محاولات لتمزيق وحدة الشعب الجزائري تشجيع النزعة البربرية

      الجزائر بلد ملايين الشهداء، بلد الثورة التي أدهشت العالم قبل أن يسمع الناس عن فيتنام، بلد الحرب التحريرية والجهاد الذي أقض مضجع فرنسا ومضاجع أوروبا وأمريكا سبع سنوات ونصف بعد احتلال دام مائة وثلاثين سنة، الجزائر بلد السهول الخصيبة والسواد الشابة التي أقلق نموها السكاني فرنسا وغيرها. هذه الجزائر عاشت منذ الاستقلال أو كما يسمونه هناك استعادة الاستقلال تحت حكم الحزب الواحد، ولكن الحزب الواحد هناك كان اتجاهه اشتراكيا يسارياً على الرغم من عمق التكوين الإسلامي لدى الكثير من أعضائه ويكفينا دليلاً على هذا أن بلداً تقدم على تلك الحرب الضروس تقاوم وتنتصر على فرنسا ومعها أوروبا وأمريكا ما كان لها أن تخوضها إلّا بإيمان المسلم وعقيدته التي يوقن بأنه موعود بإحدى الحسنيين.

    وجد هذا الحزب الواحد بعد أكثر من خمس وعشرين سنة أن الأصوات المعارضة قد كثرت وازدادت قوة فقرر أن يفتح الباب على مصراعيه لتكوين الأحزاب المختلفة، وكأنه يقول لم يعجبكم أن يكون في الجزائر صوت واحد قوي فاسمعوا الآن ففيها ألف صوت وصوت. نعم إن الوضع أشبه بسجين في غرفة لا يسمع إلّا صوتاً واحداً ولكنه لا يكاد يفقه ما يقول هذا الصوت، وفجأة تفتح له الأبواب والنوافذ والسقوف على ضجيج ضخم تتعالى فيه الأصوات من كل مكان فينفر من تلك الأصوات المتنافرة المزعجة لعله يعود إلى ذلك الصوت الواحد الذي سُجن معه دهراً طويلاً وأنّى له ذلك.

     لست فيما سبق محللاً سياسياً يدرك خبايا السياسة الجزائرية المعاصرة ودواخلها ولكني أردت أن أمهّد لموضوع قديم حديث، ففي عهد الاحتلال البغيض درس المستشرقون الفرنسيون بأمر الاستعمار أو رغبة في المعرفة تركيبة المجتمع الإسلامي منذ الفتح فوجدوا أن نسبة من سكانها ذات أصول بربرية أو كما يطلق عليه في الجزائر أمازيغ ([1])، هذه الأصول عمل الإسلام مدة ثلاثمائة سنة وألف على إذابتها وجعل الجزائر أمة واحدة تدين بالإسلام وتتحدث العربية ولكن من طبيعة الإسلام أن لا يطمس المعالم السابقة أو يمحوها بل يترك لها المجال لتعيش ما دامت لا تشكل خللاً في وحدة الأمة. فالجزائر إلى ما قبل الاحتلال الفرنسي وقفت في وجه أوروبا كلها دولة إسلامية قوية ترهب أعداء الله وأعداءها  لا فرق بين من كان من أصول عربية هاشمية أو هلالية أو أصول أمازيغية (بربرية) أو أصول تركية، ولما أصبحت الجزائر بلداً محتلاً وحتى يثبت الاحتلال أقدامه عمد إلى سياسة فرّق تسد، فوجد هذه الثغرة فتغلغل منها كاللص وما كان له أن يدخل إلّا بعد أن أعدّ العدة لتحقيق النجاح، ويقول في ذلك أحد الباحثين "لقد حاول الاستعمار الفرنسي وما زال يسعى بكل الوسائل لاختلاق أسباب الخلاف العرقي بين العرب والبربر بهدف تفتيت الوحدة والوطنية، ولم يجد منفذا يتسلل منه لتحقيق هذا الهدف غير اللغة"([2])

    لقد رأى المستعمرون أن الإسلام هو القوة الموحدة الكبرى لهذا الشعب داخلياً، بل هناك وحدة تربطه بالشعوب الإسلامية الأخرى هي وحدة العقيدة والمصير، لذلك عمل المحتل على محاربة الإسلام منذ وطئت أقدامه أرض الجزائر بشتى الوسائل فعمد أولاً إلى هدم المساجد وتحويل بعضها إلى ثكنات ومستودعات وغير ذلك، ثم وجد أن الأوقاف هي الممول الأول والرئيس للتعليم الإسلامي تضمن استقلاله واستمراره فاستولى عليها فحرم التعليم الإسلامي بذلك من المكان المعد له كما حرمه من المعين المادي، ثم كانت الخطوة التالية أن منع فتح المدارس والكتاتيب إلّا برخصة من الإدارة الاستعمارية، وجعل الحصول على الرخصة صعباً جداً ثم تلا هذا التدخل في مناهج التعليم فيما بقي من معاهد، ومن هذا التدخل منع تفسير القرآن الكريم وبخاصة آيات الجهاد ومنع تدريس العلوم الإسلامية الأخرى.

    ولم يكتف الفرنسيون بهذه العراقيل التي وضعوها في وجه التعليم بل أقدموا على فتح مدارس لأبناء المغرب العربي لينشروا فكرهم ومبادئهم ويحاربوا العقيدة الإسلامية والفكر المنبثق عنها، وفي هذا الأمر يقول الشيخ عبد العزيز الثعالبي–أحد أقطاب النهضة الإسلامية الحديثة في تونس-:"إن التعليم الرسمي المقدم إلينا ليكون أساساً لتربيتنا الاجتماعية هو بعيد عن طبيعتنا..لقد غرس التعليم في نفوس أبنائنا احتقار حضارة آبائهم وتاريخ وطنهم"([3])

    وقد نجح الاستعمار والاستشراق فعلاً في تكوين طبقة من هؤلاء أطلق عليها تجاوزاً "النخبة" ولكن من طبيعة الاحتلال الأوروبي تسمية الأشياء بغير أسمائها كما أطلق على نفسه استعماراً وهو خراب ودمار، وفي وصف هذه الطبقة "النخبة" يقول الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله أنها "طبقة مضطربة العقائد والأفكار والسير والأخلاق، أحسن أحوالها أن تكون مذبذبة بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية، وإلّا فهي في أكثر الأحيان تنسلخ من كل ما يدين به مجتمعها وأمتها وبلادها" ([4])

    وقد كتب أحد علماء الجائر يصف هؤلاء فصوّر أحدهم على أنه كان " متفرنساً في كل شيء في عقليته وأدبه، وفي أخلاقه وعاداته...فهو لا يقيم الصلاة ولا يصوم رمضان، ولا يحرم ما حرّم الله، ولا يؤمن بأن القرآن تنزيل من الله."([5])

    ولو نظرنا إلى الوضع الراهن في كثير من البلاد العربية والإسلامية لوجدنا أن هذه "النخبة" هي التي تملك زمام الأمور في الحكم والصحافة والتعليم والفن وغير ذلك، ولذلك كان من بين ما يشتكي منه إخوتنا في المغرب العربي أنهم يسمعون دعاوى عريضة للتعريب ولا يجدون أي نتائج، ومن أهم أسباب ذلك أن أصحاب الثقافة العربية الإسلامية مبعدون عن المراكز الحساسة في هذه البرامج، بل إنهم يحاربون بشتى الوسائل ومنها غير الشريف.

    كذلك اشتملت الثقافة الأوروبية على تشجيع النزعات العرقية القديمة التي أذابها الإسلام، فكما شجع القومية الطورانية والآشورية والفرعونية والعربية وغيرها فإنه شجع القومية البربرية، وكان من أساليبه في ذلك التركيز على تصوير نفور البربر من الإسلام والصعوبات التي واجهها الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، فهذا أحد المؤرخين الفرنسيين الذي نال حظوة كبيرة في المغرب العربي من إدارة إحدى كلياتها وهو شارل أنبريه جوليان يذكر أن نفور البربر من الإسلام كان شبيهاً بنفورهم من العبادات الفينيقية والوثنية الرومانية وكذلك نفورهم من اليهودية والنصرانية ([6]) فكأنه يدعو أبناء البربر المعاصرين إلى النفور من الإسلام كما نفر أجدادهم (حسب زعمه) ويؤكد هذه الفكرة كاتب أمريكي آخر ولكن بطريقة مختلفة قائلاً:"يجب أن لا يدهشنا توجه الحركة الإصلاحية لمحاربة الطرق الصوفية التي كان يعتنقها البربر لأن هذه الحقيقة تؤكد مواصلة البربر في معارضتهم للإسلام الذي اعتنقه البربر مع محافظتهم على خرافاتهم وعاداتهم القديمة وذكرياتهم لوثنياتهم القديمة أو عقيدتهم النصرانية"([7]) ولكن هل غاب عن المؤلف أن الحركة الإصلاحية حاربت الطرق الصوفية وما فيها من خرافات وشعوذات وبدع سواء كان معتنقوها من البربر أو من غيرهم، ويبدو أن هذا الأمر لا يهمه لأنه يريد إظهار ما في نفسه من التفريق بين البربر وغيرهم في المغرب العربي، وتصل هذه الفكرة مداها في زعم أحد المستشرقين الكنديين أن الإسلام هو الذي تأثر بمعتقدات البربر في قوله:" في المغرب ليس البربر هم الذين تمت أسلمتهم بمقدار ما أن الإسلام هو الذي أصبح متبربراً" ([8])

   فهل حقاً تأثر الإسلام بالبربر ومعتقداتهم وعاداتهم؟ أليس هذا شبيهاً بما يزعمه المستشرقون عن تأثر الإسلام باليهودية والنصرانية والزرادشتية والهيلينية وأي دليل يملكون على هذا الزعم (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) أما الإسلام فيملك ألف دليل على أخذه بيد البربر وقيام دول ونهضات عظيمة في المغرب العربي لم يعرفها البربر من قبل، لقد أغاظ الحقد الصليبي أن قادة الفتح الإسلامي في أوروبا كانوا من أبناء هذا الشعب فقالوا ما قالوا ورددوا هذه المزاعم.

   ومن محاولات الاستعمار الفرنسي لتمزيق وحدة الجزائر ما أذاعه باحثوه ومستشرقوه عن أصول البربر العرقية فزيفوا دراسات وصفوها بأنها علمية تعيد البربر إلى الأجناس اللاتينية وأنهم لا يمتون إلى العرب بصله، بل وصل بهم الإصرار على هذه الفكرة أن أصدر المستشرق لوي برتران Louis Bertrand مجلة أطلق عليها أفريقيا اللاتينية بالإضافة إلى المجلة الأخرى أفريقية الفرنسي"، وكذلك مجلة تونس الفرنسية

    وفي الحديث عن الأصول الرومانية للجزائريين يقول لوي برتران "أيحطُّ من قدر الجزائري أو التونسي أن نذكّره بأصله الروماني، إن كل ما يهمنا في الجزائر هو إعادة خلق شعب الجزائر الروماني وأن نعيد مسيرة الزمن من جديد" ([9])

      وما دام المستشرقون قد خاضوا في هذه المسائل واختلقوا ما اسموه دراسات أنثربولوجية (علم الإنسان) ليؤيدوا مزاعمهم ففي أصل البربر، ونحن هنا نقدم كلمة عن أصول البربر العرقية وفقاً لما جاء في معاجمنا ولما استنتجه بعض أبناء الجزائر من لغة البربر التي يعرفونها، فيقول القاموس المحيط بأن البربرة هي "صوت المعز وكثرة الكلام، والجلبة والصياح، والبرابرة وهم بالمغرب وأمة أخرى بين الحبوش والزنج وكلهم من ولد قيس غيلان، أو هم بطنان من حمير صنهاجة وكتامة صاروا إلى البربر أيام فتح أفريقش الملك أفريقية" ([10])     

    ويستنتج أحد الباحثين أنه ما دام اشتقاق الكلمة عربياً فلعل هي هذا دليل على أصلهم وأن هذه التسمية تدل على تغير لغتهم من أصلها العربي بسبب البعد والعزلة، ويستدل الباحث على ذلك أيضاً بالتشابه في النطق ومخارج الحروف حتى الضاد التي تتميز بها اللغة العربية دون اللغات، ويضيف بأن ما لا يقل عن ثلث مفردات اللغة البربرية تحمل نفس الدلالات التي تحملها نظيراتها في اللغة العربية مع شيء من التحوير في النطق، وهذه الألفاظ ليس مما دخل إلى لغة البربر بسبب الفكر والثقافة الإسلامية. ([11])

    وللشيخ عبد الحميد بن باديس عبارات عظيمة في هذه المسائل سوف نختم بها هذا الموضوع إن شاء الله تذكراً وتنبيهاً لأولئك الدعاة إلى الأمازيغية (البربرية) ونبذ الإسلام.

"هكذا عمل المستعمر على زرع بذور الشقاق والفرقة بين العرب والبربر بعد أن أدرك سياسيوه ومستشرقوه القدرة الفريدة لهذا الدين على التوحيد بين أبنائه، ويدل على ذلك قول المستشرق الكندي المذكور سابقاً "إن إسلام البربر في الجزائر قد وفّر لهم القواعد للاتحاد الديني واللغوي والتي من الضروري أن يتبعها الوحدة السياسية."([12])

     لذلك كان من وسائلهم لتحقيق هذا الهدف العمل على فرنسة البربر وتغريبهم وذلك بتشجيعهم على دخول المدارس الفرنسية بل أحيانا الإكثار من إنشاء هذه المدارس في المناطق التي يقطنها البربر ومن ذلك ما ذكره أحد المؤرخين الفرنسيين قائلاً: "قبل أن ينتشر التغريب في باقي الجزائر، نجد أن منطقة القبائل(اسم المنطقة التي يسكنها أغلبية بربرية) استفادت من المدارس الابتدائية والثانوية التي كان يسهر على تنظيمها المبشرون (يقصد المنصّرون)، كما استفادت من المدرسة التي أقامتها الدولة لتكوين المعلمين الجزائريين.... واختيار القبائليين (البربر) ليس عفوياً بل يتجه إلى جانب المواطنين الأقل تأثراً بالثقافة العربية لأن هذه القبائل لم تدخلها الثقافة إلّا بواسطة المؤسسات الدينية بينما سهل قربها من الجزائر العاصمة التأثير الكبير للثقافة الاستعمارية."([13])

    وفي هذا الاقتباس نرى مدى تعاون الاستشراق والاستعمار والتنصير لتحقيق هدفهم المشترك وهو محاربة الإسلام، كما أن الإشارة إلى المؤسسات الدينية الإسلامية يجعلنا نتذكر كيف حاولت الإدارة الاستعمارية منع العلماء المسلمين وبخاصة رجال جمعية العلماء من الوصول إلى مناطق البربر، ولكن حكمة زعماء الإصلاح وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس أفسدت مخطط الاستعمار وفوتت الفرصة عليه للتمتع بنتائج تخطيطه حيث كان ابن باديس حريصاً على اجتذاب بعض أبناء البربر للدراسة في قسنطينة في الجامع الأخضر وكذلك في الزيتونة ليعودوا إلى بلادهم ولعل من أشهر تلاميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس القبائليين الفضيل الورتلاني وعمر دردور والسعيد الصالحي وغيرهم.

    ومع ذلك فقد تحقق للاستعمار والاستشراق بعض النجاح حتى إذا برز أحد أبناء البربر في الثقافة الفرنسية مجدوه وصنعوا له دعاية ضخمة تفوق حجمه الحقيقي  ومن هؤلاء حسين لحمق (وله من اسمه نصيب) الذي كتب بالفرنسية كتاباً عنوانه رسائل جزائرية وقد ذكره المؤرخ الفرنسي روبرت آجرون Robert Ageron بصيغة الإعجاب موضحاً أنه عبارة عن نوع من الخطابة البربرية تمجد الشعب البربري الذي أنجب يوغرتا وماسينيا والقديس أغسطس، ويؤكد المذكور في كتابه أن أغسطين أقرب إليه من سيدي عقبة بن نافع، ويبدي ندمه لدخول الإسلام بلاده ويشير إلى أن مستقبل فرنسا والجزائر لن يمثله سوى البربر([14])

    وفي نطاق أعمال فرنسا لفرنسة البربر وتغريبهم أنها أنشأت عام 1356هـ/1929م مدرسة آزرو في المغرب الأقصى لتكون –كما ذكر جوليان-"مهداً للمتنكرين للإسلام"، ولكن الله خيب فألهم فاذا بعدد كبير من هؤلاء ينظم إلى حزب الاستقلال ويصبح مناضلاً وطنياً مما يؤكد فشل المنهج البربري إبّان الدراسة.

    هذا المنهج أشارت إليه صحيفة المتفرنسين الجزائريين التي أطلقوا هم أنفسهم عليها صوت الضعفاء أو المساكين أو الأذلة La voix des Humbles، في عددها الصادر في أكتوبر 1928م "إن المسلم إذا بلغ درجة ما من الرقي، أصبح من العسير عليه أن يبقى مؤمنا، فلا يعود يؤمن إلّا بدين واحد هو دين الإنسانية الذي يأمر بأن كل الناس إخوة وأنهم متضامنون بعضهم مع بعض" إنهم حين فشلوا في تنصير المسلمين وردهم عن دينهم كفاراً حسداً من عند أنفسهم (كما جاء في القرآن الكريم) لجؤوا إلى حيلة توحيد الأديان (أليست هذه الدعوة هي التي يتزعمها بعضهم في الوقت الحاضر؟) ويأتي تعقيب المؤرخ الفرنسي-ذي السمعة الطيبة في المغرب العربي: "ولم يعتنق هذا المبدأ النظري الإنساني إلّا نفر قليل، ومن المستحيل ضبط التأثير الذي كان له على الشباب"([15])

      ويلاحظ جوليان نفسه أن سياسة بلاده لم تؤت ثمارها المرجوة، فهل كان يرغب أن لو كانت سياسة بلاده أكثر نجاحاً، أو إنه ينتقدها لأهدافها المعادة لعقيدة شعوب المغرب العربي وثقافتهم، والحقيقة أنه مهما كانت النتائج ضعيفة كما صورها جوليان إلّا أنها آتت أكلها فيما بعد. وفي هذه الأيام بالذات التي فتحت فيها الجزائر الباب على مصراعيه للتعددية الحزبية فظهر دعاة الأمازيغية (البربرية) سافرين عن وجوههم واهدافهم البغيضة. وقد وجد بعض المثقفين الجزائريين الفرصة للسخرية من زعيم أحد الأحزاب الداعية للبربرية بأن اسمه (العربي بن كذا) ويكتب اللغة الفرنسية فاسمه عربي ولسانه أعجمي لا يكاد يبين فلا حول ولا قوة إلّا بالله وارتباط هؤلاء بفرنسا أمر لا يجهله أحد، فهم إما درسوا في فرنسا وعاشوا فيها ردحاً من الزمن أو انهم ينادون بصراحة بالمحافظة على الثقافة الفرنسية. ([16])

     ولا بد في الحديث عن السياسة البربرية أن نفرد الظهير البربري بذكر خاص، فهذا الظهير هو مرسوم أصدره رئيس وزراء المغرب الأقصى محمد المقري بالأمر من السلطات الاستعمارية في السابع عشر من ذي الحجة 1348ه الموافق السادس عشر من مايو 1930 يقضي بفصل العنصر البربري عن العنصر العربي في القضاء وفي التعليم تمهيداً لتطبيق سياسة التنصير والفرنسة بين العنصر البربري([17])، وقد فهم المغاربة أهداف هذا الظهير (المرسوم) وقاموا ضده قومة رجل واحد فكانت المساجد نقطة انطلاق حركة المعارضة والتنديد بهذه السياسة، ولم يكتف رجال الحركة الإسلامية في المغرب بالمقاومة الداخلية بل تحرك العالم الإسلامي معهم ضد هذا المرسوم ومن أبرز من كتب في هذه المسألة الشيخ محب الدين الخطيب في مجلته الفتح

    ولئن كان هذا المرسوم المشؤوم قد نال كل هذه العناية لكنه لم يكن القرار الفرنسي الوحيد لتمزيق وحدة الشعب في المغرب العربي بدوله الثلاث فقد أصدرت فرنسا قرارات شبيهة في الجزائر أيضاً.

     إن اهتمام فرنسا بالبربر لم يكن فقط من أجل تطويرهم وتحضيرهم –من وجهة النظر الفرنسية-بل لزرع النزعة الانفصالية وتشجيع فكرة القومية البربرية أسوة بما فعلوه في الشرق، ويؤكد هذا أحد الباحثين المغاربة وهو محمد الكتاني حيث يقول: " إن إصدار الظهير البربري في المغرب العربي سنة 1930(1384هـ) كان تكريساً لهذه السياسة الاستعمارية الساعية إلى التجزئة بين المواطنين المغاربة تمهيداً للقضاء على الشخصية العربية في شمال أفريقيا."([18])

    ويشير أحد زعماء الحركة الإسلامية في المغربي العربي-وهو الأستاذ الشيخ علال الفاسي-إلى هذه القضية بقوله: "إننا بمقاومتنا للسياسة البربرية نريد تعريب عناصر الشعب العربي وتوحيده، ونريد محاربة مبدأ التجزئة الميكيافيللي الذي ينشره بتفنن ممثلو فرنسا الحزبيون والدينيون ونريد أن نمنع خلق كتلتين ذاتي ثقافتين ومصالح متناقضة خلقاً اصطناعياً". ([19])

     ليس المقصود من الاهتمام بمسألة البربر هو سرد تاريخ هذه القضية بل إننا نهدف إلى التنبيه إلى ما يمكن أن تقع فيه الشعوب أحياناً حين تغفل التاريخ وتنساه، فإن ما يمكن أن تحققه الجزائر من التعددية الحزبية قد يضيعه مثل هذه الأمور الخطيرة التي تحاك لأمتنا الإسلامية فالنزعة البربرية التي أطلت برأسها في الجزائر عشية قرار الجبهة حل نفسها وفسح المجال أما من شاء أن يكوّن حزباً، هذه النزعة لها جذور تاريخية يجب أن نعيها تماماً، وقديما قيل من لم يعرف التاريخ أحرى أن يقع في الخطأ مرات ومرات.

     ومن الصعب على كاتب هذه السطور تحديد مدى نحاج فرنسا في إثارة النزعة البربرية، ولكن مراجعة سريعة للصحافة الجزائرية هذه الأيام (التسعينيات من القرن الماضي) والاستماع إلى علمائها ومثقفيها تنذر بأن الأمر جد ،وأن الأيدي التي حرّكت هذه النعرة قديماً لا تزال تعمل على إثارتها من جديد بصور شتى منها :لغة بربرية بأحرف لاتينية، تراث وفنون شعبية، عادت وتقاليد، وغير ذلك من كتاب وأدباء اعتنقوا الشيوعية والمادية وأخذوا ينادون ببعث اللهجة البربرية على حساب لغة القرآن ومن هؤلاء الطيب وطار الكاتب والروائي المسرحي([20])

و    كذلك إقامة المهرجانات ومن ذلك مهرجان الشعر الأمازيغي الأول المقام في أول شهر يوليو 1982م والكتابات الصحافية حتى إنه جاء في مقالة لأحدهم (علي مقراني) قوله: " إن القضايا الأساسية التي تفرض نفسها في الوقت الراهن هي حق اللغة الأمازيغية إلى جانب أختها اللغة العربية"([21])

و   كما وعدت سابقاً أن أورد عبارات ابن باديس في هذه المسألة فإليكم نصها: "إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام بضعة عشر قرناً ثم دأبت القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، فيؤلف بينهم في العسر واليسر وتوحدهم في السراء والضراء حتى كوّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصراً مسلماً جزائرياً أمّه الجزائر وأبوه الإسلام، وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة العلم"

     "فأي قوة بعد هذا يقول عاقل تستطيع أن تفرقهم؟ لولا الظنون الكواذب والأماني الخوادع يا عجبا، لم يفترقوا وهم الأقوياء فكيف يفترقون وغيرهم القوي، كلا والله، بل تزيد كل محاولة للتفريق بينهم إلّا شدّة في اتحادهم، وقوة لرابطتهم (وذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم) والإسلام له حارس والله عليه وكيل"([22])

     أسأل الله عز وجل أن يوفق إخواننا في الجزائر إلى التنبه إلى هذه النزعة والقضاء عليها في مهدها قبل أن تستفحل ويقع ما لا تحمد عقباه فإخواننا الأمازيغ الذين شاركوا الجيوش الإسلامية التي فتحت أوربا وكان لهم دور بارز في القيادة وكان منهم طارق بن زياد وغيره لقادرون على التصدي لهذه الحركة الانقسامية وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

 

المراجع

 

[1] - هذه النسبة لا تزيد عن 10% من مجموع السكان، عن أحمد نعمان، كيف صارت الجزائر مسلمة عربية، ص 41، والأمازيغ تعني الأحرار.

[2] -المرجع نفسه ص، 40.

1 - تونس الشهيدة، ص 75.

[4] - أبو الحسن الندوي. "أهمية نظام التربية والتعليم في الأقطار العربية". حضارة الإسلام، دمشق، س 17 عدد 5و6 رجب وشعبان 1396هـ آب وأيلول 1976

[5] - محمد السعيد الزاهري، الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير، ص 12

[6] -شارل اندريه جوليان. أفريقيا الشمالية تسير، ص 22

[7] -L. Carl Brown." Islamic Reformist Movements in North Africa" in the Journal of Modern North African History. March 1964.

[8] -Andre Dirlik. Abdul Hamid Ben Badis (1889-1940) p.

[9] - عماد حاتم، "الثقافة العربية في ظل الاستعمار" في مجلة الثقافة، الجزائر، عدد 70 في رمضان /شوال 1402هـ، يوليو/أغسطس 1982م، ص ص 69-81عن

Louis Bertrand, Les Cyclades Revue di Deux Mondes, Jan-Feb,1922, p117

[10] -القاموس المحيط، مادة بربرة، ص 445

[11] - أحمد بن نعمان، مرجع سابق، ص 56/57

[12] - Dirlik, Op, Cit., P 285

[13] - محمد بن المبارك، سياسة التصنيع للصفوة الحاكمة وإطار تكوين المثقفين بالجزائر" المجلة التاريخية المغربية، العدد 27/28، ديسمبر 1982 نقلاً عن Jeane Favert" Le Traditiona ligna par excex

[14] - Robert Ageron. Histoire De L'Algerie Contemporaraine, Tom II p.373

[15] - المرجع نفسه والصفحات نفسها.

[16] - جاء في مقال في مجلة المجتمع الكويتية ما يأتي:

          يقوم بعض المستشرقين اليهود والشيوعيين بتشجيع الطلبة على إعداد رسائل جامعية في اللهجات المحلية، ويركزون على البربرية...كما أن في باريس نادياً خاصاً يرعى اللغة البربرية والاتجاه البربري في شمال أفريقيا، وذلك من أجل تمزيق المغرب العربي.... وتضيف المجلية قائلة: ولا يتمثل الاتجاه الانشقاقي العنصري الذي بدأت تتح ملامحه منذ عام 1070 ببعض الكتّاب...منهم (كاتب ياسين) ...ومن هؤلاء أيضاً (مولود معمري) وغيرهما. المجتمع، العدد 178 في 14 جمادى الآخرة 1400، 29 أبريل 1980

[17] - الحاج الحسن بوعياد، الحركة الوطنية والظهير البربري، الدار البيضاء: دار الطباعة الحديثة، 1399هـ/1979م

[18] محمد الكتاني، الصراع بين القديم والحديث في الأدب العربي، ص 122-123

[19] علال الفاسي، الحركة الاستقلالية في المغرب العربي، ص 78.

[20] -خميس زعداني، جريدة المساء الجزائرية، 20 محرم 1410هـ 22 أوت 1989

[21] - عبد الله دحية، انطباعات حول ما كتب عن الأمازيغية، جريدة المساء الجزائرية 27 محرم 1410هـ، 29 أغسطس 1989م

[22] -عمّار الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره، ج3 ص 483 عن الشهاب ج11 م12 ص. 605

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية