فرنسا والغرب واحترام العلم


زرت مكتبات كثيرة في حياتي العلمية ولم أجد أسهل من المكتبات في العالم الغربي حيث زرت المكتبة الوطنية في باريس وكان هناك ازدحاماً في المكتبة (مقرها القديم) فانتظرت حتى يفرغ أحد المقاعد، وحالما وجد المقعد نودي علي ودخلت ومعي رقم الكرسي الذي أجلس فيه. وكان الذي أعطاني الرقم وسمح لي بالدخول أحد موظفي الاستقبال، فلم يأمرني بالانتظار ريثما يسأل رئيسه أو رئيسته في العمل كما هو الحال في المكتبات في العالم العربي. وبدأت البحث وقدمت إلي الخدمة مثل أي باحث آخر وهو أنه من حقي أن أطلب عشرة كتب أو وثائق في اليوم الواحد. وكانت المكتبة مزدحمة حقاً ولكن هادئة حتى إنك لا تسمع سوى كتاباً وضع على طاولة أو صفحة تقلب أو خطوات تسير بهدوء.  ويستغرق وصول الوثيقة أو الكتاب أو المجلة ساعة كاملة ولكن من حقك أن تطلب ثلاثة أشياء دفعة واحدة.
وجلست ووجدت أمامي رجلاً لا يقل عمره عن السبعين سنة إن لم يكن أكثر وهنا تذكرت شيباً في بلادنا ينشغلون بأمور بعيدة عن العلم والتعلم بينما لا يكاد هذا العجوز يمشي مشية صحيحة ومع ذلك فها هو في المكتبة. وفي الوقت الذي أمتدح هذا العجوز الفرنسي لا أنسى أننا في العالم الإسلامي كان علماؤنا يسعون إلى طلب العلم حتى وإن كان الواحد على فراش الموت.
وفيما أنا في باريس سمعت بأخبار عن تعرض السودان لغارة على إذاعة أم درمان، وهنا صدرت أصوات الاستنكار من أنحاء العالم العربي فالحسين يشجب وأمريكا ترسل طائرة أواكس التجسسية ومصر تنشّط معاهدة الدفاع المشترك، وتقول إن حدود السودان هي حدودها وحدودها هي حدود السودان. ومع كل هذا فلم أفهم من الذي أغار ولماذا إذاعة أم درمان؟ لماذا لم يغيروا على قصر السلطان أو على ثكنة عسكرية أو غير ذلك؟ لماذا على الإذاعة والإذاعات العربية لا تزيد نسبة الصدق فيها على العشرة في المائة؟ لقد قيل للشيخ إبراهيم الأخضر لماذا لا تقرأ القرآن ليذاع في الإذاعة فقال إن القرآن تفتتح به الإذاعة حيث لا يجلس أحد للاستماع وكذلك في ختم البرامج (قبل أن توجد إذاعات للقرآن الكريم) ، أما لو جعل ضمن البرامج قبل نشرة الأخبار أو بعدها أو قبل التمثيلية أو بعدها فإني مستعد للقراءة.
وذهبت إلى الحي اللاتيني الذي يذكّر بأيام باريس البوهيمية والمركز الثقافي للمدينة حيث يتجمع المثقفون والأدباء وغيرهم. وفي الحي اللاتيني المتاجر الغريبة والكنائس على الطراز القوطي القديم.كما تكثر فيه التماثيل للشعراء والكتّاب حتى إن أحد هذه التماثيل للكاتب مايكال إيقويم دو مونتين (1533-1592) Michel Eyquem de Montaigne ولدى طلاب السوربون خرافة أن من يلمس قدمي الكاتب قبل الامتحان يناله حظ جيد.  وقد لفت انتباهي وجود أناس من مختلف الجنسيات والألوان والأعمار، فكنت أتعجب إن وجد العرب وبخاصة من شمال أفريقيا الذين استعمرت فرنسا بلادهم والأفارقة الذين خضعوا للاحتلال الفرنسي فما بال الأسيويين من الصين واليابان والهنود وغيرهم. وقريباً من الحي اللاتيني يوجد على أسوار إحدى الحدائق سوق حراج للأنتيكات وغيرها.
ومن الحي اللاتيني كان لا بد من زيارة شارع الشانزلزيه وهو من أجمل شوارع باريس وحتى في العالم لجماله واتساعه حتى قيل إن المهندس الذي صممه قيل له إنه واسع جداً (أكثر من مائة متر) فقال سيأتي زمن يحتاج الناس إلى هذا الاتساع، وهذا يلفت انتباهنا إلى من يخطط الشوارع في عالمنا العربي كيف لا يمتلكون بعد النظرة والرؤية على العكس من تخطيط عمر بن الخطاب رضي الله عنه للكوفة وكيف جعل شوارعها واسعة حتى إن أضيق طريق يزيد على ستة أمتار. ويمتاز الشارع بالمحلات التجارية ذات الأسماء التجارية الفخمة وكذلك المطاعم كما أنه يوجد بالقرب منه حدائق يحدث فيها من الموبقات ما يحدث ولكنها تظل حدائق جميلة للنزهة. وفي هذا الشارع توجد مكاتب شركات الطيران المختلفة ومنها الخطوط السعودية والعراقية (عندما كان العراق عراقاً) والخطوط الإيرانية والإيطالية والفرنسية وغيرها.
ورحلت من باريس إلى الجزائر وعند ركوب الطائرة كان هناك تفتيشاً للحقائب اليدوية والذين يعتقدون أن التشدد في التفتيش جديد هم مخطئون فهو قديم، ومررت دون تفتيش. وقد تأخرت الطائرة خمسة دقائق وما أن ركبنا حتى قال قائد الطائرة سوف نقلع بعد دقيقة وهم لا يعرفون إن شاء الله. وهذا يذكرنا أن الطائرة المصرية التي تم تفجيرها وفيها عدد كبير من الضباط المصريين اتهموا قائد الطائرة أو مساعده بقول توكلنا على الله ويزعمون أنها إشارة إلى الانتحار فأصبحت هذه العبارة من العبارات التي يلتزمها كثير من القباطنة في العالم العربي.
ها أنا أزور الجزائر وأشعر كأني ذاهب إلى جدة فهناك من أعرف ويعرفني ويسأل عني ويهتم بشؤوني. وما أن حطت الطائرة في أرض المطار حتى أتي بالسلّم وكنت في الصفوف الخلفية فصرت أول من نزل، وجميل أن الجزائريين يساوون بين مواطنيهم والضيوف فلم نتأخر كثيراً في الوصول إلى مكان الحقائب، وكان الاستقبال جيداً من موظفي الجوازات والجمارك ربما لأن الرحلة قادمة من فرنسا وليس من بلد عربي حيث يبالغون في السؤال عن العمل ومكان الإقامة وسبب الزيارة. وقد كان في استقبالي وسيم بن الصديق عبد القادر ربّاني فأوصلاني إلى منزلهم الذي كان مكتظاً بالزوار لأن صديقي كان قد أجرى عملية المرارة ودارت أحاديث عن العروبة والإسلام ولماذا كانت فرنسا تخشى الإسلام والاتجاهات الإسلامية وقد انتقل هذا الخوف إلى الدول العربية والإسلامية عموماً. وكان هذا الحديث عام 1404هـ(1984) وقد ازداد هذا الخوف أضعافاً مضاعفة.
وفي إحدى رحلاتي إلى باريس لشراء الصحف والمجلات الجزائرية القديمة كان من المقرر أن نزور فرع المكتبة الوطنية في فراساي وهي إحدى ضواحي باريس ويسير إليها قطار الأنفاق المتجه إلى بالارد Ballard رقم 8 وعند محطة إنقالد Invalid أخذنا القطار المتجه إلى فرساي وحصلت من هذه المكتبة على بعض المقالات ولمّا سألت عن إحدى المجلات قالوا إنها في المكتبة الوطنية في باريس التي كان عمالها مضربون عن العمل ولمّا سألت عن إمكانية إرسال الصورة ذكروا أنها تستغرق شهرين أو علي الحضور بعد انتهاء الإضراب في اليوم التالي.

وبعد هذه الخواطر وجدت أن لدي دفتر مذكرات آخر تحدثت فيه عن رحلتي إلى الجزائر الأولى 11-16 جمادى الأخرة 1405هـ (2-7مارس 1985 والرحلة الثانية من 25 إلى 28 رمضان 1405هـ (12 إلى 15 يونيه 1985م) 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية