المبحث الثاني "الاستعمار" التركي أو العثماني"


        كثيرون هم الذين كتبوا عن الدولة العثمانية بعضهم من المتخصصين في دراسة التاريخ والبعض الآخر لا علاقة له بالتاريخ ولعله سمع الناس يقولون شيئاً فقاله. ومن خلال مراجعة ما كتب عن الدولة العثمانية فإن مصادر الكتابة عن هذا التاريخ أو عن التاريخ الإسلامي عموماً لا يعدو أن يكون تلقاه المؤرخون المسلمون المعاصرون في الجامعات الغربية فقد ابتلينا منذ سنوات طويلة أو منذ انطلق الابتعاث في عهد محمد علي في مصر وفي أوقات قريبة من المغرب وإيران وتركيا وغيرها من البلاد الإسلامية. وكان الأصل أن تكون هذه البعثات لدراسة العلوم والتقنية ولكن التخطيط الغربي للمستشارين للحكام المسلمين قرروا أن يتعلم أبناء المسلمين ما يسمى العلوم الإنسانية ومنها اللغة العربية وآدابها والعلوم الاجتماعية من تاريخ وعلم اجتماع وفلسفة وغيرها. وليس هذا فحسب فقد انتشرت المدارس الغربية التنصيرية وغير التنصيرية في البلاد العربية والإسلامية كالجامعات الأمريكية التي نقلت الفكر الغربي وبخاصة القومية والنظرة الغربية للتاريخ الإسلامي وللعلوم الإسلامية بعامة.

          وقد أبدى كثير من الذين درسوا في  الغرب تعلقاً بفكرة القومية ثم التقوا مع الذين انطلقوا من العالم العربي لدعم هذا التيار القوي الكاسح الذي وجد تأييداً كبيراً من القوى الغربية، ولا ينكر أحد من الداعين إلى القومية العربية أنهم جاءوا بها من أوروبا التي انتشرت فيها الدعوات القومية، وظنوا أن هذه الدعوات هي مصدر القوة والازدهار والتحضر في هذه البلدان. وهذا ما كتبه أحد الباحثين الغربيين في مقارنته بين كل من شكيب أرسلان وساطع الحصري الذي يطلق عليه "أب القومية العربية" ويذكر الباحث أن كلاهما درس في الغرب فتمسك الأول بالإسلام والجامعة الإسلامية ورابطة الأمة الإسلامية وبرموزها ما بقيت هذه الرموز كالخلافة وغيرها بينما انجذب الآخر إلى دعوة القومية حتى ألف فيها العديد من المؤلفات. ([1])

          وموقف القوميين العرب هو ما أشار إليه إبراهيم الداقوقي في كتابه المهم صورة الأتراك لدى العرب حيث أكد أن معظم دعاة الفكر القومي في المشرق العربي يعتبرون الحكم العثماني للبلاد العربية استعماراً ، ومن الطريف أن الداقوقي يفرق بين أهل المشرق والمغرب في النظرة إلى الدولة العثمانية بأن الأخيرين ينظرون إليها على أنها دولة أنقذتهم وأخرت استعمار بلادهم من القوى الغربية زمناً طويلاً. ([2])

          وهناك من يجد المبرر للعرب للنظرة القاسية للأتراك أو للدولة التركية وذلك أن الذي تولى الحكم في أواخر الدولة العثمانية أو تركيا الحديثة حزب الاتحاد والترقي الذي كانت منطلقاته وفقاً لكثير من المحللين عنصرية وقد أورد أحد الكتاب "أن لجنة الاتحاد والترقي كانت معنية في الحقيقة بتعزيز السياسة العنصرية لدى الأتراك أو وحدة الشعوب الناطقة بالتركية في آسيا"([3])، ولكن العرب لم يكتفوا بوصم هذه المرحلة بما كانت تستحق ولكنهم عمموا ذلك على التاريخ العثماني كله، بل بحثوا عن أية كتابات تطعن في الدولة العثمانية وتخلفها وحرمانها للعالم العربي من أية فرصة للنهوض والنمو.([4])

     وكان ظهور ما سمي "الثورة العربية الكبرى" بقيادة الشريف حسين وبالتعاون مع بريطانيا دور في النظرة العدائية التركية للعرب والنظر إلى هذا العمل "كعمل خيانة كبير"[5]

          ولا بد من كلمة عن الشريف حسين الذي خدعه الإنجليز وتآمروا مع الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين في سان فرانسسكو في اتفاقية سايكس بيكو، وما أن أدرك هذه الخدعة وبدأ يتمرد عليهم فكان من تخطيطهم أن يكون ابنه فيصل حاكماً في سوريا التي تسلمها الفرنسيون فأخرجوه إلى العراق، أما الشريف حسين فكان مصيره النفي إلى قبرص ومعاملته معاملة مهينة وإذلاله كما روى ذلك صالح مسعود بو ياصير ([6]) وليس هذا فحسب بل أكد الكاتب على موقف الشريف حسين من عروبة القدس وفلسطين والإصرار على تنفيذ بريطانيا وُعودَها له، ولما رأت أنه حجر عثرة رمته في المنفى كما سبق.

          وللوثائق العثمانية رأي في القومية العربية وانتشارها أورده أحد الكتاب في مقالة له بقوله: إن بعض الوثائق العثمانية صورت الحركة القومية العربية كأداة في يد القوى الأجنبية لإضعاف الدولة العثمانية"([7]) ولتأكيد هذا يكفي الرجوع إلى بعض ما كتبه الدكتور محمد محمد حسين في كتابه القيم الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي ليتعجب المرء من الجهد الهائل الضخم الذي بذل في الترويج للقومية العربية، ولم يكف دعاة القومية بالأدب والشعر بل اقتحموا السياسة فجاءوا بزعيم القومية أو الزعيم الخالد جمال عبد الناصر ليخدر الشعوب العربية عقوداً من الزمن زاعماً أنه حرر العرب وأعاد إليهم كرامتهم وحريتهم.

          وعلى الرغم من أن جمال حمدان الجغرافي المشهور أكد في بداية كتابه "إستراتيجية الاستعمار والتحرير" أن الدولة الإسلامية لم تكن احتلالاً ولا استعماراً حيث قال" ويجادل كثير من الكتّاب الغربيين –في لجاج مفهوم- بأن هذه الدولة كانت "إمبراطورية استعمارية" لم تخرج عن أن تكون غزواً وإخضاعاً وتبعية أجنبية والحقيقة أن الدولة العربية كانت "إمبراطورية تحريرية" بكل معنى الكلمة، فهي التي حررت كل هذه المناطق من ربقة الاستعمار الروماني أو الفارسي المتداعي واضطهاده الوثني وابتزازه المادي"([8]) ويعود بعد صفحات ليصف الفتح العثماني للأقطار العربية المختلفة من الجزائر حتى مصر وغيرها بأنه استعمار وأطلق عليه "الاستعمار الديني" حيث كتب "... إن الوجود التركي هنا يعد نوعاً خاصاً- ومحيراً ربما- من الاستعمار هو "الاستعمار الديني"، ولولا القناع الديني لعد مماثلاً للغزو المغولي الوثني الذي سبقه ولو وجه على هذا الأساس بكل تأكيد"([9]) بل إن الكاتب يبلغ حقده على الدولة العثمانية مبلغاً عجيباً حتى يصفها بأنها اغتصبت الخلافة حيث يقول: "وأما عن تركيا فإنها ما ظهرت على مسرح السياسة العالمية منذ فجر العثمانية إلاّ على دعوة الإسلام، وإلاّ بعد أن قفزت على خلافة الإسلام قفزا وربما اغتصاباً" ([10]) ويتهم الدولة العثمانية اتهامات أخرى ليس هنا مجال الحديث عنها.

          ولعل مِن سلك القوميين مَن كتب عن العراق التي ابتليت دهراً بالبعث حتى ابتليت مع الأمريكان بأسوأ من البعث أي العبث والدمار والقتل الشامل. ومن بقايا البعث القومي أو من ذلك الزمن ما كتبه حامد الحمداني في مقالة له يقول فيها: "رزح العراق كما هو معروف تاريخياً تحت نير الاستعمار العثماني زهاء الأربعة قرون، وكانت الحقبة التي حكم فيها العثمانيون العراق من أسوأ الحقب في تاريخه" وفي الحقيقة لا يهمني كيف يبرر هذا الكلام لأن الكاتب سرعان ما يؤكد جهله بالتاريخ حينما يقول إن السلطان محمد الفاتح دمر القسطنطينية واستباحها الجيش الإنكشاري "وعمل تقتيلاً واغتصاباً ونهباً للممتلكات بأسلوب وحشي يندى له الجبين"([11]) وأتعجب أي جبين هذا الذي يندى أو هو الذي رأى أو لم ير أو الذي تخيل، وكأن الأستاذ المتخصص في التاريخ لم يعرف كيف كانت الحملة الصليبية الأولى، وأين انتهت الرابعة وما كتبه مؤرخو الحملات الصليبية عما فعله الصليبيون بإخوانهم النصارى وما ارتكبوه من نهب وسلب وقتل وتدمير لم يفعل الجيش المسلم منه شيئاً بل حكى لنا التاريخ مما لا أحتاج لذكر مصادره أن السلطان محمد كان قاسياً مع جنده أن يرتكبوا أي جرم في المدينة.

      ومن الذين تناولوا الدولة العثمانية ووصفوا حكمها بالاستعمار شخصيات لا تمت إلى دراسة التاريخ بصلة وإنما بعضهم متخصص في الأدب والبلاغة ولكن أتيحت له الفرصة ليحتل منابر الرأي في إحدى كبريات الصحف في المملكة العربية السعودية، فلم يكتف بوصف الحكم العثماني التركي بالاستعمار بل راح يقارن بينه وبين الاستعمار الغربي ويفضل الغربي ويمتدحه بأنه جاء بالنور والإصلاح، وكان مما كتبه قوله "أية قراءة موضوعية تحاول أن تقرأ ظاهرتيْ الاستعمار : ظاهرة الاستعمار التركي العثماني، وظاهرة الاستعمار الغربي ، ستصل إلى أن من المفترض أن يكون الرفض الأقوى والأقسى من نصيب الاستعمار الأشد ضررا والأقل نفعا ، وهو هنا : الاستعمار التركي العثماني"

     ويقول في موضع آخر: "لقد واجه العالم العربي (والاهتمام بهذا العالم من وجهة نظر وحدة ثقافية) موجتين من موجات الاستعمار الكبرى . كانت الموجة الأولى وهي الأطول زمنيا والأعنف والأبعد ضررا: موجة الاستعمار التركي العثماني، وكانت الموجة الأخرى وهي الأقصر والأخف ضررا : موجة الاستعمار الغربي في القرنين : التاسع عشر والعشرين. فإن الاستعمار العثماني التركي بقي استعمار تخلف وانحطاط وإماتة واستعباد، بينما وجدنا الاستعمار الغربي، ورغم كونه ينطوي على نوع من الاستغلال بطبيعة الحال، طرح ثقافة الإحياء ووضع اللبنات الأولى للتنمية المادية والعقلية ، بل وأرسى قيما إنسانية عالية لم تكن موجودة من قبل. وهذا شيء إيجابي؛ حتى وإن كان يهدف من وراء تطوير البلدان المستعمرة أن يزداد من خلالها قوة إلى قوته، فليست العبرة بالنوايا وإنما بمآلات الأفعال" ([12]).

    لم يكن مناسباً تناول مثل هذه الكتابات في مؤتمر علمي لولا أن مثل هذه الأفكار شائعة لدى فئة من مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي انبهرت بالغرب بل أحبت الغرب وعشقته ورأت كل ما فيه محاسن ولو كانت المساوئ كالجبال. وليتهم يقرؤون علي المزروع في حديثه عن الغرب الذي أقام حربين أوروبيتين ولكن اصطلى بناريهما العالم كله وكانت أعداد ضحايا تلك الحربين بعشرات الملايين. والغرب هو الذي صنع القنبلة الذرية وهو الذي استعملها. هذا الانبهار بالغرب 

 

 

[1] - William L. Cleveland , "Ataturk Viewed by His Arab Contemporaries: The Opinions of Sati' A;-Husaro and Shakib Arslan, Princeton Near East paper Number 34, 1982.

[2] - نصرت مردان " قراءة في كتاب صورة الأتراك لدى العرب لإبراهيم الداقوقي" نش في الحوار المتمدن العدد 690، 22/12/2003 م في موقع

[3] - فيليب روبنس. تركيا والشرق الأوسط، ترجمة ميخائيل نجم خوري (قبرص: دار قرطبة للنشر والتوثيق والأبحاث، 1993م) ص 26 نقلاً عن بيتر مانسفيلد، العرب The Arabs (لندن: بنغوين 1983) ص 181.

[4] - المرجع نفسه، ص 28

[5] - المرجع نفسه، ص 27.

[6]- صالح مسعود أبويصير . جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن. ط5 (بيروت: دار الفتح للطباعة والنشر، 1408هـ/1988م) ص 74-76

[7]-وائل المهدي، "تركيا الغائب الحاضر في المنطقة العربية" نشر في موقع

http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2009/08/16/171932.html

شوهد يوم الخميس 7 أكتوبر 2010 الساعة الثانية بعد الظهر بتوقيت مكة المكرمة.

 

[8] -جمال حمدان, إستراتيجية الاستعمار والتحرير، (القاهرة: سلسة دار الهلال الشهرية ، العدد 578، فبراير 1999م) ص 28

[9] - المرجع نفسه، ويشير الكاتب إلى كتاب سابق له هو الاستعمار والتحرير في العالم العربي. القاهرة، 1964م ص 13 وما بعدها.

[10] -جمال حمدان. العالم الإسلامي المعاصر. (القاهرة: عالم الكتب 1410هـ1990م) ص 92

[11] -حامد الحمداني. "ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها2- العراق من الاحتلال العثماني  إلى الاحتلال البريطاني".  في صحيفة أخبار العراقية في الإنترنت. http://www.akhbaar.org/wesima_articles/articles-20091018-78396.html

 

[12] - محمد على المحمود،" نحن والاستعمار...القراءة عبر الإيديولوجيا" في صحيفة الرياض. العدد (15312) في 13 جمادى الآخرة 1431ه ـ(27 مايو 1010م)

http://www.alriyadh.com/2010/05/27/article529448.html

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية