ثلاثون سنة من الطغيان والاستبداد، وأكثر


شاهدت سقوط الرئيس المصري عندما ُأعْلِنَ بالنيابة عنه أنه تنازل عن منصبه ورأيت الفرح والبشر في وجوه الملايين وتذكرت الشيخ عبد الحميد كشك عندما تحدث عن المنافقين والمطلبين للملك فلما سقط الملك وما أن ركب السفينة مغادراً حتى انبرت الأقلام التي كانت تمجده بالأمس لتطعن فيه وتظهر فرحها بسقوطه. هؤلاء المتلونون موجودون في كل زمان ومكان. وقد حدث في مصر بخروج مبارك ما حدث في وقت سقوط الملكية في مصر وسيحدث في كل حين. وقد قرأت مقالة في مجلة رؤية (مجلة سياسية إنترنتية) التي تصلني منها رسائل باستمرار، وإليكم فقرة من ذلك المقال:
"كل من يمجد الحاكم، أي حاكم، جعله وجعلنا جميعا ضحيته. كل من يغنى للحاكم الأماديح من قبيل «ناصر يا حرية» و«عاش عاش» و«اخترناه اخترناه» وكل من حجب عن الحاكم النقد ووفر له بيئة لا يسمع فيها إلا مديحا، فقد أوجد داخل الحاكم فرعونا ضخما يلتهم عقله ويسيطر على فكره. وحين يكتشف الحاكم حقيقة كراهية قطاع من الناس له، لا يستوعبها خياله السياسي والشخصي ثقافة «مستبد، لكن» سيطرت على عقولنا لنقبل أي مبرر لقبول الاستبداد طالما أنه يحقق لنا الأمان أو يجعلنا «مستورين».ليس مع الاستبداد عذر، وليس بعد الاستبداد جريمة"
ومن الطرائف أنني أجد في مقاهي المغرب جواً مناسباً للكتابة على الرغم من وجود التلفاز وأحيانا مباريات كرة قدم وغير ذلك وأحاديث الزبائن، لكني  إن بدأت الكتابة ركزت في موضوعي فلم ألتفت لشيء من ذلك. وقد فكرت في هذه المسألة فكان مما كتبته حينها:
"ثورة مصر لماذا حدثت؟ ولماذا سكت الشعب المصري ثلاثين سنة؟ أين جيوش المنافقين والمطبلين والأذناب... ما كان للنظام أن يستمر طوال هذه السنين لو لم يكن يعاونه الخونة والذين أثروا وتمتعوا بالرفاهية والمكانة والوجاهة في النظام.
كل الجبناء والانتهازيين والفرصويين والانبطاحيين يجب محاكمتهم . لقد قال سبحانه وتعالى (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) وقد كانت هذه الآية الكريمة مما أكلف طلابي في مادة (النظام السياسي في الإسلام بجامعة الملك سعود- سلم 104-بدراستها كما أرشدتهم إلى بعض كتابات الشيخ يوسف القرضاوي في الموضوع ضمن مذكراته.
ولكن حتى لو كان هامان –الوزير- والجنود – مهما كان نوع عملهم في خدمة سيدهم يتحملون المسؤولية حيث كان العطف بالواو، لكن لم يكن في مصر وليس فيها حتى الآن فرعون واحد، بل كانوا آلاف أو حتى عشرات الألوف من الفراعنة وملايين الجنود الذين ارتكبوا من الأخطاء ما يصل حجمه إلى عنان السماء وإلى أعماق البحار
ومن تجاربي الشخصية أنني عانيت يوماً من ظلم بعض المسؤولين في جامعة الإمام برتبة عميد أو وكيل جامعة تخيلت أن الدكتاتور اختار معه دكتاتوريين أصغر، وصورت الأمر كأنك تدخل متجراً للعب الأطفال فترى دمى صغيرة ودمى أكبر وأكبر حتى تجد دمية هي الأكبر حجماً وكأنما هي إلههم، فكذلك الفراعنة صغار وأكبر وأكبر وأكبر وأكبر، وكأنهم الشياطين من مختلف المقاسات والأحجام والأعمار.
وبمناسبة الحديث عن المطبلين أنني كنت أحضر مؤتمراً عن صورة العرب في الإعلام الغربي في كلية الإعلام بجامعة القاهرة- يوجد تقرير عنه في مركز المدينة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق-، وقد خصصت جلسة للحديث عن مستقبل الإعلام العربي وكان من المفروض أن يتحدث فيها (الشيخ)- وما هو بشيخ- صالح كامل، ولكنه لم يحضر- وحسناً فعل- فكلفت أن أتحدث نيابة عنه، ولم يكن اسمي في البرنامج ولم أعد بحثاً عن مستقبل الإعلام العربي وكان ما كان، فالأمر لا يحتاج إلى استعداد كبير. ولما جاء دوري في الحديث بديلاً عن صالح كامل (ولا أدري ما كان يمكن أن يقول؟) فبدأت بالقول إنني كنت أركب سيارة الأجرة (وليس التاكسي لاعتراض ابني هاشم على كلمة تاكسي وعلى كلمة فلاش بل ذاكرة) فأدار السائق مفتاح المذياع فكانت نشرة الأخبار التي كانت البداية عن حسنى مبارك ومنتصف النشرة عنه وآخرها عنه، فهو القائد الملهم والعبقري المعلم، وهو الذي يفهم في سياسة نيكارغوا والفلبين ودارفور، ويفهم في السياسة والاقتصاد والزراعة والصناعة. أنتم أيها الإعلاميون تجعلون الإعلام مجرد بوق وطبل، أنتم أساتذة الإعلام وكلية الإعلام في جامعة القاهرة كبرى الجامعات المصرية يجب أن تغيروا هذا الإعلام. إن إعلامنا هو الذي يصنع الزعيم المستبد، وإذا استبد شكونا من استبداده ودكتاتوريته، ضعوا الرئيس وكل رئيس وكل زعيم في حجمه الحقيقي. وهذا ما قاله الدكتور عبد الله النفيسي عن رسالة الإعلام اليومية في الأنظمة الاستبدادية: "على رأسه رجل فذّ ذكي، مفرط الذكاء، يقظ، يقرأ كثيراً، يعمل كثيراً وفوق ذلك متيم بحب الشعب وكل ما هو شعبي. هذه هي رسالة- النظام- الإعلامية اليومية. وينقل هذه الرسالة جيش من أجراء النظام: مدرّسين، موظفين، طلاب، طالبات، أئمة مساجد، صحفيين، رؤساء تحرير صحف، مذيعين، ممثلين، بائعات هوى، قوّادين تجار خمور وحشيش، وذهب، و"فعاليات اقتصادية" وما أدراك ما الفعاليات؟" ولم يرد أساتذة الإعلام بشيء فقد كان معظمهم يبحث عن وظيفة عميد أو أعلى أو حتى وزير أو أي منصب، أو يبحث عن وسيلة يرفع بها رصيده أو أرصدته في البنك أو البنوك.
بل إن مبارك وأضرابه كانت تمتلئ الميادين والساحات باللوحات القماشية أو الخِرَقِيّة (من خرقة) يفتتح أو يرعى مؤتمراً في الزراعة والصناعة وعلم الحيوان والطب وفي الحشرات وفي كل شيء ويقرأ الرئيس كلمة يوجه فيها العلماء وينصحهم ويرشدهم.
       وكنت في تونس أحضر مؤتمراً في مؤسسة التميمي فتقدم أحدهم ببحث حول من طعن أو ناقش أو ناقض قداسة القرآن فكأنه كان فرحاً أن يكون في الأمة هؤلاء، وحين كنّا في رحلة في الحافلة قلت له: "عجيب أمرك ترى أن كلام رئيس القسم مقدس، وكلام عميد الكلية ومدير الجامعة وكلام وزير التعليم العالي وكلام رئيس الوزراء مقدس وحتى كلام زين العابدين مقدس وتبحث عمن ناقض قداسة كلام رب العالمين، هل لأنك ترى أن حياتك ورزقك بيد هؤلاء ونسيت من بيده بحق الحياة والموت والرزق. تعساً لك وتعساً". وكان يحضر الحديث الدكتور إبراهيم الداقوقي (أستاذ إعلام تركماني الأصل وعراقي ويعيش في تركيا في ذلك الحين رحمه الله رحمة واسعة) فقال لي مازن لقد رأيت وجهه مسوداً وكأنه كان ينوى أن يضربك والله لو مد يده لكنت مستعداً لضربه. هكذا هم المطبلون المتزلفون .
وفي ذات يوم تكلم عميد كلية كلاماً فارغاً سمجاً سخيفاً فانبرى أستاذ من تلك الفئة فقال له: "لقد قلت ما في نفوسنا ولكن بأسلوب بليغ."  وسبحان الله جعلوا العميد والرئيس يقرأ ما في النفوس. وليس هذا جديد ففي تاريخنا من الشعراء من جعل الحاكم نداً لله والعياذ بالله.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية