اللقاء مع مجلة المستقبل الإسلامي أجرى الحوار وليد سعيد باحكم العدد (73) جمادى الأولى 1418هـ


ما هو الاستغراب
يمكن تعريف الاستغراب أسوة بالاستشراق فنقول: هو طلب علوم الغرب، أي دراسة الغرب (أوروبا وأمريكا بما في ذلك روسيا وأوروبا الشرقية) من جميع الجوانب: لغة وعقيدة وتاريخاً واجتماعا وسياسة واقتصاداً، ولا بد أن نفرق بين مصطلحين هما التغريب والاستغراب، فالتغريب هو ما حاول الغرب أن يفرضه على الشعوب الإسلامية من تبني الفكر الغرب والمناهج الغربية في شتى مجالات الحياة: في الساسة والاقتصاد والاجتماع والعمران، أو هو سلخ الشعوب من هويتها الأصلية إلى هوية غريبة عنها هي الهوية الغربية، وأطلق على من تبنى الفكر الغربي متغربين أو مستغربين أي مالوا إلى الغرب، ولكننا هنا نقصد دراسة الغرب دون التنازل عن الذات.
هل هناك بدايات الاستغراب (نظرة تاريخية مختصرة)؟
        إذا أردنا التاريخ البعيد لدراسة الغرب فإنّ ما قام به العلماء المسلمون في بداية الحضارة الإسلامية من ترجمة الكتابات اليونانية في شتى المجالات ودراستها والتعليق عليها بالشرح والنقد فإن هذه البداية، بدأت متواضعة في الدولة الأموية ثم قوية وأصبحت حركة قوية في العصر العباسي في عهد المأمون ومن بعده.
        أما الاستغراب الحديث فيمكن أن تكون بدايته مع رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وبعض العلماء الأتراك والسفراء والأدباء والمفكرين، وظهر مستغربون معاصرون منهم من تمسّك بالهوية الإسلامية ومنهم من تخلّى عن هذه الهوية ومن هؤلاء على سبيل المثال: طه حسين وأحمد أمين وأحمد لطفي السيد ولويس عوض وغالي شكري وغيرهم.
لماذا الاستغراب كأسلوب معرفي؟
الاستغراب إنما هو أداة ووسيلة لمعرفة الغرب، فنحن نردد دائماً "اعرف عدوّك" فالاستغراب هو الوسيلة لمعرفة الغرب في جميع الجوانب، ومادام الغرب هو الذي تسود حضارته في العالم في العصر الحاضر فلا بد من هذه الوسيلة لمعرفته.
هل الاستغراب رد فعل على الاستشراق؟
اللفظ يدل على أنه كذلك، ولكن في واقع الأمر لا ينبغي أن تنطلق أفعالنا من رد الفعل لغيرنا. يجب أن تكون لنا مبادرتنا في دراسة الغرب لأن بقاءنا في دائرة رد الفعل يفقدنا القدرة على التأثير فيما حولنا ويفقدنا القدرة على الريادة والإبداع.
هل يمكن الاعتماد عليه كسلاح لمواجهة الاستشراق؟
        مواجهة الاستشراق تحتاج منا إلى أكثر من سلاح؛ أحدها متابعة الاستشراق أو الدراسات العربية أو دراسات الشرق الأوسط التي تتم في الجامعات الغربية متابعة دقيقة فالتعرف على أنشطة الغربيين في هذا المجال والمشاركة في الأنشطة العلمية من ندوات ومؤتمرات ومحاضرات والاشتراك معهم في دورياتهم. كما يمكن مواجهة الاستشراق بالقيام بأنشطة مماثلة بأن تكون لنا ندواتنا ودورياتنا التي تقدم فيها الإسلام للعالم بأسلوب علمي متزن فقد تغلّب علينا الغرب بقدرته على الوصول إلى المثقفين في أنحاء العالم فأصبحت النظرة للإسلام نتيجة ما يقوله الغرب.
ما أهمية الاستغراب وفوائده؟
        قيل "المعرفة قوة" ونحن أمة العلم، فأول كلمة نزلت من القرآن الكرم هي "اقرأ" وأقسم الله (سبحانه وتعالى( بالقلم "ن، والقلم وما يسطرون"، وقرن سبحانه وتعالى العلماء مع نفسه في قوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو الملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط) ودليلنا على ضرورة المعرفة أن القرآن الكريم ذكر أهل الكتاب عموماً وخص بني إسرائيل بآيات كثيرة كما تناول النصارى وموقفهم من عيسى عليه السلام ومن المسلمين ، وتناول القرآن الكريم الجاهلية وعقائدهم وسلوكهم الاجتماعي والاقتصادي وتناول نموذجاً من الجاهلية السياسية كما في مثال فرعون الذي ورد ذكره أكثر من سبعين مرة، وتكمن أهمية علم "الاستغراب" وفوائده فيما قدمه حسن حنفي في مقدمة كتابه (مقدمة في علم الاستغراب) كما يأتي:
1-             مهمة علم الاستغراب هو فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس. وتحويل الشعوب غير الأوروبية من مستهلكة للثقافة والفن والعلم الأوروبي لتقوم بإبداعها الخلّاق.
2-             القضاء على المركزية الأوروبية...ورد ثقافة الغرب إلى حدودها الطبيعية بعد أن انتشر ت خارج حدودها إبان عنفوان الغرب الاستعماري من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام وهيمنته على وكالات الأنباء ودور النشر الكبرى ومراكز الأبحاث العلمية والاستخبارات العامة
3-             إنهاء أسطورة كون الغرب ممثلاً للإنسانية جمعاء وأوروبا مركز الثقل فيه، تاريخ العلم هو تاريخ الغرب، وتاريخ الإنسانية هو تاريخ الغرب، وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة الغربية وحتى الحروب الأوروبية هي حروب عالمية...الخ.
معرفة الإسلام أولاً
    أول هذه الضوابط هو معرفة الإسلام معرفة عميقة والاعتزاز بالإسلام، فأي دراسة للغرب دون هذه المعرفة العميقة فسوف تتسبب في إصدار أحكام قد تكون خاطئة، فالإسلام هو الميزان والمعيار والمنهج، وكما قال الله عز وجل (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) والجهل بالإسلام أو عدم الاعتزاز به قد يقود إلى ما اسماه حسن حنفي الاستغراب المقلوب وشرح ذلك بأن المفكر والباحث المسلم يصبح أسير النظرة الأوروبية إلى الإسلام وتراثه وثقافته فتصبح النظرة إلى الإسلام من خلال التراث الغربي في أحد مذاهبه مثل الشخصانية أو الماركسية...الخ. وقراءة التراث الإسلامي من منظور الجزء الدخيل مما يطمس خصوصية التراث المقروء وهذا ما يحدث في كتابات هشام جعيط مثلاً وكتابات محمد عابد الجابري للعقل العربي أو محمود إسماعيل للتاريخ الإسلامي وصادق جلال العظم في كتابه (نقد الفكر الديني) وغيرهم كثير.
    ومن الضوابط أيضاً أن يتحرى المسلم العدل في نظرته إلى الحضارة الغربية وهو أمر أساس في تربية المسلم حيث يقول الله عز وجل (ولا يجمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا، اعدوا هو أقرب للتقوى) والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها كما جاء في الحديث الشريف فلا بد أن نعرف أن للغرب إيجابيات كثيرة يجب أن نتعلمها منه، وأن ننظر إليه وفقاً للمنهج القرآني ، كما قال الله سبحانه وتعالى (وإن من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلّا ما دمت عليه قائماً، ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) ومن الضوابط أيضاً إتقان اللغات الأوروبية فلا يكتف الباحث مما ينقل إليه مترجماً فلا بد أن يعرف لغة القوم معرفتهم لها أو أحسن فيفهم ما يقولون وما يكتبون فهماً صحيحاً
هل يمكن الإفادة من الطلبة الذين درسوا في الغرب في مجال التعرف على الغرب؟
        يمكن ذلك فمعرفة الغرب من خلال المعايشة من أفضل وسائل المعرفة فإن الإعلام أو الزيارات السريعة لا تقدم معرفة عميقة أو دقيقة، ويمكن ذلك بتوجيه الطلاب لدراسة قضايا في المجتمع الغربي أو علم النفس مطبقاً على الغرب أو الانثروبولوجي أو غيره من المعارف، ويمكن للطلاب والباحثين في الغرب أن يفيدوا من وسائل البحث العلمي المتوفرة في الغرب كما قال إدوارد سعيد لبعض الطلاب اللبنانيين "ادرسوا لبنان إذا رجعتم إليه ولكن هنا -في أمريكا - ادرسوا قضايا أمريكية."
هل تقترح إنشاء مؤسسة الاستغراب؟ وما هو تصوركم لعمل تلك المؤسسات؟
        لقد قدّم الدكتور السيد الشاهد اقتراحاً مفصلاً في صحيفة مرآة الجامعة التي تصدر عن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قبل عدة أعوام كما كتب حول الموضوع في مجلة الاجتهاد وفي صحيفة المسلمون كما قدم الدكتور حسن حنفي في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب) تصوراً مفصلاً لهذا العلم، وإن لم أحد خطوات عملية، وحبذا لو قامت إحدى الجامعات بتكليف أساتذتها لإعداد تصور علمي لدراسة الغرب، وإنني أعتقد أن الأسس النظرية لهذا العلم موجودة  ولم يبق إلّا الخطوات العملية للتنفيذ ، أما إنشاء مؤسسات للاستغراب فحبذا لو ابتعدنا عن هذه الكلمة فنحن بحاجة إلى معاهد ومراكز بحوث وكليات وأقسام للدراسات الأوروبية والأمريكية ويمكن دراسة الغرب من خلال الأقسام العلمية الحالية مع وجود رابة كما تفعل الجامعات الأمريكية حيث تتم دراسة العالم الإسلامي أو الشرق الأوسط في جامعة بيركلي في ثمانية عشر قسماً علمياً منها : علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والدراسات الدينية وغيرها ويقوم مركز دراسات الشرق الأوسط بالتنسيق بين مختلف الأقسام.
        فلا يمكن دراسة الغرب كله في قسم واحد كما كان الاستشراق يفعل قبل أكثر من خمسين سنة فقد أنشؤوا ما يسمى دراسة المناطق أو الأقاليم، فتتم دراسة الإقليم من جميع النواحي أو يتخصص أشخاص في جوانب في هذا البلد أو ذاك، كما إننا في الوقت نفسه في حاجة لدراسة الشرق: اليابان وكوريا والصين وماليزيا والفلبين وبورما وأستراليا والهند ونيوزيلندا. إن المعرفة العلمية الدقيقة مطلوبة في جميع جوانب الحياة؛ فقد زرت شركة الخطوط الهولندية فوجدت أن في الشركة مكتبة لا تحتوي على الكتب الاقتصادية وفي لوم الطيران بل إنما تحتوي على كتب حول المدن الأخرى في مجالات المعرفة المختلفة. فعندما يذب وفد من الخطوط الهولندية أو تستقبل الشركة وفداً من دولة ما، فإنهم يعدون دراسة كاملة تضم النواحي الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغير ذلك. أما تصوري لعمل المؤسسات فهو أنها يجب أن تبنى على أسس واضحة من ناحية المنهج أولاً ثم يجب توفير كافة الإمكانات لها، فليس المطلوب أن تكون باذخة في الشكل وضعيفة في المضمون، فلا بد من الاعتدال في الشكل والتركيز في المضمون.
ألا تعتقد أن غياب الكثير من مراكز البحث العلمي في العالم العربي يقلل من فاعلية الاستغراب وأهميته؟
        يعاني البحث العلمي في العالم العربي والإسلامي معاناة كبيرة فما ينفقه العالم العربي والإسلامي يعد قليلاً جداً مقارنة بما تنفقه الدول الأوروبية أو دول جنوب شرق آسيا، فكأننا والبحث العلمي وأنشطة أخرى بين إفراط وتفريط، فنحن حين ننفق على الترفيه والرياضة الشيء الكثير لا ينال البحث العلمي إلّا أقل القليل. أين ما يقدمه الأثرياء أو المؤسسات المالية في العالم العربي تدعم مراكز البحوث في العالم الغربي بمبالغ كبيرة، وتبخل على الجامعات العربية الإسلامية. وهذا أحد أسباب هجرة الأدمغة أو نزيف الأدمغة.
         ومن الطريف أن الجامعات الغربية عموماً وحتى المدارس الثانوية تنشئ روابط للخريجين الذين لا يبخل الأغنياء منهم عن تقديم التبرعات السخية لمدارسهم أو جامعاتهم، فأين الأثرياء من خريجي الجامعات العربية الإسلامية؟
        ولا بد أن أشير إلى مسؤولية الباحثين المسلمين في تنشيط حركة البحث العلمي والرفع من مستواها مهما قلّت الإمكانات فهم المنوط بهم أن يرفعوا من مستوى البحث لأنه في نظرهم لا يوفر الحياة الكريمة الباذخة بالنسبة للبعض فانصرفوا إلى مهن أخرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية