لمصلحة من تشويه صورة العربي والمسلم في إعلامهم ؟ للدكتور عبد القادر طاش رحمه الله


تواصل برمج الأخبار التلفزيونية إذاعة أسطورة الحقد العفوي والمتأصل لدى المسلمين على كل الشعوب "المتحضرة"، خصوصاً الأمريكيين والإسرائيليين.
وفي الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عرض برنامج "آي أون أميركا" (عين على أميركا) من شبكة "سي بي أس – تي في" حلقة قدمها الصحافي ستيفن أمر سن عن الإسلام كخطر سياسي محدق وليس كدين. وادعى البرنامج أن الأموال التي يجمعها العرب والمسلمون في الولايات المتحدة هي من أجل "الحرب المقدسة" في أميركا وأيضاً في الشرق الأوسط.
وفي 13 من الشهر نفسه رأينا الصحافي أمرسن نفسه على برنامج "60 دقيقة" الذي تقدمه شبكة "سي بي اس – تي في" وهو يطرح رسالة البغضاء المضللة هذه على مقدم البرنامج مايك والاس والمشاهدين. ومن الأمثلة عرض صفحة من كتاب بالعربية، قال المذيع أنها تحتوي على تهديدات من المسلمين لأهداف في الولايات المتحدة، لكن الواقع أن الصفحة كانت تحتوي على عدد من آيات القرآن لاكريم والحديث الشريف.
وفي 21 من الشهر اياه عاد أمر سن إلى الواجهة، وذلك في شبكة "بي بي اس" (نظام التلفزيون العام) حيث قدم برنامجا باسم "الجهاد في أميركا"، وهو شريط وثائقي اختيرت صوره بعنايه لتعطي العرب والمسلمين صورة "الآخر المعادي". ورغم أن أمرسون يقول أن لا علاقة للغالبية الساحقة من العرب والمسلمين في الولايات المتحدة بالنشاطات الراديكالية، فإن صورة "المسلم القبيح" التي يذيعها تناقض في شكل صارخ انكاراته الضعيفة هذه وأخطاءه الفاضحة في المعلومات. وبدل أن يترجم كلمة "الجهاد" بما تعنيه حرفيا يركز على معنى "الحرب المقدسة". كما يجتزئ تصريحات من جهات إسلامية عن سياقها الحقيقي لإعطائها المعنى السليب المطلوب. من ذلك تصريح من شخصية أفغانية نسمعها نقول أن على المؤمنين بـ"دين الله... الاستعداد للشهادة، وأن على الدماء أن تسيل وأن يكون هناك أرامل وأيتام". وتوحي طريقة استعمال التصريح بأنه دعوة لمهاجمة غير المسلمين.
إلا أن الحقيقة أن التصريح جاء أثناء الحرب في أفغانستان وهو دعوة إلى المسلمين للاستعداد للتضحية لتحرير البلاد من النظام المدعوم من قبل السوفيات. ولو كان قدم في سياقه الحقيقي لبدأ مشابها لقول ونستن تشرتشل للبريطانيين أن ليس لديه ما يقدمه لهم سوى "الدماء والعرق والدموع" في الدفاع عن بلادهم ضد ألمانيا النازية.
وفي برنامج "الجهاد" يرتكب أمرسون الخطايا بنوعيها، أي خطايا الفعل والامتناع، وللتحريفات والوصفات الجاهزة التي يقدمها تأثير عميق ودائم. وكان بإمكان شبكة "بي بي اس" تلافي الأخطاء التي حفل بها برنامج "الجهاد" لو كان المسؤولون استشاروا شخصيات إسلامية قبل العرض. إلا أن الشبكة للأسف رفضت لقاء وفد من العلماء المسلمين، واعتبرت أن اللقاء سيكون "غير مثمر".
يتعرض الأميركيون لاعرب منذ نسف "مركز التجارة الدولي" في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 1993 إلى موجة من الاضطهاد والتشهير. وفي مدينة رالي تعرض أحدهم لهجود لدى وجوده في مطعم، وكان المهاجم يصرخ: "أنا أحقد على المسلمين". وفي نيويورك أقدم شرطي المرور محمود تامر على الانتحار بسبب الإهانات العنصرية التي كان يتعرض لها.
وأخيراً، في أيلول (سبتمبر) الماضي، أحرق مجهولون مسجد مدينة يوبا في ولاية كاليفورنيا، الذي كلف بناؤه مليون دولار. وحاول مجرمون خلال تشرين الأول الماضي إشعال النار في مسجد بروكلين في نيويورك.
إننا نعرف تماما أن هناك أفراد من العرب والإيطاليين والإيرانيين والأيرلنديين واليهود وغيرهم ممن يدعون إلى البغضاء ويمولون الإرهاب. لكنهم أقلية صغيرة.
ويسود في وسائل الإعلام الأميريكية معيار مزدوج، إذ لا يجرؤ الصحافيون على القول أن المسيحية ديانة "إرهابية" بسبب أعمال منظمة "كوكلوكس"، التي ترفع الصلبان المشتعلة وتدعوا إلى العنف ضد السود واليهود. وبالطبع لا يصح نعت المسيحية بالإرهاب بسبب هؤلاء. لكن إذا كانت هذه هي الحال لماذا يصف الصحافيون المسلمين بأنهم من المتطرفين دعاة العنف ؟
لاشك أن أقوال أمرسون تصح على البعض من العرب والمسلمين الذين يرشحون بالحقد ويدعون إلى العنف. وهناك البعض من المسلمين المتطرفين في الولايات المتحدة. إلا أن ذلك لا يبرر لامرسون إدانة الإسلام بأسره بسبب جرائم هذه القلة.
ويقول أمرسون أن "الهجمات مستقبلا" من "المسلمين الراديكاليين" في الولايات المتحدة "قادمة بالتأكيد". لكنه لا يقدم أدلة تدعم الادعاء. إضافة إلى ذلك يقول أنه "اكتشف أكثر من ثلاثين مجموعة تمول الناشطين الراديكاليين المسلمين"، ولا يذكر إلا عددا قليلا.فاتهامات كهذه يجب أن تكون محددة أكثر، وأن تقدم أسماء المجموعات المعنية وعدد أعضائها وأماكن عملها. وفي غياب هذه المعلومات يفقد البرنامج صدقيته، ويلطخ سمعة كل الجاليات العربية المسلمة بهذه الاتهامات المسمومة.
إن برامج مثل "الجهاد" تحمل الخطر، لأنها توزع الذعر في قلوب المشاهدين وتنمي مشاعر الكراهية لديهم عن طريق التركيز على الصورة الشائعة عن العرب والمسلمين. وتشجع هذه الصورة المسمومة الأميركيين على الاعتقاد بأن كل المسلمين في الولايات المتحدة، وما لديهم من منظمات خيرية وأكاديمية، منهمكون في "غسل المال" لصالح "الحرب المقدسة" في الشرق الأوسط وبالتالي فإن المواطن الأميركي العادي، عندما يرى إعلانا عن مؤسسة خيرية إسلامية، أو عندما يمر قرب جامع، لابد له أن يتساءل إذا ماكان المسلمون يجمعون المال لأعمال الخير فعلا أو أن وجودهم في الجامع يقتصر على الصلاة.
وعندما يتم تحويل أقوام بأكملهم إلى "الآخر الحضاري" يصبح ممكنا ما كان يصعب تخيله سابقا. ومن المتحمل أن بعض المسلمين المسالمين المخلصين في حبهم واحترامهم للولايات المتحدة سيتعرضون، بسبب برنامج مثل "الجهاد"، للاتهامات البشعة والاعتداءات التي يدفعها الحقد.
ما يحيريني هو السبب في اختيار شبكة تلفزيونية راقية مثل "بي بي اس" الدفاع عن برنامج "الجهاد". لماذا أيدت الشبكة هذه الوصفة المفتعلة التي تطابق بين الإسلام والتطرف ؟ فهذا البرنامج يتلاءم مع شبكات التلفزيون المبتذلة وليس مع شبكة "بي بي اس" الموجهة إلى المستمع الراقي المفكر، فيما الأعيتيب أمرسن تصلح أكثر لبرامج مثل "هارد كوبي" و"انسايد ايديشن".
من الواجب، عند أنتاج البرامج الوثائقية، مراعاة دواعي العقل والمصلحة، ولا مصالحة لأحد عندما تجري إدانة أقوام بكاملها. إذ أن ما يؤذي مجموعة ما يؤذي الجميع. و"بي بي اس" بالتالي شبكة عامة وليست تجارية، يمولها جزئيا دافع الضرائب. ومهمتها، باعتبارها محطة تلفزيون لعموم أميركا، فضح الأكاذيب والقاء الضوء على الواقع.
والإسلام يتعرض في أميركا منذ فترة طويلة تسبق هذا البرنامج لسوء الفهم والإدانة، إلى درجة أن الكثير من الأميركيين يعتقدون أنه دين وحشي ينمي روح التعصب والجهل. والمؤسف أن هذه الصورة القديمة عن المسلمين تتعايش اليوم مع الصورة الجديدة التي تضارعها سلبية. ففي 1916كتب الروائي الشعبي جون بوكان في قصته "غرينمانتل" أن "الإسلام دين قتالي ولا يزال رجل الدين يقف على المنبر حاملا القرآن بيد وسيفا مسلطا باليد الأخرى".
وبعد عقود نجد، في 1991، على غلاف مجلة "ناشنال ريفيو" التي يرأس تحريرها وليام بكلي صورة الأعراب أرثاث الهيئة يغيرون على الجمال باتجاه القارئ، مع التعليق تحتها: "المسلمون قادمون ! المسلون قادمون !".
وكان هناك هذه السنة فيلم "أكاذيب حقيقية" الذي كلف إنتاجه أكثر من مئة مليون دولار، والذي يقدم الممثل ارنولد شوارتزينيغر وهو يردي بالرصاص العشرات من "الارهابيين" المسلمين العرب الذين يريدون تفجير قنبلة نووية على سواحل فلوريدا.
وتمتلئ وسائل الإعلام الغربية بالأوهام والافتراءات المؤذية عن العرب والمسلمين. وتكفي عناوين بعض الأفلام الوثائقية للدلالة على محتوياتها: "القنبلة الإسلامية"، "سيف الإسلام"، "الإسلام المتهلب"، "خنجر الإسلام"، "نار الإسلام" الخ. وكذلك عناوين مقالات في المجلات والصحف مثل: "جذور الغضب الإسلامي"، "قنبلة الإسلام الموقوتة"، "الصين أيضاً قلقة من الإسلام".
إنني أشعر بقلق من المستقبل. وما لم يلتزم صحافيون ومنتجو برامج أميركيون بمكافحة هذه الصورة المهينة فإنها سيتفاقهم ويتزايد تأثيرها السلبي على الرأسي العام ومن ثم السياسة الخارجية.
ويتقبل معظم الأميركيين، مهمة كانت درجة ثقافتهم وسوءا كانوا من الليبراليين أم المحافظين، هذه الصورة السلبية عن العرب والمسلمين. والسبب في تقلبهم هو الجهل، الذي ينمي دوما روح التعصب ضد الآخر وينتشر على المستويات كافة في مجتمعنا.
والتصورات السلبية هذه عن الأقوام لا تبقى في فراغ. ويعلمنا التاريخ أن للصور المهينة للسود أو سكان أميركا الأصليين أو الآسيويين أو اليهود، التي تسهم بالسادية والهمجية، تأثيرها القوي. فقد منعت هذه الصور السود من الحصول على حقوقهم المدنية، وأدامت أسطورة "الهندي الأحمر" المتوحش في الوف الأفلام من هوليوود، وسمحت بوضع أكثر من مئة ألف أميركي من أصل ياباني في معسكرات الاعتقال خلال الحرب الثانية. وأخيراً فإن أجهزة الدعاية النازية في ألمانيا ساهمت في كارثة الهولوكست عندما صورت اليهود مخلوقات شيطانية جشعة وشهوانية همها غواية النساء الآريات.
أما الخطورات التي يمكن أن يقوم بها الناس الذين يتحلون بروح المسؤولية ضد هذا التزييف فيمكن تلخيصاه بكلمة واحدة هي "أزمة". وللكلمة في اللغة الصينية معنيان: الخطر والفرصة. من هنا فإن برامج وحلقات تلفزيونية مثل "60 دقيقة" و"آي أو أن أميركا" و"الجهاد" تمثل خطر استمرار الصورة السلبية عن المسلمين والعرب. إلا أنها توفر للصحافيين المتمسكين بالمبادئ فرصة التعرف على هذا الكاريكاتور السلبي وإعادة النظر فيه.
وقد ظهرت صور سلبية من هذا النوع عن العرب والمسلمين في نشرة أخبار الساعة العاشرة مساء على تلفزيون "كي ام أو يف – تي في" في مدينة سانت لوي. وقدمت الإذاعة تقريرا منحازا بعنوان "الإرهاب والمال" يصور المسلمين المحليين وكأنهم من مؤيدي الإرهاب. وأحدث التقرير صدمة لـ ج. ديفيد ليفي رئيس مجلس علاقات الجالية اليهودية الذي كتب رسالة إلى مدير قسم الأخبار في الإذاعة قال فيها: "إننا نكره العنف والإرهاب وكل من يؤيدهما، ونكره أيضاً إعطاء صورة كاريكاتورية عن الجاليات" الأخرى. وأضاف "والمؤسف أن هذا ما فعله تقريركم بالنسبة إلى الجالية المسلمة، ونطلب مستقبلاً إبداء التفهم وأن لا تكون هناك إدانة، ضمنية أو معلنة، لجاليات بكاملها". وإذاعت المحطة مباشرة بعد ذلك اعتذار عن البرنامج.
وأثر برنامج "الجهاد" اجتمع كاتب هذه السطور بمسؤول في محطة "كي اي تي سي – تي في" في سانت لوي، التابعة لشبكة "بي بي اس"، وأبدى المسؤول اهتماما بالموضوع، وتعهد إذاعة برنامج من ثلاث حلقات من نصف ساعة لكل منها في كانون الثاني (يانير) تركز على الإسلام. وتظهر واحدة من الحلقات القيادات الدينية في المدينة وهي تؤكد على أهمية إبراز المسلمين بأنهم أخوان في الإنسانية، بكل ما يعنيه ذلك من إيجابيات وسلبيات. وتدحض حلقة أخرى الأوهام عن الإسلام، مبينة أن المطامح الإنسانية للمسلمين لا تتناقض مع تلك التي يحملها المسيحيون أو اليهود، وأن الديانات الثاثل تشترك في عبادة الله، وأن الإسلام على وجه الخصوص يعقد بنبوة موسى والسيد المسيح. وتشجع الحلقة الثالثة على تقويةالروابط بين الأقوام والأديان، سواء كانوا من المسيحيين أو اليهود أو المسلمين أو الهندوس.
إن على شبكة "بي بي اس" السير على خطى "كي اي تي سي – تي في" عن طريق تغذية المحطات المئتين المنتمية إليها ببرامج تنير المدارك بدل تحريفها وتعتيمها. فهناك في الولايات المتحدة من ستة ملايين إلى ثمانية ملايين مسلم، وفي نهاية القرن سيشكل المسلمون نحو 27 في المئة من سكان العالم. ويجهل كثيرون أن الكثير من المسلمين يعملون على بناء جسور لتحسين التفاهم بين العرب والإسرائيليين، والعرب والأميركيين.
وكما قال حامل جائزة نوبل ايلي فيزيل: "هناك الأخيار والأشرار في كل مجموعة إنسانية، وليس هناك مجموعة إنسانية أفضل من غيرها، ولا ديانة أقل رفعة من غيرها".


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية