التفاعل بين الملاحق الثقافية في صحفنا(*)

 

     لو كنت في بلد عربي شقيق وبحثت عن كتاب نشر في المملكة، فإنك لا تكاد تجده بل أكاد أجزم أنك لن تجده. قد يقول لك تجار الكتب أو الناشرون إن الكتاب السعودي يكلف كثيراً في طباعته ولذلك لا يحقق الهدف التجاري من النشر، هذه المشكلة جذورها عميقة، ولا يمكن حلها في هذه العجالة ولكني أردتها مدخلاً لقضية أخرى وهي أنه يصدر في هذا البلد أربعة ملاحق أدبية ثقافية فكرية أو أكثر، فما العلاقة بين هذه الملاحق؟ إنك لا تكاد تجد أية علاقة بينها، وكأنها لا تصدر في بلد واحد.

    وقد آليت على نفسي أن أحاول –أقول أحاول-كسر الجليد كما يقولون بين هذه الملاحق؛ وذلك بتقديم قراءة اختيارية لبعض ما قرأت خلال الأسبوعين الماضيين، وأعرف أنني –بهذه القراءة- لا أمثل إلاّ نفسي.

 

فمن الملاحق التي اطلعت عليها "ثقافة اليوم" في الرياض و" الملحق الثقافي" بجريدة عكاظ، ولعل هذه القراءة تكون بداية لتبادل المقالات بين الملاحق الأدبية الثقافية، فما المانع أن يختار ملحق "ثقافة اليوم" بجريدة الرياض مقالة عن ملحق "ألوان من التراث" من جريدة المدينة المنورة، وتفعل المدينة الشيء نفسه، وهكذا بقية الملاحق، وما المانع أن تستكتب الرياض أحد كتاب جريدة المدينة وبالعكس؟

   وفيما يأتي القراءة المختارة- وأسأل الله عز وجل أن يهدينا إلى الصواب ويجنبنا الزلل.

ملحق الثقافة في عكاظ في 4 محرم 1412هـ

  أولاً: أعجبتني زاوية "نافذة على العالم" التي يستضيف فيها المحرر أحد الملحقين الثقافيين الأجانب أو القناصل في المملكة، وهي وإن كانت قصيرة لكنها تشير إلى أن هؤلاء المسؤولين حريصون على دراسة المجتمعات التي يعملون فيها دراسة جادة من خلال التعرف على الأوضاع الفكرية والثقافية والاجتماعية للبلد المضيف. وإني بدوري أهدي هذه الزاوية إلى الملحقين الثقافيين العرب المسلمين الذين يعملون في البلاد الأجنبية ليؤدوا مهمتهم ويدركوا المسؤولية المنوطة بهم.

ثانياً: نسيم صمادي يستأنف الكتابة في عكاظ بناء على طلب من رئيس التحرير، وأقول جميل أن يهتم رئيس التحرير بكاتب أي كاتب، فهذا مفيد في معرفة ميوله، وهذا الكاتب ليس غريباً عن الساحة الصحافية في المملكة، فقد كتب –حسب قوله- يدافع عن جائزة نوبل ونزاهتها، و عن عبقرية نجيب محفوظ الروائية، وغير ذلك من الموضوعات. ولكن جائزة نوبل وجدت من يعترض عليها وعلى نزاهتها في أوروبا، فهل إذا أعطيت لعربي أصبحت نزيهة؟

ثالثاً: قدمت عكاظ نبذة عن كتاب نعوم تشومسكي عن "اللغة ومشكلات المعرفة" الذي ترجمه د. حمزة المزيني، فشكراً للمحرر على هذه الفرصة لمعرفة كيف يفكر الغرب؟ وكيف يهتم بعض المسلمين بنقل علوم الغرب وفكره إلى لغتنا. وهو جهد طيب للمترجم. ولكن لم أتمالك نفسي من تذكر المثل القائل "مزمار الحي لا يطرب" وكانّ عكاظ قد فرغت من عرض الكتب التي صدرت في المملكة أو العالم العربي حتى تأتينا بما صدر عن توبقال وما أدراك ما هي؟ ويبدو لي – والله أعلم- أن الكتب التي تعرض لا بد أن تكون لمن يتصل بصلة بتوجهات معينة، وصحيح أن مثالاً واحداً لا يكفي للتعميم، ولكن هل يثبتون غير ذلك؟

رابعاً: جريدة مثل عكاظ وبعمرها الزمني لا بد تعرف شروط التحقيق الصحفي فهل تحقيقها (بيان صارخ من المؤلفين: الناشرون يمتصون دماءنا) يستحق أن يطلق عليه تحقيقاً؟ وهل مثل هذا الموضوع يطرح بهذه الكيفية؟

  يبدو لي أن موضوعاً شائكاً معقداً مثل هذا لا يكفيه عمودان فقط. وكان ينبغي طرح الموضوع على عدد أكبر من المؤلفين ومن الناشرين ومقابلة أقوال كل طرف مع الطرف الآخر مما يمكن معه التوصل إلى استنتاجات معقولة. ولكن هذا التحقيق اقتصر على داري نشر وعلى ثلاثة مؤلفين أو أربعه فهل هؤلاء أو أولئك يمثلون الناشرين والمؤلفين؟ لا شك أن الناشرين عموماً متهمون –إلاّ من رحم الله، ولكن الموضوعية والعدل يقتضيان معالجة أوسع، والموضوع يستحق الجهد والاهتمام.

ملحق الثقافة عكاظ في 11 محرم 1412هـ

     أعجبتني المقابلة مع فهد الخليوي الذي سئل عن الأصوات المطروحة في الساحة الأدبية فقال: "نعم أعرف ذلك، ولكن ليس لدينا مبدع مثل نجيب محفوظ أو ديستوفسكي مثلاً، فمعظم كتاباتنا تأتي باردة، هات لي مجموعة قصصية مبدعة مؤثرة؛ إنك ستجد أنها كلها طلاسم، ما أؤكد عليه أن يكون الجو مهيأ في حالة الكتابة لكي تأتي الكتابة صادقة ومؤثرة يجب أن يتاح الجو الذي يبدع فيه الكاتب، ويجب أن يكون ثمة متسع للرأي والرأي الآخر. حرية الكاتب جزء من الإنسان..

     هذه العبارات لا تحتاج إلى تعليق طويل فيكفي أن نتذكر أن التاريخ لم يعرف أمة اتسع صدرها للرأي والرأي الآخر من الأمة الإسلامية، إنها لم تغضب في يوم الأيام لشخص من الأشخاص إلاّ من ظلم، ظهر في هذه الأمة الخوارج والشيعة وغيرهم، وقال كل منهم رأيه وأقيمت المناظرات هنا وهناك، ولم تقف الدولة الإسلامية إلاّ في وجه الذين أعلنوا كفرهم وإلحادهم. وقد تمثلت حرية الرأي في هذا التراث الضخم من الكتابات في شتى فروع المعرفة. أما رأي الخليوي بأنه ليس عندنا مبدعون مثل نجيب محفوظ أو ديستوفسكي فهو رأي قابل للنقاش، في الأمة مبدعون أعلى مستوى من هذين من الناحية الفنية والفكرية وقد نال هؤلاء من الإهمال ما نال أولئك من الاهتمام.

-         اللقاء مع نائب القنصل الأمريكي للشؤون الثقافية والإعلامية آرثر إيكل Arthur Eccel، (*) تناول القنصل في هذا اللقاء الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات الأمريكية وقد ورد في حديث القنصل عبارات مثل: الدور العربي، العلوم العربية، العلماء العرب، الأدب العربي، والأدباء العرب، فإن كان هذا الاستخدام عن حسن نية فلا بأس، وإلاّ فالحضارة إسلامية، واللسان عربي، وقد أسهم غير العرب في هذه الحضارة.

ثقافة اليوم الرياض 7 محرم 1412هـ

       اقترح الدكتور الغذامي على نادي الرياض الأدبي أن يتبنى موضوع التأريخ للأدب العربي، لأنه–في رأيه- لم يؤرخ للأدب العربي سوى بروكلمان وسيزكين، ولا أدري لماذا نسي الغذامي مرجليوت ورجيس بلاشير وهاملتون جب، أما العرب المسلمون الذين كتبوا تاريخ الأدب العربي مثل محمد صادق الرافعي وشوقي ضيف، وعمر فروخ فمن باب أولى أن ينساهم الدكتور إذ لا يعترف بهم.

     وثمة نقطة أخرى في مقالته وهي حضه أبناء الجزيرة على تحمل مسؤولياتهم في هذا المجال مفتخراً ببوادي الجزيرة التي كان يفد إليها من أراد تعلم الفصاحة.

      وأقول له يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: (لقد أذهب الله عنكم نخوة الجاهلية والتفاخر بالآباء) فالأدب العربي مسؤولية كل مسلم يتقن العربية من إندونيسيا حتى ألاسكا بأمريكا الشمالية، ولا داعي للفخر بالبوادي التي كانت تعلم الفصاحة، فقد كان ذلك منذ قرون موغلة في القدم، ولقد أصابنا من العجمة ما أصاب غيرنا، إن لم يكن ما أصابنا أشد من غيرنا لكثرة اختلاطنا بالأعاجم، كما أن الجامعات الغربية التي درس فيها معظم من يتزعمون تيار الحداثة تسهم ليس في العجمة اللسانية بل والفكرية أيضاً.

-      الملحق والشعر الحديث.

    استضاف الملحق عدداً من الأدباء ليقولوا رأيهم في الشعر الحديث أو القصيدة الحديثة، واطمأننت مع الغذامي (الذي يظهر للمرة الثانية في هذا العدد) الذي يقول "إن جيد الشعر هو الذي سيبقى، ويضمحل رديئه" ولكن هذا القول كـأنّه مسكن غير مأمون. لأن رديء الشعر هو الذي ينال أوفر حظ من النشر والاهتمام بينما يضيّق الخناق على الشعر الجيد.

     وأدلى الدكتور سعد البازعي بدلوه فكان مما قاله: "فالمبدع يجب أن ينبع من ذاته أو من هوية عربية إسلامية يستشعرها هوية في نهاية الأمر ستؤثر فيه." فهل ذات الشاعر مساوية للهوية العربية الإسلامية؟ إن التخيير بحرف العطف "أو" يجلعهما شيئين متساويين، ثم تحدث عن بعض الضوابط للشعر، وهذا –أيضاً- مسكن غير مأمون.

     وتحدث د. ابن حسين، ود. أبو داهش والأستاذ محمد حسين زيدان عن القصيدة الحديثة وكأّن هذه الأصوات محاولة لإقناع الطرف الآخر بأن لهم صوتاً مسموعاً

ولو كانوا صادقين لما ظهرت النصوص الحداثية الآتية في عددي 7 و14 محرم 1412هـ

-               نصوص: منصور الجهني

-               نتف من نسل المصابيح: أحمد العجمي

-               وتنتحر النقوش أحياناً: سعد الحميدين

-               نسيان: لسعيد السريحي

-               تلال من الغروب: بدر الديب.

   وأختم هذه القراءة الودية بما كتبه الدكتور الشنطي: المفسر الكبير للحداثة، نفخر نحن المسلمين بأن عندنا مفسرين قديماً وحديثاً ولكنهم نالوا شرف هذا اللقب الكبير بتفسير كتاب الله عز وجل، أما هذا الدكتور فمتخصص فيما يبدو بتفسير طلاسم ورموز الحداثيين.

وبعد أن قرأت تفسيره لقصيدة منصور الجهني، قلت سبحان الله مقسم الأفهام وهنا تذكرت طرفتين وقصة واقعية.

   إحدى الطرفتين قرأتهما في الصفوف الابتدائية والأخرى قرأتها في كتاب يترجم للشيخ البشير الإبراهيمي- رحمه الله-بقلم عادل نويهض، أما القصة الواقعية فقد عاشها كاتب هذه السطور.

     تقول الطرفة الأولى إن مجنوناً صعد إلى مئذنة مسجد وأخذ يقذف الناس بالحجارة وحاول الناس إقناعه بشتى الوسائل أن يتوقف عمّا يفعل فلم يستجب، وأخيراً جاء شخص يحمل منشاراً ووقف في أسفل المئذنة وصاح به لئن لم تنزل لأنشرن بك المئذنة فخاف المجنون ونزل مسرعاً وهنا قال أحد الحاضرين: "لا يفهم لغة المجانين إلاّ مجنون مثلهم."

      أما الطرفة الثانية فإليكموها كما رواها عادل نويهض قائلاً: "كان الشيخ الإبراهيمي يزور القاهرة فقرأ في بعض صحفها ومجلاتها ما نشرته من أشعار يطلقون عليها "الشعر المنثور" فجزع أشد الجزع وحضر ندوة ألقى فيها بعض هؤلاء المجددين بعض كلامهم، فما كان منه إلاّ أن اعتلى المنبر وقال:" إن اللغة العربية – على سعتها وكثرة مفرداتها ناقصة؛ لأننا لا نجد فيها الكلمة أو الصفة التي يمكن أن نصف بها هؤلاء الشعراء المجددين، إلاّ أن لي من عروبتي وغيرتي على لغتي ما يشفع لي بالاشتقاق فأقول:" إن العرب قد أعطوا للنساء جمعاً ينتهي بألف وتاء، فقالوا مجددات، وسمّوه الجمع المؤنث السالم، وأعطوا للرجال جمعاً ينتهي بواو نون فقالون مجددون وأسموه الجمع المذكر السالم. ولكن هؤلاء المجددين الذين سمعتهم الليلة لا هم بالنساء فيؤنثون، ولا هم بالرجال فيذكّرون، إنهم بين ذلك، لا نجد أي حرج في أن نتبع أئمتنا الأجراء وفقهائنا الأدلاء ونعطي أمثال هؤلاء المجددين ما أعطوه للخنثى أي نصيباً كأنثى وهو ألف وتاء ونصيباً كذكر وهو واو ونون، فنقول " مجددونات، فإن سألتموني ماذا نسمي هذا الجمع فأقول نسميّه جمع المخنث السالم." ( ص 73- 75)

   أما القصة الواقعية فقد حدثت قبل أكثر من عشر سنوات حيث وقفت في يوم من الأيام في صف عند أحد الصرافين في جدة أنتظر استلام الراتب ووقف خلفي شابان وأخذا يتحدثان عن كرة القدم، وتشعب بهما الحديث (وهو حديث ذو شجون) إلى الملابس الرياضية وتكاليفها وإلى الملاعب وإلى العلاج وإلى اكتشاف المواهب والمدربين ومعاملتهم للاعبين فقلت في نفسي سبحان الله كيف وجد هذان كل هذا الكلام عن الكرة فما كنت أظنها إلاّ أقداماً تركل جسماً مدوراً ونظارة تصرخ وحكم يصفر فإذا بها علم غزير. وها أنا أكتشف أن هذه الكلمات المنثورة المتقاطعة تصبح عند الدكتور الشنطي موضوعاً تكتب فيه الصفحات والصفحات.

 





* - قابلت الدكتور إيكل في القنصلية الأمريكية في جدة وعرفت أنه أعد رسالة الدكتوراه في جامعة شيكاغو حول الإصلاحات في الأزهر الشريف منذ القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين، وأنه عاش في مصر بعضاً من الوقت

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية