المواجهة حضارية... والنقد لا يكفي.. ! السيد محمد الشاهد


قرأت في جريدة المسلمون الغراء في عددها الصادر في 13/7/1410 مقالا قيما للدكتور محمود زقزوق بعنوان "المواجهة حتمية ومباشرة" وأنا إذ أوافق الدكتور زقزوق في كل ما ذكره، أو أن أضيف تصورا قد يثري النقاش ويقطع بضرورة المواجهة الحضارية والأخذ بزمام المبادرة.
لقد كان لانتشار الإسلام في بقاع العالم، وبنائه حضارة قوية تأسست على عقيدة التوحيد، وصموده ضد كل محاولات الأفناء عسكريا، ردود فعل عند الغرب النصراني اختلفت مراحله ونتائجه.
فالمرحلة الأولى كانت فيها وسيلة المواجهة هي الافتراء والسب والتحريف.
وبعد فشلهم في المرحلة الأولى من المواجهة الدينية بدأ النصارى في تعلم اللغة العربية بجهد أكبر وانكبوا على دراسة العلوم الشرعية (القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة) فاستفادوا من ذلك في تأسيس علومهم وكذلك في اكتشاف نقاط الضعف عند المسلمين.
ونتيجة لدراستهم العلوم الإسلامية بجميع فروعها بعد ترجمتها إلى لغاتهم اكتشفوا أسلوبا جديدا لمواجهة الإسلام والمسلمين، وكان ذلك الأسلوب المبني على دراسة علمية جادة أكثر فعالية وأبعد أثرا من سابقيه، وقد كان لهم للأسف الشديد كثير مما أرادوا وكان فيهم من يحفظ القرآن وبعض الصحاح وأشهرهم "رايموند مارتيني" الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، ويقال أنه كان يعرف القرآن معرفة جيدة  ويحفظ الصحيحين بكاملها، وقد حاول هذا المنصر العنيد بذلك سنة مسيلمة الكذاب، وكانت نتيجة دراستهم للعلوم الشرقية وخاصة سير الدعوة إلى الله في أفريقيا وآسيا وجندوا لذلك كل إمكاناتهم المادية والروحية ولم يتوانوا مع ذلك عن التحريف والافتراء على الإسلام ونبينا الكريم.
وكان من نتيجة اشتغال رجال الكنيسة بالعلوم الإسلامية (الشرقية) نشأة الاستشراق الذي ارتبط في نشأته بالكنيسة والتنصير، وبعد ذلك لم يبخل بخدماته في مساعدة الاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي لبلاد المسلمين رغم استقلاله الظاهر وانتمائه إلى الدراسات الجامعية العلمية.
ولنا أن نعترف أن الغرب النصراني ما كان له أن يصل إلى ما وصل إليه دون العمل الدؤوب الموجه الذي أخذ الحكمة أنى وجدها، ولم يحرم دراسة علوم أعدائه المسلمين، بل انكب على دراستها وشجع على تحصيلها حتى صاروا في بعض جوانبها أوائل.
لقد بحثوا العالم الإسلامي والإسلام من ناحية العقيدة والتاريخ والثقافة والجغرافية والاقتصاد والعلوم الطبيعية والفلسفة، وسخروا ذلك كله لخدمة أهدافهم حتى وصلوا إلى ما هم عليه ووصلنا إلى ما نحن عليه، ولا أريد أن أقلل من قدر جهود علمائنا وسلفنا الصالح في كل العصور، جزاهم الله عنا خير الجزاء، ولكن تلك الجهود وخاصة في العصر الحاضر ظلت جهودا فردية أو محدودة فظل أثرها كذلك محدودا.

معرفة الواقع:
إن الحضارات كما هو معروف للجميع، لا تبنى فجأة بفعل سبب أو ظروف عارضة، كما أنها لا تبنى على اتهامات الأعداء، ولا على التنبيه إلى خطورة هذا الاتجاه أو ذلك، وكما لا يكفينا أن نندب حظنا في تلك الآونة، لا يكفينا أن نعيش على ذكرى ماضينا العريق، وكما لا يكفى التنبيه إلى خطورة الاستشراق والمستشرقين والنصارى والمنصرين، لا يكفي لعنهم وسبهم على كل منبر، لأن الحضارة الغازية لا تقاوم إلا بحضارة أقوى منها.
علينا أن نبدأ بمعرفة واقعنا والاعتراف به وتحديد إمكاناتنا بهدوء وتواضع.
علينا أن نبحث عن مخرج من موقفنا الضعيف إلى موقع قوي مؤثر، ولا يمكن ذلك إلا بدراسة علمية هادفة لما عليه أعداؤنا ولا حرج أن نتعلم تجاربهم ومناهجهم ونأخذ منها ما ينفعنا ونترك ما عدا ذلك، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
أن أفضل وسيلة لتحقيق ذلك في رأيي هي غنشاء قسم علمي بجامعتنا يعنى بالعلوم الغربية ف يشتى المجالات وخاصة الاجتماعية والعصرية، واقتراح تسميته "الاستغراب" في مقابل "الاستشراق"، الذي يعنى بطلب العلوم الشرقية. ولا يعنى طلب علوم الغرب تبنيها، ولكن الإفادة من صالحها وبيان فساد طالحها وفهم العقلية والخلفية الفكرية للفكر الغربي، وينبغي أن يعمل في هذا القسم العلمي من يجيدون لغة غربية، وتتلخص أهم نقاط البحث فيما يلي:
·       دراسة العقائد الغربية دراسة علمية موضوعية بعيدة عن الحماسة والعاطفة.
·       دراسة علوم الغرب بكل فروعها الدينية، والاجتماعية، والعلمية البحتة.
·       دراسة الشخصية الغربية من حيث مكوناتها وبنائها النفسي والاجتماعي.
واقتراح تقسيم هذا المشروع إلى ثلاث مراحل، أولاها مرحلة الجمع والترجمة التي تقوم على جمع نماذج من المؤلفات القديمة والحديثة في كل فرع من فروع العلوم المختلفة وترجمتها إلى اللغة العربية وتوزيع هذه المؤلفات المترجمة على أساتذة متخصصين في كل مجال على حدة لدراستها والتعليق أو الرد عليها، وترجمة هذه الدراسات التي قام بها العلماء المسلمون إلى اللغات الحية الأجنبية الأكثر انتشاراً في مرحلة لاحقة.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الدراسة والبحث العلمي التي نتناول فيها ما يكتبه علماء النفس والاجتماع والدين حول علاقة الدين بالدولة وآثار ذلك على الشباب وعلاقته بمجتمعه وآثاره على النظام الاجتماعي في الغرب بصفة عامة.
ودراسة الأناجيل وتاريخ نشأتها وتطورها لمعرفة مصادر التأثير الغربية عنها (تحريفها) واكتشاف مواقع تناقضها وقصورها أو اتفاقها مع التصور الإسلامي. ودراسة الديانات الجديدة التي ظهرت مؤخرا ولاقت رواجا بين شباب الغرب مثل (باجوان)، (كريشنا)، (المرمون)، (شهود يهوه)، وما شابه ذلك من تيارات فكرية جديدة. ودراسة التاريخ الفكري والاجتماعي، والسياسي والاقتصادي الغربي ومحاولة اكتشاف أثر ذلك في نشأة التيارات الفكرية الحديثة. ودراسة الاستشراق وصورة الإسلام في الإعلام الغربي. ودراسة وضع الأقليات خاصة الإسلامية في المجتمع الغربي.
ويمكن أن يتناول الدراسون والباحثون في مجال الدراسات العليا الديانتين: اليهودية والمسيحية، ونشأة الكنيسة وأنظمتها وتطورها والاستشراق. نشأته، أهدافه، وتقويم إنتاجه من منظور إسلامي معتدل. كما يتناولون دراسة المذاهب الدينية والفكرية في الغرب والمادية والديانات غير السماوية في أوروبا وأمريكا (وآسيا وأفريقيا).
بالإضافة إلى دراسة التاريخ والنظم السياسية والاجتماعية في أوروبا الشرقية (الاشتراكية)، أوروبا الغربية (الرأسمالية) الولايات المتحدة الأمريكية (الذرائعية: البرجماتية)، دول أمريكا الجنوبية (اللاتينية)، دول آسيا وأفريقيا غير الإسلامية.
وأخيرا دراسة الاحتكاكات الثقافية بين المسلمين وغيرهم وعلاقتهم بالثقافة اليونانية والثقافية الهيلينية والثقافة الهندية والفارسية والثقافة الغربية في العصور الوسطى والحديثة، والمعاصرة، ومشكلة التأثر والتأثير بين الإسلام وتلك الثقافات.
وهذا المشروع – في حال تنفيذه – يهدف إلى تحيق ما يلي:
-      دارسة النصرانية وتاريخ الكنيسة تكشف الثغرات التي يمكن أننرد عليها، ونستفيد بها في مقاومة التنصير، وبصفة خاصة دراسة ما يكتبه الناقدون للكنيسة من النصارى.
-      بحث الأوضاع الاجتماعية في تلك المجتمعات وخاصة أوضاع الشباب، يضع أمام شبابنا صورة واقعية لما أحدثته العصرانية (العلمانية) من آثار سيئة أدت بهم إلى الهروب من الواقع إلى عالم آخر عن طريق المخدرات والمسكرات، أو الانتحار في كثير من الأحيان.
-      دراسة التاريخ السياسي، والاجتماعي والفكري لتلك المجتمعات يفيدنا في معرفة جوانب إيجابية وأخرى سلبية يمكننا الاستفادة من إيجابياتها وتجنب سلبياتها.
-  دراسة الديانات الأخرى غير السماوية القديم مناه والجديد وأسباب ظهورها ومدى انتشارها ينبهنا إلى ما يمكن أن تؤدى إليه النظم الوضعية من تشتت وتيه عقدي وفكري ونفسي لأفراد المجتمع، وكذلك تضع أيدينا على ما يحتاجه الخارج عن الكنيسة والباحث عن دين آخر، فنوضحه ونعرضه من خللا التصور الإسلامي الأصيل ليكون بديلا مقنعاً.
-   دراسة أساليب التنصير الحديث وركائزه ووسائله يمكن أن يفيدنا في مقاومته، وكذلك في الآخذ بالصالح منها للدعوة الإسلامية في الداخل والخارج.
-   دراسة ما يكتبه المستشرقون وما تبثه وسائل الإعلام المعادية ضد الإسلام ينبهنا إلى الحجج والشبه الجديدة ويكشف عن الثغرت الموجودة في مجال البحث في الفكر الإسلامي فتبحث وتوضع في خدمة الدعوة إلى الله.
لعلنا بذلك نستطيع أن نصل إلى ما وصلوا إليه من تقدم علمي ونتخطاهم في ذلك ونصحح صورة الإسلام عندهم وعندنا، وأن نعطى أبناءنا صورة واضحة مقنعة لما عليه الغرب في واقعه المعاش وفي حقيقته، وتبدد بذلك الصورة المثالية الخيالية المرسومة في أذهان كثير من أبنائنا المنبهرين بمظاهر التقدم التقني في الغرب والواقعين تحت تأثير الفكر العصراني (العلماني)، وتلك الدراسات العلمية هي خير رد على أصحاب ومروجي الفكر التغريبي وأقوى أساس لتمكيننا من التحدي الحضاري والأخذ بزمام المبادرة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية