شعراؤنا الروّاد والنقد الجائر



        يمتاز الأدب عموماً في بلادنا بأنه أدب إسلامي محافظ تشعبت فنونه وتلونت صوره، ولكنه لم يبتعد عن خط الالتزام بتعاليم ديننا الحنيف واستمد جل أعماله المتنوعة الأغراض من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جانب أنه أفاد من آداب البلاد الأخرى ما يرفع من شأوه دون المساس بنهجه الأصيل ومقوماته المحلية العريقة. وهذا يدل دلالة واضحة أن صانعي هذا الأدب هم أيضاً أدباء ملتزمون بديننا الحنيف مرتبطون بنهجنا المميز وهم بحمد الله كُثُر أذكر منهم الشاعر الكبير الأستاذ محمد حسن فقي (رحمه الله) أحد أبرز أعلام نهضتنا الأدبية المعاصرة الذي امتاز بوفرة العطاء وجودة الأداء ونقاء العبارة وعذوبة الموسيقى والرمزية الرائعة ويشهد بذلك دواوينه الكثيرة التي تشهد له بوفرة الإنتاج على مدى بضعة عقود من الزمن.
        وليست وفرة إنتاجه وحدها التي جعلته رائداً كبيراً من رواد أدبنا الحديث فهو إلى جانب الوفرة وضيء العبارة نيّر الفكر يتخذ من الأسلوب القصصي وسيلة إلى ما يريد عرضه. اسمعه معي وهو يروي هذه المداعبة الجميلة التي أجراها بين روض من الرياض وسحاب مر عليه فيقول
        مرّ السحاب على روض فداعبه                 وقال يا روض منّي الزهر والثمر
        لولاي ما جرت الغدران صافية          تروي ولا اخضوضرت في أرضك الثمر
        فقهقه الروض مما قال صاحبه               وقال لولا الثرى لم تُنبت المطر
        منّي ومنك كلانا كل نابتة                  في الأرض يطرب منها السمع والبصر
        مداعبة جميلة بأسلوب قصصي لطيف وموسيقى جذابة وبالإضافة إلى هذا فإن شاعرنا المرهف الحس إذا وصف أتقن الوصف وكأن قلمه ريشة فنان رسام مبدع يرسم الصورة فيعطيها حقها من الخطوط المتقدة والألوان الخلّابة، يقول واصفاً لبنان
        لبنان ما هذي الخمائل                  لبنان ما هذي الجداول
        رنت السفوح إلى الجبال                 وهام تربك بالجنادل
        ما بين زقزقة الطيور                     وبين وشوشة الخمائل
        والريح تعصف ثم تأذن                  للنسيم بأن يغازل
        والسحب تنعشنا بطلٍّ                  ثم تدهمنا بوابل
        وترى الضباب على الربوع               كأنها أبهى الغلائل
        وكأننا قمم الجبال...                    توشحت بيض الجدائل
صور حيّة جميلة كأنها شريط سينمائي ينقل لنا المشهد والصوت وحتى الرائحة
        وقد طرق شاعرنا الكبير أبواب الشعر المختلفة وكان مبدعاً فيها، فها هو يقول في الغزل
        أنا أهواك فلأذق غصص الحب         وحيداً فلست فيه بصاحي
        شقوة الحب خمرة تنعش الروح           وتسمو به على الأتراح
        فاسقنيها فما أطيق فكاكاً               من قيودي وما أطيق سراحي
        وتارة تراخ حزيناً يبكي الأخوة والرجولة فيقول معبراً عن أحزانه 
         أأرثيك أم أرثي النهى والمشاعرا         وأبكيك أم أبكي الرؤى والخواطر
        أراك بقلبي ماثلاً كل لحظة               فتهتف بي عيني: أما زلت ذاكرا
        هذا غيض من فيض شاعرنا الأديب، وما أردت في هذه العجالة دراسة لأدب عملاق من عمالقة الأدب في بلدنا الطيب فذاك يحتاج إلى مجلدات ومجلدات فهل يشمّر أبناؤنا في الدراسات العليا في أقسام اللغة العربية وآدابها أو الأقسام الأخرى عن ساعد الجد ويقدموا دراسات جامعية حول شعر الأستاذ الكبير محمد حسن فقي (رحمه الله) وأين الأساتذة يدربون تلاميذهم على خوض هذه الموضوعات الجادة.
        وما كتبت هذا إلّا رداً على أقوال رخيصة صدرت من بعض المرضى المنتسبين للأدب والثقافة الذين حاولوا يائسين الانتقاص من قدر روادنا العمالقة بنقد جائر كان أقرب إلى الهجوم المتشنج والسِباب الفاحش منه إلى النقد
        وأين هذه الشرذمة المريضة من المقدمة التي كتبها الأستاذ عبد العزيز الربيع -رحمه الله- حين قدّم لديوان الشاعر الكبير محمد حسن فقي: قدر.. ورجل، حيث كتب قائلاً: " إن شعره (الفقي) يمتاز بالديباجة الصافية والبيان المشرق والتعبير الأنيق والبراعة في توليد المعاني وتلوين الصور، وبعث الحياة والحركة فيها." وليت هؤلاء المرضى يقرؤون ما كتبه الناقد البصير محمد الحامد في كتابه "الشعر الحديث في المملكة العربية السعودية خلال نصف قرن (ص 446) حيث وصف شاعرنا الكبير محمد حسن فقي بأنه " طويل النفس والاستقصاء والروح القصصية والوحدة وعمق الشعور بالألم المرير وكثرة شعره الجيد لا يعد شاعراً أصيلاً فحسب بل ومن شوامخ الشعراء المعاصرين...فلا يباريه في هذا الميدان أي فارس، إنه أكبر شعراء المملكة"
        كما أن الأستاذ مصطفى زقزوق كتب منافحاً عن روادنا الشعراء في وجه هذا النقد الجائر فقال: "فلا تظلموا الأدب ولا تعتدوا عليه فيصبح سخرية لتسمية أخرى لا تليق بمكانته وجوهره ولا تتماشي مع بربية السماء ونص صريح في قوله عز من قائل (وقولوا للناس حسنا) أما التجريج والتنديد والتعريض فلا بد أن يكون له عقاب أقله طرد أولئك وإعادتهم إلى جحورهم.
        وقد كتب الأديب الناقد الدكتور عاصم حمدان في أكثر من مناسبة كاشفاً خبث أولئك الذين يريدون النيل من مكانة رواد الأدب والشعر في بلادنا ولا يضيره أنه لم يكتب دراسات نقدية حول إنتاج هؤلاء الرواد فالدراسات موجودة والريادة ثابتة ولكن العيب إنما هو في أولئك الذين لا يستطيعون رؤية الشمس في رابعة النهار.
وقفة مهمة
        قبل عشرين سنة تقريباً لم تكن حرفة الكتابة والأدب قد أدركتني ولكن يبدو أنني كنت في بداية الإصابة بها قرأت قصيدة للشاعر الفذ محمد حسن فقي بعنوان (رحاب الحجاز) فنسختها كاملة وها هي بعض أبياتها
        يا رحاب الحجاز فيك ترعرعت      أحببت بهجتي واكتئابي
        وبمغانيك حلوة كان شجوي وغنائي     ومأكلي وشرابي
        ما أرى في الحياة حسناً يناغيني          ويسبي كحسنك الخلّاب
       
        إنّ حكم القضاء سار على الخلق        لزام من أقدم الأحقاب
        خير حاليك أن تسمله الأمر             فبعض السكوت بعض الجواب
        لم أكن بالغبي يوماً ولكنّي               تعلمت من ذكائي التغابي
               



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية