القراءة الخاطئة لتاريخنا

                                             
عرضت إحدى القنوات الفضائية مسرحية هزلية للفنان المشهور دريد لحّام (غوّار) وقد جاء في بعض حواراتها أن ذكر أحد الممثلين التاريخ الإسلامي فجاء الرد على لسان الشخصية التي يمثلها دريد لحام بأن تاريخنا أسود مليء بالقتل والتعذيب. فقلت إن هذه مسرحية هزلية لا تستحق التعليق عليها، وأضفت ومن يأخذ بكلام الممثلين؟
 ومرت شهور فإذ بكاتبة تكتب في مجلة أسبوعية مشهورة تكتب عمّا سمته فضائع التاريخ العربي الإسلامي. فلم تختر من التاريخ الإسلامي سوى بعض صور الاضطهاد الفكري والاستبداد والظلم. وكتبت مقالتين في هذا الموضوع خصت الحجاج بن يوسف الثقفي بجزء كبير مما كتبت.
ودار حديث بيني وبين قريب لي عن التاريخ الإسلامي فقال لماذا كل هذا الفخر بالتاريخ الإسلامي فتاريخنا مليء بالأشياء المحزنة من قتل وتعذيب ومصادرة للرأي وتكميم للأفواه وهذا الإمام الفلاني وذاك الإمام وغيرهما تعرضوا لأنواع من التعذيب والعنت.
وبعد أن انتهت الكاتبة من سلسلة مقالاتها حول التاريخ الإسلامي إذ بها تبحث في تاريخ السود أو الشعراء السود البشرة فتكتب عن معاناتهم وما تعرضوا له من تمييز ضدهم. وكأنها تريد أن تقول إن ديننا برغم أنه ضد هذه العنصرية لكن واقع الأمة الإسلامية لم يخل من هذه الصور. ولكن لماذا لم تختر من تاريخنا الإسلامي إلاّ بعض الصور الشاذة للتمييز ضد السود؟
فتعجبت لماذا يكون التفكير في التاريخ الإسلامي بهذه الصورة العجيبة أي اختيار البقع السوداء في هذا التاريخ وتسليط الأضواء عليها وكأنه ليس في التاريخ الإسلامي إلاّ هذه البقع السوداء. وأقول ابتداءً ليس المقصود من هذه المقالة الدفاع عن تاريخنا الإسلامي ولكن ألم يجد هؤلاء في تاريخنا سوى هذه البقع السوداء المظلمة؟ ألم يجد هؤلاء في تاريخنا قادة عظام وأبطال يحق لهذه الأمة أن تفتخر بهم وأن تسعى إلى الاقتداء بهم.
لا شك أن في واقعنا المعاصر من السلبيات ما يمكن أن يشغلنا عن صرف الوقت في الحديث عن الماضي؟ وهل الحديث عن الماضي هروباً من الحديث عن الواقع؟ ولكن حتى لو كان هذا صحيحاً فالأولى أن ننظر إلى تاريخنا بمنظار منصف حتى لو كرهنا بعض الوقائع التي حدثت في هذا التاريخ ففيه أيضاً ما يجعلنا نفخر بين الأمم بهذا التاريخ.
ومن طبيعة الباحث في التاريخ أن ينظر إلى الصورة الكلية الشاملة بالإضافة إلى النظر إلى الجزئيات. فهذه الأمة التي أصبحت العالم الأول ستة قرون لم يشاركها في الأولية أحد (كما كان يقول الشيخ الغزالي رحمه الله) ثم استمرت عالماً أولاً أربعة قرون أخرى شاركتها أمم أخرى. كيف تسنى لها أن تصل إلى هذا الوضع؟
وللإجابة عن هذا السؤال أقول إن الإنسان المسلم الذي بنى تلك الحضارة العظيمة التي لا تزال آثارها شاهدة على عظمة هذا الإنسان قد حقق أولاً كرامته الإنسانية التي جاء الإسلام لتحقيقها. ولولا تلك الكرامة لما استطاع أن يبدع ويبتكر. وهذا يذكرني بمقالة للدكتورة عزيزة المانع حول الكرامة بأن الذي يفتقد الكرامة لا يمكن أن يفعل شيئاً ذا بال. أما الأمر الثاني الذي يأتي مع الكرامة فإن المسلمين قد حققوا قدراً  كبيراً من الحرية الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية ساعدتهم على الإبداع والعمل المنظم.
أما الأمر الثالث فإن هذه الأمة كانت أمة علم بحق وقد كان للعلم والعلماء مكانة سامقة فقد قرّبهم الخلفاء والأمراء والولاة وتسابق الحكّام في دعم العلم والعلماء وكتب التاريخ شاهدة على ذلك. فمن أهم شروط الإبداع في العلم أن تحفظ كرامة الإنسان ثم أن يعيش حياة مطمئنة هانئة. ثم أن يجد التشجيع والمكافأة، وأخبار المكافآت والجوائز في التاريخ الإسلامي لا تتسع لها الكتب. أما نحن في عصرنا الحاضر فإن ما ينفق على البحث العلمي والكتاب والتأليف في العالم العربي الإسلامي لا يساوي ما ننفقه على أنواع من الملاهي كالغناء والرياضة وغيرها. بل إن ما تنفقه شركات السيارات في إعلاناتها أو ما تنفقه حتى شركات المنظفات والورق الصحي (ومنه حفائظ الأطفال) يمكن أن ينفق على عدة جامعات.
إن تاريخنا مضيء - والله مضيء - مهما كانت لحظات العتمة فيه. ولو لم يكن مضيئاً حقاً لما كنّا سادة الدنيا وملكناها بحق ويرحم الله الشاعر
ملكنا فكان العدل منّا سجية           ولمّا ملكتم سال بالدم أبطح
فهل يرعوي الذين يشوهون تاريخنا الإسلامي؟


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية