثقافة الإسلامية على النقل شريطة دراسة بعض المقررات ولكن مجلس كلية الشريعة رفض رفضاً قاطعاً لأن دعاية الرحيلي ضد مازن قد وصلتهم وربما كان له أصدقاء في المجلس وكادت تحدث معركة في المجلس بين المؤيدين لالتحاقي بالكلية والمعارضين. ولذلك بقي الموضوع معلقاً سنة كاملة.
      وأمر مدير الجامعة أن يعود مازن إلى المدينة بعد لقاء به وإهدائه بعض إنتاجه العلمي حتى إن مازن طلب من مدير الجامعة الدكتور عبد الله التركي حينذاك أن يقدم له كتاب: (التنصير في الخليج العربي) فماطل طويلاً فعرف مازن أنه لا يريد أن يكتب المقدمة) المهم صدر أمر نقله إلى المدينة في شوال 1409 ولم ينفذ النقل إلاّ في ربيع الثاني 1410وذلك لأن وكيل الجامعة للشؤون التعليمية كان الدكتور صالح سعود العلي صديقاً للدكتور عبد الله الرحيلي وكان ينزل عنده إذا جاء إلى المدينة المنورة. وكان لا بد من التقدم للمعهد العالي للدعوة الإسلامية بطلب العودة وإثبات حسن الأخلاق والسلوك الحسن وكان للدكتور صالح العلي عبارة لن ينساها مازن مفادها أن المدة التي قضيتها في الرياض كانت كافية لتأديبك.(سبحان الله هذا إفك كبير) فمازن مؤدب قبل أن يلتحق بالمعهد وبعد أن التحق بالمعهد بل هو مؤدب منذ صغره ولكن طلب العلم والسكنى في المدينة المنورة جعلته يتحمل مثل هذه الافتراءات والبهتان العظيم.
       وعاد مازن إلى المدينة المنورة وكانت هذه المدة قد حسبت عليه في مدة بحث الدكتوراه ذلك أنه حين طلب التمديد قيل له إنه كان في الرياض وكان عليه أن يستمر في البحث وبالله كيف يستمر في البحث وهو لا يدري هل تسجيل رسالته مستمر أو انقطع وكان في ظرف نفسي سيئ فإن انتقاله إلى الرياض أثبت له كم عدد الشامتين من أقرب الأقرباء حتى قال له ابن أحد الأقرباء (هل نقلوك يا عمي تأديباُ) فقال له :"غيري الذين يستحقون التأديب لأنهم سمحوا لمن تسبب في نقلي أن يكون طاغية مستبداً بتمسحهم بهم وتذللهم …"
     وفي رمضان عام 1414 تمت مناقشة رسالة الدكتوراه وحصل فيها على درجة الشرف الثانية بالرغم من أن الذين حضروا المناقشة وكانوا من أساتذة الكلية ومن كلية التربية بالمدينة المنورة رأوا أن مازن قد ظلم في هذا التقدير حيث كان هادئاً في مناقشته وكانت رسالته ممتازة. كما أن الدكتور مازن كان أول طالب يحصل على درجة الدكتوراه في مجال الاستشراق. ومن الملاحظ أن كل الذين ناقشوا بعده حصلوا على الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى ما عدا رسالته مع أن العرف الجامعي أن أول رسالة في أي قسم تعطى درجة الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى حتى لو لم تكن كذلك فما بالك إذا كانت كذلك وقد رضخ المناقشون للاعتبارات الإدارية فأعطوا الباحث 87,5 درجة من مئة. فلم يكن بينه وبين مرتبة الشرف الأولى سوى درجتا ونصف وكان تقدير المشرف أقل التقديرات مع أن المشرف عادة يعطي طالبه (وله رأي يصرح به أن مازن من أفضل الطلاب الذين أشرف عليهم) أعلى درجة تصل إلى أكثر من خمس وتسعين من مائة. ولكن قدر الله وماشاء فعل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية