الأرشيف الوطني الفرنسي لما وراء البحار



كان الوصول إلى باريس سهلاً جداً والمغادرة أسهل وقد كتب صحفي قبل أكثر من خمس عشرة سنة أن السلطات تنظم الوصول إلى المطار والخروج منه في خمسة دقائق أو أكثر من ذلك قليلاً، وهذا التنظيم لو تعثر قليلاً لتسبب في ازدحام في الشوارع المحيطة بالمطار. ويا ليت المطارات العربية والعالمية تأخذ بمثل هذا التنظيم ففي آخر رحلة لي إلى الجزائر ومن الجزائر إلى وهران كان علينا الانتظار وقتاً طويلاً وكأنه يتعمدون إزعاج الركاب حتى كنت أقول إنهم يحملون الحقائب من الطائرة إلى الصالة. فما أن خرجت من الطائرة حتى وجدت أن عليّ الركوب في الحافلة إلى الصالة الثانية التي تسمى الحافلة الدائرية لأواصل الرحلة إلى مدينة نيس. ووصلت مدينة نيس فاشتريت تذكرة الحافلة إلى مدينة إكس إن بروفانس. ولما كان أمامي بعض الوقت فوضعت حقيبتي في مستودع الحقائب بعشرة فرنكات فرنسية ريثما يحين موعد الحافلة على الساعة الثانية عشرة وأربعين دقيقة.
بدأت الرحلة وكان الطريق يسير بمحاذاة البحر حتى مدينة كان (المشهورة بمهرجاناتها السينمائية وبالمترفين) ثم سار برّاً بين الحقول والمزارع والغابات والقرى الصغيرة، وكانت مدة الرحلة ثلاث ساعات وعشرين دقيقة. ووصلت إلى الفندق الذي كانت لا تزيد عدد غرفه على سبع وثلاثين غرفة وكانت الأجرة لا تزيد على ستين فرنكاً ولا تزيد عدد نجوم الفندق عن نجمتين ولكنه نظيف ومرتب، فهو فيما يبدو مخصص لطلاب الجامعة أو زوارها.
كان أول موعد لي في بروفانس مقابلة البروفيسور روبرت مانتران ومعي ورقة من المشرف باللغة الفرنسية لأستفيد منه في بحثي فعرفت مباشرة أن مانتران متخصص في تاريخ الدولة العثمانية وليس التاريخ المعاصر. فأرشدني لمقابلة البروفيسور برونو إتيان Etienne الذي لم يكن موجوداً بل ردت عليّ ابنته باللغة الإنجليزية أن والدها يزور باريس في ذلك الوقت.  ولم أتمكن من مقابلته وقد عرفت فيما بعد أنه من المستشرقين الذين لهم موقف من الإسلام والحركات الإسلامية وهو عالم اجتماع وليس مؤرخاً.
لقد جبت شوارع بروفانس مشياً على الأقدام ولا يستغرق ذلك أكثر من ساعتين أو زيادة قليلاً. وفي أثناء سيري في شوارع المدينة رأيت لوحة مكتوب عليها مركز دراسات مجتمعات البحر المتوسط، فدلفت إليه ومكثت في المكتبة عدة ساعات خرجت بمذكرات جنرال فرنسي عن الجزائر كتبه عام 1947م مكتوب على الآلة الكاتبة (الراقنة كما يقولون في الجزائر)، وعلمت أن هناك باحثاً جزائريا يبحث في تاريخ جمعية العلماء، ولكني لم ألتق به وإن كنت قد التقيت بباحث جزائري متخصص في التاريخ وقد أمضى في فرنسا ثماني سنوات حتى إني لما سألته عن المسجد قال لي ساخراً (دع المساجد للعباد تسكنها وطف بنا حول خمّار ليسقينا). ولم أبحث عن باقي البيت حتى أخذته من قوقل الآن، وأحمد الله أنه لم يكن يهمني معرفة مثل هذا الكلام ولكن أزعجني سخريته من سؤالي عن مسجد.
ولقيت باحثاً فرنسياً في المقهى فقال لي: هل تظن أننا نستطيع أن نفهم بلادكم، وما يحدث فيها؟ قلت له "وهل أنا أفهم ما يحدث في بلادي، ثم أكملت: بلادنا مهمة واستراتيجية وكل دولة من الدول الكبرى تحاول أن تسيطر عليها وولاؤنا موزع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي (لم يكن قد سقط بعد) وشعوبنا ليس لها من الأمر شيء"، فلماذا لا يحدث فيها ما يحدث، فقال يبدو أنك متأكد مما تقول، فقلت له ولِمَ لا؟
أردت أن أزور مركز دراسات مجتمعات البحر المتوسط فركبت سيارة أجرة، ولكن عرفت من خلال المشوار أن الطريق سهل ولا يحتاج إلى سيارة أجرة. وقد حدث لي موقف مشابه في أورلاندو بفلوريدا حيث أخذت سيارة أجرة إلى المؤتمر فكانت الأجرة خمس عشرة دولاراً فعرفت الطريق فقررت العودة مشياً حتى يكون المشوار بسبعة دولارات ونصف.
ومن طرائف بروفانس كثرة حنفيات الشرب في الشوارع والميادين والحدائق وليس هناك من يشرب لأن الجو بارد. كما تنتشر في هذه المدينة الكلاب فلكل كلب حارس أو حارسة أو صاحب أو صاحبة.كما لاحظت قلة عدد الأطفال وهو أمر تشكو منه فرنسا منذ زمن طويل وهو ما كتبته لواجب مادة الأحياء عام 1970م عندما كنت أدرس في جامعة أوريجنOregon بمدينة يوجين Eugene. وقد حدث شيء جميل أن بدأ وزني ينقص فقد انخفض مقاس بنطلوني أربعة أرقام وكذلك المعطف حيث كنت لم أتناول وجبة كاملة عدة أيام بل أحصل على قطة واحدة من البيتزا التي كانت تصبح باردة بعد خروجها من الفرن بوقت قصير جداً.
ولمّا كنت موظفاً في الخطوط السعودية في إدارة الاتفاقيات الثنائية حيث كنت المدير وعلمت أن مدينة بروفانس تضم أحد المعاهد القليلة التي تدرس قانون النقل الجوي وقضايا أخرى تتعلق بالنقل، فقد حملت رسالة من مدير الخطوط الإفريقية وقد كان من موريتانيا وقد درس في بروفاس إلى مدير معهد النقل الجوي فدعاني إلى العشاء في منزله وحضر العشاء بناته الثلاثة وابنه الذي كان يجيد الإنجليزية. وأما إحدى بناته فكانت برفقة زوجها ولم يكن سلوكها مهذباً. ومن اهتمامات المعهد إدارة الطيران وقضايا ازدحام المطارات، وبناء مواد الطيران، والوكالات السياحية وتوسعة المطارات وتنظيم الاستثمار في النقل الجوي ويقوم بأبحاث في مجالين هما: النواحي القانونية والنواحي الاقتصادية. فكان الحديث حول مسائل النقل الجوي وكم كنت أتوق للحصول على ماجستير في قانون النقل الجوي بعد أن أمضي ستة أشهر في تعلم اللغة الفرنسية، ولكن لم تكن الخطوط السعودية حينها تشجع المبادرات الشخصية.
حملت خريطة لمدينة بروفانس وسرت باتجاه إحدى الحدائق وقد كانت صغيرة نسبياً بالنسبة للحدائق في أوروبا والغرب عموماً أما في مقاييسنا فهي كبيرة حيث كانت تتجاوز عشرة آلاف متر مربع وليست كحدائق جدة في عهد (أمينها) محمد سعيد فارسي حيث كانت أراض ضائعة لا تصلح لشيء فيتم جعلها حديقة (أي لا يطمع فيها أحد من الأكابر)
وقد شاهدت في تلك الحديقة رجالاً يتعاطون الخمر من الصباح الباكر وكأنهم يتمثلون بيت الشاعر (وداوني بالتي كانت هي الداء) كما وجدت بعضهم يرتدي الأقراط في أذنيه وهي مسألة لها دلالة خاصة عندهم لا أحب أن أخوض فيها.
اتجهت إلى وسط المدينة بكل سهولة وبدون استخدام الخريطة حيث إن اللوحات التي تشير إلى وسط المدينة كثيرة، وفي الطريق مررت بسوق النباتات والزهور، وقد لاحظت أن أثمان النباتات والزهور رخيص جداً فلا تتجاوز أفضل نبتة الثلاثين ريالاً بينما تساوي في بلادنا بين الخمسين والسبعين مع اختلاف مستويات المعيشة، فكأنّ التجار في بلادنا لا يكتفون بهامش بسيط من الربح أو لأن تجارة الزهور والنباتات ليست رائجة عندنا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية